العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
لا يسمع دعاء الغريق في لُجَّة البحر إلا الله، ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا الله، ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبراتُه تتردد في صدره، وصوته يتحشرج في جوفه إلا الله، ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله.. يغضب إذا لم يُسأل، ويحب كثرة الإلحاح والتضرع، ويحب دعوة المضطر إذا دعاه، ويكشف كرب المكروب إذا سأله (أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله ربكم، واغتنموا ما بقي من شهركم، فيوشك على الانقضاء، وإذا ما انقضى فيوشك أن لا ترى في الليل راكعاً، ولا بالدعاء في الأسحار لاهجًا، والأيام تمضي، والعمر ينقضي، وما أشد الغفلة، وأقل الانتباه!!
أيها المؤمنون:
لا يوجد مؤمن صحيح الإيمان إلا ويعلم أن النافع الضار هو الله –سبحانه-، وأنه –تعالى- يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويرزق من يشاء بغير حساب، وأن خزائن كل شيء بيده، وأنه –تعالى- لو أراد نفع عبد فلن يضره أحد، ولو تمالأ أهل الأرض كلهم عليه، وأنه لو أراد الضر بعبد لما نفعه أهل الأرض ولو كانوا معه، لا يوجد مؤمن إلا وهو يؤمن بهذا كله؛ لأن من شك في شيء من ذلك فليس بمؤمن (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يونس:107].
نعم! والله لا ينفع ولا يضر إلا الله –تعالى-؛ (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل:53]، (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء:67] سقطت كل الآلهة، وتلاشت كل المعبودات وما بقي إلا الله تعالى (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء:67] (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) [الفتح:11].
لا يسمع دعاء الغريق في لجة البحر إلا الله، ولا يسمع تضرع الساجد في خلوته إلا الله، ولا يسمع نجوى الموتور المظلوم وعبراتُه تتردد في صدره، وصوته يتحشرج في جوفه إلا الله، ولا يرى عبرة الخاشع في زاويته والليل قد أسدل ستاره إلا الله (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) [طه 7-8].
يغضب إذا لم يُسأل، ويحب كثرة الإلحاح والتضرع، ويحب دعوة المضطر إذا دعاه، ويكشف كرب المكروب إذا سأله (أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62].
روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يتنزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (أخرجه البخاري: 7494، ومسلم: 758).
الله أكبر، فضلٌ عظيم، وثواب جزيل من رب رحيم، فهل يليق بعد هذا أن يسأل السائلون سواه؟ وأن يلوذ اللائذون بغير حماه؟ وأن يطلب العبادُ حاجاتهم من غيره؟ أيسألون عبيداً مثلهم، ويتركون خالقهم؟! أيلجؤون إلى ضعفاء عاجزين، ويتحولون عن القوي القاهر القادر؟! هذا لا يليق بمن تشرف بالعبودية لله تعالى، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» (أخرجه أبو داود: 1645، والحاكم (1/543) وصححه).
إن الدعاء من أجلِّ العبادات؛ بل هو العبادة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ذلك لأن فيه من ذلِّ السؤال، وذلِّ الحاجة، والافتقار لله تعالى، والتضرع له، والانكسار بين يديه، ما يظهر حقيقة العبودية لله –تعالى-؛ ولذلك كان أكرم شيء على الله تعالى كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء» (أخرجه أحمد (2/362) وابن ماجه : 3829، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 138).
وإذا دعا العبد ربه فهو أقربُ إليه من نفسه (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]، قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: «في ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر كما روى ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «إن للصائم عند فطره دعوةً ما ترد» (أخرجه ابن ماجه 1753، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة: 2/38).
دعوةٌ عند الفطر ما ترد، ودعاءٌ في ثلث الليل الآخر مستجاب، وليلةٌ خير من ألف شهر، فالدعاء فيها خير من الدعاء في ألف شهر، ما أعظمه من فضل!! وأجزله من عطاء في ليالٍ معدودات، فمن يملك نفسه وشهوته، ويستزيد من الخيرات، وينافسُ في الطاعات، ويكثرُ التضرع والدعاء؟!
