الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | رشيد بن إبراهيم بو عافية |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
أيّها الإخوةُ في الله: رمضانُ سوقٌ من أسواقِ الآخرةِ في الأرض، والأسواقُ إنّما أُعدّت للتجارةِ والرّبح، وأوّلُ من وصفَ العبادَةَ بالتّجارَةِ ربُّنا -سبحانه- في القرآن الكريم، استنهاضًا للهِمَمِ التي أَلِفت تجاراتِ الدّنيا وصفقاتِها، حتّى تنهضَ في...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، نحمدُهُ -سبحانه- حمدَ الشاكرين الذاكرين، بلّغَنا رمضان، ويسّرَ لنا الصيام والقيام، فله الحمدُ ظاهرًا وباطنًا، في السرّ والإعلان، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أيقنت بها القلوب، ونطقت بها الألسُن، وخضعت لها الجوارِح، ونشهد أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسوله، بلّغَ الرسالةَ وأتمّها، وتركنا على محجّةٍ بيضاءَ نقيّة، لا شرقيّة ولا غربيّة، صلّى عليه اللهُ وآلهِ الطيّبين وصحابتِهِ والتابعين بإحسانٍ وسلّم.
ثم أما بعد:
أيها الإخوةُ في الله: حديثنا اليومَ تحذيرٌ من قطّاع الطرق في رمضان، وهي الآفاتُ التي تعترضُ سبيلَ الصّائمِ، وتقطَعُ لهُ سيرَهُ إلى اللهِ والجنّة، وتسرقُ منه ما هو أعظمُ وأجلُّ من المتاعِ والدّرهمِ والدّينار؛ تسرقُ منه الأوقاتِ والحسناتِ التي هي أساسُ قافلةِ السّيرِ إلى الله والدّار الآخرة.
أيّها الإخوةُ في الله: رمضانُ سوقٌ من أسواقِ الآخرةِ في الأرض، والأسواقُ إنّما أُعدّت للتجارةِ والرّبح، وأوّلُ من وصفَ العبادَةَ بالتّجارَةِ ربُّنا -سبحانه- في القرآن الكريم، استنهاضًا للهِمَمِ التي أَلِفت تجاراتِ الدّنيا وصفقاتِها، حتّى تنهضَ في تجارةِ الآخرة وصفقاتِها، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور)[فاطر: 29].
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الصف: 10-11].
فالإيمان بالله ورسوله والجهادُ في سبيل الله بالمال والنفس هي الثمنُ العاجِل، والمغفرةُ ودخول الجنّات والمساكنِ الطيبّة هي السّلعُ الموعودةُ العاجلة، وأكرِم بها من تجارة.
معشر المؤمنين: آفاتٌ تفسدُ التّجارة في رمضان، وتقطعُ على الصّائمِ فرصَةَ الرّبح، وتقعدُ به عن المنافسة، بل وتسرقُ منه الثمنَ الذي يسومُ، ويشتري به البضائعَ المعروضَةَ في سوق رمضان:
على رأسِ هذه الآفات " التلفاز ": التلفازُ في رمضان سوقٌ من أسواقِ أهلِ الدّنيا الرائِجة، ولكنّها سوقٌ فاسدةٌ كاسدة، تبيعُ السمومَ وتعرِضُ الأوهام، تغتالُ الأنفاسَ والساعات، وتذهبُ ببرَكَةِ الأوقات، التلفازُ في رمضان أفسدَ على النّاسِ نهارَهم فشغلَهم عن التّجارَةِ الباقيَة التي لن تبُور؛ تلاوةِ القرآن وغرسِ الأشجارِ في الجنّة، وأفسدَ عليهم ليلَهم بالسّهراتِ الماجِنَة، والتمثيليّات الهابِطة فشغلَهم عن دقائقِ الليل الغالية وما فيها من لذّة التعبّد والتهجّد.
حَقٌّ على الأسرةِ التي تُحبُّ الناصحين، وتبتغي اللهَ والدّار الآخرة أن تودّعَ التلفازَ من هلالِ رمضان إلى هلالِ شوّال، حتّى تشتغل بما هو أعظمُ وأجلُّ في سوقٍ أيّامُها معدودة، وسِلعُها غاليةٌ لن تبور.
ومن الآفات التي تقطعُ طريقَ المسافرِ في رمضان: "النوم": ولسنا نعني به النومَ المعتدِلَ الذي يتقوّى به المسلمُ على الصّحوةِ والسّير؛ إنّما نعني بهِ النّومَ الثقيلَ الطويل، الذي يقتلُ الصّحوةَ، ويغتالُ المقصودَ من رمضان، وتذهبُ به الأعمارُ هباءً منثورًا.
المقصودُ من الصيامِ -معشر المؤمنين- المجاهدةُ والمكابَدة، والنومُ يُفرغُ رمضانَ من هذا المقصَدِ الجليلِ ويقتُلُ فيهِ هذا المعنى، وكم من صائمٍ يفِرُّ من المواجهةِ والمكابدة بالنّوم، ولا يذكُرُ من رمضانَ إلاَّ وقتَ السُّحورِ والفُطور! فأينَ هي المجاهدة، وأين هي حقيقةُ الصومِ في صومِه؟!
