الظاهر
هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله العجمة الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
من المستفيدون من هذه الأموال التي تذهب هدرًا وتضاع سدى وتسدّ طريق المسلمين إلى الزواج, الذي هو من ضرورياتهم ومن صلاح دينهم ودنياهم وحصول الأمن والاستقرار؟ ومن الذين يخسرون هذه الأموال وتقع عليهم المشاكلُ والتَّبِعَاتُ؟ إن الذين تقع عليهم التبعات وتثقل الديونُ كَوَاهِلَهم الأزواجُ الذين يحيون ويعيشون عيشة الْبُؤْسِ والفقر والتَّعَاسَة نتيجة الإسراف والتبذير، وأما المستفيدون فإنهم أصحاب الدكاكين والمعارض والسلع الأخرى والفنادق وما أشبه ذلك، وقد...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فلقد كان الحديث في الخطبة السابقة عن النكاح والعقبات التي تحول دونه، ومنها عزوف كثير من الشباب ذكورهم وإناثهم عن الزواج، وكذلك عضل النساء وعدم تزويجهن بالأَكْفَاءِ في الدين والخلق، والحديث الآن -إن شاء الله- عن مُعَوِّقٍ وعَقَبَةٍ كَؤُودٍ عظيمةٍ انتشرت في المجتمع بين الغني والفقير والرفيع والوضيع على حد سواء إلا من رحم الله، وأصبح من الصَّعْبِ التَّخَلِّي عنها إلا ممن وفقه الله، وهذه العقبة هي نفقات الزواج وتكاليفه، ابتداء من المهر، ومرورًا بوليمة العرس وما يتبعها، وانتهاء بتجهيز بيت الزوجية وما يلحقه.
فهذه المعوقات والتكاليف ابتدعها الناس وتَمَادَوْا فيها حتى صار الزواج من الأمور الشاقة الثَّقِيلَةِ البالغة حدًّا لا يُطاق لدى كثير من الراغبين فيه، لدرجة أنهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى الحلال إلا بديون تشغلهم وتَأْسِرُ ذِمَمَهُمْ لدائنيهم، وعندما تكون هذه حال المجتمع فكيف نَأْمَنُ عدم وقوع الفساد وهتك الأعراض من الجنسين، حيث أصبح الطريق إلى الحلال مسدودًا أمامهم وحالت دونه العراقيل والعقبات الشاقة التي لا يستطيعها كثير من الناس، وعندما تكون الطريق إلى الحرام ودواعيه سهلة وميسورة على النقيض من الحلال فماذا نتوقع؟! وماذا ننتظر؟!.
إن طرح السؤال والجواب عليه ينبغي أن يفكر كل فرد منا فيه ويتأمل عواقبه، وليس بِخَافٍ على أحد، ولكن التأمل والتفكير وإيجاد الحلول مطلوب من الجميع، ومن تأمل الواقع وسمع ورأى وعلم عما يدور حوله وتحركت غيرته وخاف على مستقبل أمته وحرص على أَمْنِ مجتمعه وصَوْنِ أعراض أفراده لا يَهْدَأُ له بَالٌ حتى يرجع المسلمون إلى الطريق السَّوِيِّ, ويسلكوا نَهْجَ السلف الصالح من أمتهم في هذا المجال وغيره، ومع هذا فهم على خوف ووجل لأن الفتنة والمصيبة عامة كما قال تعالى: (وَتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً)[الأنفال: 25].
إن غلاء المهور أصبح ظاهرة ومرضًا اجتماعيًا لا يسلم منه إلا القليل ممن وفقهم الله وسنُّوا سنة حسنة في ذلك في هذا العصر، علموا وعرفوا أنه ليس المقصود بالنكاح المال وإنما المال وسيلة إلى الزواج، وليست المرأة سلعة تُباع وتُشترى أو تُمنع بحسب ما يُبذل فيها من المال، بل هي أكرم وأرفع من ذلك، هي أمانة عظيمة وجزء من الأهل، والمال لا قيمة له، والمغالاة في المهور ونفقات الزواج لا يُبَالِغُ فيه إلا منْ قَلَّ حَظُّهُ من الفقه ومن تطبيق تعاليم الإسلام في جميع شؤون الحياة.
