الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | فواز بن خلف الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود، فلا يقود إلى قرب الرحمن، وروح الجنان، مع كونه بعيد الإرجاء، ثقيل الأعباء، محفوفاً بمكاره القلوب، ومشاق الجوارح والأعضاء إلا الرجاء، ولا يصد عن نار الجحيم، والعذاب الأليم مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات، وعجائب اللذات، إلا ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وأشكره وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الإلوهية والخلق والتدبير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد والمصير، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم –ونفسي- بتقوى الله -عز وجل- قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: ليس من منهج الإسلام أن لا تترجى نفوس، وأن لا يطرق الأسماع إلا تخويف وتهديد، وزجر ووعيد، بدون رجاء، وحسن ظن، وطمع في عفو رب الأرض والسماء.
وليس من المنهج أن تتشبث نفوس ضعيفة بأماني العفو والرحمة، والظفر بالجنة والمغفرة، دون سعي وعمل، وخوف من الله -عز وجل-.
حين لا تستوعب نصوص الرجاء، ولا تفهم مدلولاتها، تتمادى النفوس في طغيانها، ويأسرها هواها، بل ترتكب المعاصي، وتنتهك الحرمات، ويتحايل على المحظورات، فهم لا يتذكرون من أسماء الله وصفاته إلا أنه غفور رحيم، كريم، ودود، ودليلهم في كل حين، أن الإسلام دين السماحة واليسر.
قال الحسن -رحمه الله تعالى-: "إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: إني لأحسن الظن بربي، وكذب لو أحسن الظن لأحسن العمل".
وقال أحد السلف: "رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان".
إن الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود، فلا يقود إلى قرب الرحمن، وروح الجنان، مع كونه بعيد الإرجاء، ثقيل الأعباء، محفوفاً بمكاره القلوب، ومشاق الجوارح والأعضاء إلا الرجاء، ولا يصد عن نار الجحيم، والعذاب الأليم مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات، وعجائب اللذات، إلا سياط التخويف.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد".
والنصوص الشرعية من الآيات والأحاديث السنية، تربي على الخوف والرجاء، فهما رفيقان ينبغي أن لا يخلو قلب المؤمن منهما، وإن غلب أحدهما حينا وغلب الآخر حيناً آخر.
تأمل كيف يربي رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- على الخوف والرجاء، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله -تعالى-: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: "أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، قالوا: يا رسول الله وأينا ذلك الواحد؟ قال: أبشروا، فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف، ثم قال: والذي نفسي بيده إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبرنا، فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود".
وهذا لما لانت بالموعظة قلوبهم، وأزداد خوفها، وأقبلت على ربها، سكب فيها الطمأنينة، بحسن الظن والطمع في عفو الله ومغفرته.
إذا تذكر العبد الفقير كثرة ذنوبه فيما مضى، واستشعر شدة العقوبة، ثم تأمل قدرة الله عليه، متى شاء وكيف شاء، وأنه ضعيف لا يتحمل العقوبة، ولد ذلك في نفسه خوفاً من الله، يقمع الشهوات، ويكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة.
ولد ذلك خوفاً يجعله يفر إلى مولاه، فيؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم، ويشمر للطاعات والمغانم.
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها"[رواه مسلم].
وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه" [أخرجه البخاري ومسلم].
قال أحد السلف: "كل قلب ليس فيه خوف من الله فهو قلب خرب، ومن كان بالله أعرف، كان له أخوف".
بكى أبو هريرة -رضي الله عنه- في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أما إني لا أبكي على ديناكم هذه، ولكن أبكي على بُعد سفري، وقلة الزاد، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي".
وكان العلاء بن زياد -رحمه الله تعالى- يذكر النار، فقال رجل: لم تقنط الناس؟ قال: "وأنا أقدر أن أقنط الناس، والله -سبحانه وتعالى- يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].
ويقول: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ)[غافر: 43].
ولكنكم تحبون أن تبشروا بالجنة على مساوئ أعمالكم، وإنما بعث الله محمداً مبشراً بالجنة لمن أطاعه، ومنذراً بالنار لمن عصاه.
الخائفون: إذا سمعوا آيات الله تتلى، وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تروى، لانت قلوبهم، واقشعرت جلودهم، وانهمرت دموعهم، قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر: 23].