ومن الآفاتِ التي تقطعُ الطريقَ في رمضان: "السّهَر": وقد نهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المسلمَ عن السّهرِ بعد صلاةِ العِشاءِ إلاّ فيما لابُدّ منه إصلاحِ دينٍ أو دنيا: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما نام رسول الله قبل العِشاء ولا سَمَرَ بعدها " [صحيح: سنن ابن ماجه 702].
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "جَدَبَ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السَّمَرَ بعد العشاء " يعني زجرنا.
النّاسُ للأسف يقتلون مقصودَ النّهار بالنوم، ويغتالون مقصودَ الليل بالسّهر، فمتى يصلُ إلى اللهِ -جلّ جلالُه- من هذا سيرُه وحالُه؟!
نسأل اللهَ التوفيق إلى ما يحب ويرضَى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيمَ لي ولكم من كل ذنب، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
ومن هذه الآفات أيضًا: "كثرةُ الأكل والطعام": فإنّ المقصودَ بالصيامِ شرعًا وعقلاً: تقويَةُ معاني الرّوحِ في الإنسان، تخفيفُ ضغطِ الطينِ على الرّوح، إراحةُ المعِدَة لترتاحَ الروح، تربيةُ الإرادةِ والتحكُّمُ في الشّهوات، فإذا كان العبدُ يعملُ في رمضانَ على عكسِ المقصودِ، فقد مكّنَ للجسَدِ على حساب الرّوح، واستحكمت عليه الشّهواتُ أكثر، وبالتالي بارَت تجارتُه، وخَسِرَ الصّفقةَ، في سوقِ السّبقِ والمنافسَة.
أيها الإخوةُ في الله: ومن شرّ الآفات قضاءً على المقصود من الصيام إطلاق اللّسان: في الغيبة والنميمة، والكذب والزور، والسّباب والخصام، والقيل والقال، وفي أعراض المسلمين، كل هذا عنوانٌ على شقاء النفس، وفقدان استقامة الدين، وعدم كمال الإيمان، وهو يعرّض بذلك صيامه للفساد والبطلان في المعنى، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من لم يَدَع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"[صحيح: سنن أبي داود 2362].
فاحفظوا ألسنتَكُم خاصّة في أزمنة الفتن والاشتباه، فإنّ أمورًا عصم الله منها أيديكم حقٌّ عليكم أن تحفظوا عنها ألسنتكم، وإنَّ أطول الناس شقاءً وأعظمَهم بلاءً من ابتُلي بلسان منطلق زمان الفتن، وإنَّ حفظَ المرءِ لسانَهُ خاصَّةً في الأعراض، وأزمنة الفتن؛، عنوانُ أدبه، وقوَّةِ دينِهِ وتميُّزِهِ وزكاءِ نفسه، فإنَّ من تمَّ دينُهُ وعقلُهُ نقُصَ كلامُهُ وكثرُ استغفارُهُ واشتغالهُ بنفسِهِ وعيوبِها.
فاحذروا هذه القواطع -معشر المؤمنين- فإنَّها تذهب بالمقصود من الصيام.
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
اللهم إنا نسألك بأنّك أنت الله الذي لا إله إلا هو، الخالق المالك المتصرف، الأمر أمرك، ولا يُهزَم جندُك، ولا إله غيرك، اللهم اجعل شهر رمضان بردًا وسلامًا على المستضعفين في الشام.
اللهم كن لهم عونًا ونصيرَا، اللهم فُكّ حصارهم، وآمن روعاهم، واستر عوراتهم، وصُن أعراضَهم ونساءَهم يا ربَّ العالمين.
اللهم أجِب نِداءَهم، واستجب دُعاءَهم، اللهم اكتُب لهم نَصْرَك، وأسْعِفهم بجُندِك، وتوَلَّهم بقدرتك التي لا يعجزها شيء.
اللهم إنَّكَ ترى مكانَهم، وتُبصرُ حالَهم، قد خانهم القريب والبعيد، فَفَرجْ كُربَتَهُم يا ربَّ المساكين، ويا غياثَ المستغيثين، يا رب العالمين.
اللهم مُنزلَ الكتاب، ومُجري السَّحاب، هازمَ الأحزابْ، أَنْزِل بأسك بالظالمين في بلاد الشام، اللهم إنهم أسجَدُوا لهم العباد، وصَبوا على المستضعفين سوطَ عذاب.
اللهم صُبَ عليهم من عندك صوت عذاب، وخذهم نَكَالَ الآخرة والأولى، أخذا أليمًا، تشفي به صُدورَ قوم مؤمنين، يا جبار السموات والأرض، يا قويُّ يا عزيز، عزَّ جاهُك، وتقدَّست أسماؤُك، يا رب..
وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك، ونتوب إليك.