ومهما أكثر العبدُ من الدعاء فخزائن الله أكثر، وعطاؤه أكثر، وهو –تعالى- أكرم، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله تعالى إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها؛ ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: فإذن نكثر، قال: الله أكثر» (أخرجه أحمد (3/18( والترمذي 3573، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/497)، فالله تعالى أكثر إجابة، وأكثر عطاءً.
والله -تعالى- يعطي عبده على قدر ظنه به، فإن ظن أن ربه غني كريم جواد، وأيقن بأنه -تعالى- لا يخيّب من دعاه ورجاه، مع التزامه بآداب الدعاء أعطاه الله -تعالى- كلَّ ما سأل وزيادة، ومن ظن بالله غير ذلك فبئس ما ظن، يقول الله -تعالى- في الحديث القدسي "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني" (أخرجه البخاري: 7505، ومسلم : 2675).
وإذا أكثر العبدُ الدعاءَ في الرخاء فإنه مع ما يحصل له من الخير العاجل والآجل يكون أحرى بالإجابة إذا دعا في حال شدته من عبد لا يعرف الدعاء إلا في الشدائد، روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء» (أخرجه الترمذي 3282، والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي (1/544).
ومع أن الله -تعالى- خلق عبده ورزقه، وأنعم عليه وهو غني عنه؛ فإنه -تعالى- يستحيي أن يرده خائباً إذا دعاه، وهذا غاية الكرم، والله -تعالى- أكرم الأكرمين، روى سلمانُ -رضي الله عنه- فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خاليتين» (أخرجه أبو داود 1488، والترمذي 3556، والحاكم في المستدرك وصححه على شرطهما ووافقه الذهبي (1/497).
أيها الإخوة:
كانت تلك جملة من فضائل الدعاء وأثره، وهذه أيام الدعاء وإن كان الدعاء في كل وقت، ولكن من لم يكثر من الدعاء في هذه الأيام والليالي التي لها مزية فضل على غيرها، وخصت بليلة هي خير من ألف شهر، فمتى يا ترى يدعو الله تعالى؟!
أسأل الله -تعالى- أن لا يجعلني وإياكم من المحرومين؛ فإن المحروم من حُرم فضل الله -تعالى- ورحمته، وفرط في أمره وطاعته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60]، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله –تعالى-، وأكثروا من الدعاء في هذه الأيام المباركة، وأخلصوا لله -تعالى- في دعائكم وأعمالكم (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ) [غافر:14] (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ) [الأعراف: 55- 56].
قال ابن جرير -رحمه الله تعالى-: «تضرعاً: تذللاً واستكانة لطاعته، وخفية: بخشوع قلوبكم، وصحةِ اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهاراً ولا مراءاة، وقلوبكم غير موقنة بواحدانيته وربوبيته، فعل أهل النفاق والخداع لله -تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-» (جامع البيان: 8/206).
قال الحسن: «إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده زواره وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عملٍ يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانيةً أبداً.
لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) [الأعراف:55]، وذلك أن الله -تعالى- ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) [مريم:3]، وقال ابن جريج: "يكره رفعُ الصوت والنداءُ والصياحُ في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة» (تفسير ابن كثير: 2/354).
أيها الإخوة:
هذه الليالي العشر سوق المؤمنين، وربحها مضمون لمن وفقه الله وقبل منه، فمن أشد حرماناً ممن أضاع على نفسه الفرصة.
ليالٍ تقسم فيها الغنائم، وتوزع الأرزاق، وتفتح الأبواب، وتتنزل الرحمات، فهل يليق بمسلم أن تمضي عليه وهو في نوم وغفلة؟ فكيف إذا كان يقضيها في محرم وعلى معصية؟! فنعوذ بالله من الخذلان، ونعوذ به من الحرمان.
فاجتهدوا فيها، وأروا الله من أنفسكم خيراً، وأكثروا الدعاء والتضرع والإلحاح على الله -تعالى- وأنتم موقنون بالإجابة؛ ففي ذلك خيرٌ كثيرٌ.
ثم صلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.