فالقلب الصافي يحركه أدنى مخافة، والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ.
فهنيئاً للخاشعين قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم ابداً" [أخرجه أحمد والترمذي].
الخائفون: لا يسكن حالهم، ولا يهدأ روعهم، حتى يجوزوا الأهوال، قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه".
الخائفون: إذا وسوس لهم الشيطان، وزين الحرام، لا يبيعون دينهم، ولا يغضبون ربهم في سبيل لذة عاجلة، أو شهوة آثمة، تكون وبالا عليهم، ونقمة على مجتمعهم، يقول أحدهم كما وصف المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقول: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله" [رواه البخاري ومسم].
لا يقيم الخائفون على معصية، ولا يبيتون على مفسدة، بل يتطهرون بالتوبة، وتلمس الرحمة والمغفرة.
أقض الذنب مضجع أحدهم، وأطار الوجل رقاده، فيأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلا: طهرني يا رسول الله؟ فيقام عليه الحد، ويطهر من الذنب، فقال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لو سعتهم " [رواه مسلم].
الخائفون: يؤمنهم الله يوم الفزع ويطمئنون، والناس في خوف وشدة وهلع، دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: بخير أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف" [أخرجه الترمذي].
الخائفون: يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، يوم يعرق الناس حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم.
الخائفون: يدخلون الجنة بسلام، قال الله -تعالى-: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ)[ق: 33-34].
قال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى-: "وعد من الله لمن خافه أن يدخله الجنة، حيث قال: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرحمن: 46].
ذلك أنهم كانوا يخافون الموت قبل التوبة، والاستدراج بالنعم، وسوء الخاتمة، وسكرات الموت، فثبتهم الله.
يخافون عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، والعبور على الصراط، وأهوال النار، فحفظهم الله، يقولون وأعينهم باكية كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى جهنم طريقنا، وبين يدي الله موقفنا".
قال أحد السلف: "ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه".
الخوف: ليس مجرد دمعة تنسجم، ولحظات من الحزن والبكاء، فإذا زال المؤثر عاد العبد إلى غفلته، وتمادى في سهوته، هذا خوف قاصر، قليل الجدوى، ضعيف النفع.
الخوف: يقظة دائمة، وشعور حي، يحرق الشهوات المحرمة، وتتأدب به الجوارح، ويذل القلب، ويستكين، ويفارقه الكبر والحقد والحسد.
الخوف: مراقبة ومحاسبة، ومجاهدة في الخطرات والخطوات، والأحوال والكلمات.
ما خاف مقام الله ووعيده: من بارزه بالمعاصي مع علمه بإطلاع الله، وأنه سيقام بين يديه.
ما خاف مقام الله: من أمن بطشه وعقابه.
ما خاف مقام الله: من أظهر الخير للناس، وأعلن الشر، أمام الله الذي لا تخفى عليه خافية.
ما خاف مقام الله: من علم حرمة الزنا والربا، وحرمة الكذب والمخادعة، وحرمة الخيانة والفسق، ثم بارز الله بها.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)[الملك: 12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشانه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
إن كل خوف خلا من الرجاء فهو يأس وقنوط، قال تعالى: (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ)[الحجر: 56].
خاطب الله المسرفين على أنفسهم، الغرقى في ذنوبهم، ونهاهم عن القنوط من رحمته، لتنهض همتهم إلى طرق أبواب مغفرته، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ).
خاطب الله المسرفين على أنفسهم الغرقى في ذنوبهم، ونهاهم عن القنوط من رحمته، لتنهض همتهم إلى طرق أبواب مغفرته، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ)[النجم: 32].
فمهما اتسعت رقعة المذنب، فميدان المغفرة أوسع، ومهما تغلظت نجاسات المعاصي، وأدناس الذنوب، فبحر الغفران يطهرها، وذلك إن استغفروه بنية صادقة، وندم على ما فات، وعزم على عدم العودة.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -تبارك وتعالى-: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة " [رواه الترمذي].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفة ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطي كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: (هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هود: 18][أخرجه البخاري].
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لرجل: ما تصنع؟ فقال: أرجو وأخاف قال: "من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئا هرب منه".
إن الرجاء الصادق هو الذي يدفع صاحبه إلى فعل الخير، والاستزادة في أعمال البر، قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف: 110].
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، ومعلم البشرية الخير.