والسنة الثابتة في المهور هو تخفيفها وتسهيلها حتى تحل البركة في الزواج والوئام والألفة بين الزوجين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَعْظَمُ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مَؤونَةً". وقد تزوج رجل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة على تعليمها بعض سور من القرآن، وعقد له النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك بعد أن قال له: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، فلم يجد شيئًا فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "هل معك شيء من القرآن؟" قال: نعم، سورة كذا وكذا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "زوجتكها -أو قال: ملكتكها- بما معك من القرآن". وقال -صلى الله عليه وسلم- لرجل عندما قال له: يا رسول الله: إني تزوجت امرأة على أربع أواقٍ يعني مائة وستين درهمًا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "على أربع أواقٍ! كأنما تَنْحِتُونَ الفضة من عرض هذا الجبل"، يشير بذلك عليه الصلاة والسلام إلى مغالاة هذا الصحابي في المهر وسوء فعله وصنيعه ذلك. فلو كان ارتفاع المهور والمغالاة فيها مَكْرُمَةً وخيرًا في الدنيا أو تقوى عند الله تعالى لكان أولى الناس بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا تُغَالُوا في صُدُقِ النساء -يعني مهورهن-، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
فيا أيها المسلمون: إذا كانت المغالاة في المهور مرضًا منتشرًا في المجتمع فإن من المسلمين من هم قدوة حسنة في الخير, قد سنوا سنة حسنة وخرجوا عن العادات السيئة المنتشرة بين الناس وسلكوا طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, وعلموا أن الخير كله في اتباع ما جاء به رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإنه لمما يُثْلِجُ الصدر عندما يسمع المسلم أن شخصًا أو أشخاصًا خُطِبَتْ منهم بناتُهم فاشترط كل واحد على الخاطب أن لاَّ يدفع مهرًا سوى كذا من المال، أي: أنه سَمَّى مهرًا قليلاً جدًا, وهذا نوع وصنف من الناس الموجودين في المجتمع، وصنف آخر يدفع الخاطبُ المهرَ ويكون مهرًا متوسطًا فيأخذ أبو الزوجة منه ألف ريال أو أقل من ذلك ويردّ الباقي على الخاطب، ومثل هؤلاء سمعنا عنهم كثيرًا، ورجل ضرب مثلاً رائعًا، وذلك بأنه رأى رجلاً صالحًا غير متزوج وسأله عن سبب عدم زواجه، فأخبره بأنه لا يستطيع تكاليف الزواج من مهر وخلافه، فقال له: هل ترغب الزواج إذا زوَّجَكَ أحدٌ ابنتَه؟ قال الرجل: نعم ولِمَ أمتنع عن ذلك؟! فقال له هذا القدوة الحسنة: أَعِدَّ نفسَك للزواج من ابنتي، فجهز ابنته بما تحتاجه مثيلاتها وقام بجميع تكاليف الوليمة وإعداد بيت الزوجية، وتم الزواج السعيد بين الزوجين، واستغرب الناس هذا الصنيع من هذا الرجل وفي مقدمتهم الزوج الذي لم يَكَدْ يُصَدِّق أن هذا النوع من الناس موجود في المجتمع.
والحقيقة أنه لا يزال المسلمون بخير متى حُرِّكَت فيهم دوافعُ الخير, وأقدم أحدهم على فعل الخير مهما كان من عقبات في طريقه، ولكن هذه الأمثلة هي قلة بالنسبة للملايين الذين هم على نقيض ذلك، وإن كنا نستبشر خيرًا بانتشار الوعي ومعرفة الواقع المؤلم الذي مَرَّ به كثير من الشباب ولا يزال يعانيه كثيرون إلى الآن، وفي إحدى البلاد المجاورة اتفق أهلها على أن يجعلوا المهر مائة ريال فقط، فأقبل الشباب على الزواج ولم يَبْقَ أحد من الشباب والشابات دون زوج، فحصل أن تزوج شابان صالحان كل منهما بمهر قدره مائة ريال وعُقِدَ لهما في المسجد وصنع كل منهما وليمة مبسطة وميسرة، وسافر أحدهما مع زوجته إلى المدينة للعمل هناك، والآخر إلى مدينة أخرى، فأرسل أحدهما إلى صاحبه رسالة يخبره عن مدى السعادة التي يعيشها مع زوجته بسبب بركة قلة المهر والتكاليف إلى غير ذلك، وقال: إنني لا أرى أحدًا أسعد مني على وجه الأرض، فعندما قرأ صاحبُه الرسالةَ رَدَّ عليه، إلى أن ذكر عن السعادة فقال: لا ترى أحدًا أسعد منك إلا أنا، أي: أنه هو الآخر يحس بسعادة غامرة بسبب قلة المهر وتكاليف الزواج، وهذا الواقع يصدقه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال فيه: "أعظم النكاح بركة أيسره مئونة"، فكلما قلت التكاليف والديون عن ظهر الزوج حلت البركة وظهر أثرها على الزوجين؛ لأن المغالاة في ذلك تنعكس على الحياة الزوجية، فعندما يكون الزوج مُثْقَلاً بالديون يكون أسيرًا لدائنيه ويحمل هَمَّ الدين، وعند أقل شجار مع زوجته يُعَيِّرُها ويَسُبُّها بأنَّ أهلها لم يرحموه في دفع مهرها والطلبات الأخرى، وعندما يريد أن يُوَسِّعَ عليها في النفقة لا يستطيع ذلك لأن تكاليف الزواج أثقلت كاهله, حيث تمر السنوات الطوال وتتعدى عشر سنوات وهو لا يزال يسدد الديون، فهو على كل حال على حساب الزوجة سواءً قَلَّ أو كَثُرَ، وهي التي سوف تَصْلَى جحيمه وناره عند ارتفاعه أو تحيا حياة كريمة مع قلته.
هذا بالنسبة للغالبية العظمى في المجتمع، علمًا بأن المهر في الشرع هو للزوجة وليس كما يتصوره ويفعله بعض الناس من تقسيم مهر الزوجة على الأقارب من الرجال وما يسمونه بكسوة النساء وتفريقه بينهن، حتى أصبحت أي امرأة تُزَوَّجُ تؤخذ عليها ضريبة بهذا الفعل، وهذا لا يحلّ بل يجب التنبه له، وبعضهم يقوم بتأثيث بيت الزوجية من المهر المفروض للزوجة، وهذا أمر مخالف أيضًا للمشروع في الإسلام، فالمهر أصلاً هو للزوجة تتصرَّف فيه في المباح كيف تشاء.
فيا أيها المسلمون: علينا أن نقابل المغالاة في المهور وغيرها من نفقات الزواج بالقوة والعزيمة الصادقة وحب الخير والتصميم على الوصول إلى الغاية المطلوبة ونقضي عليها بالتدريج ونضرب الأمثلة في ذلك ليقتدي بنا غيرنا وليتزوج الشباب والشابات, ويحيوا حياة سعيدة بعد تسهيل أسباب الزواج وعدم وضع العراقيل والعقبات في طريقهم، وعلينا أن نبحث لبناتنا عن الأكفاء من الرجال؛ لأن صاحب الدين والخلق والرجولة والشهامة يُشْتَرى بالمال ولا يُنْتَظر منه دفع المال خاصة في هذا الزمن الذي نعيشه، وما بعده أشرّ منه، ولا نشجع المائعين والمنحلين من أشباه الرجال ولا رجال، الذين ما إن يتزوج أحدهم حتى يسافر بزوجته إلى بلاد الكفر, لِيَخْلَعَا هناك جلباب الحياء ويَكْفُرَ هُوَ ويجحد نعمةَ الله التي أنعم عليه بهذا الزواج، ويهتك عرض هذه المرأة المسكينة ويجردها من كل فضيلة، وغالب هؤلاء النسوة راضيات بتلك الأفعال، وعليه فَهُنَّ مُشْتَرِكَات في الإثم، فعلينا أن نجعل شراء الرجال بأموالنا نصب أعيننا لا أن يشتروا بناتنا ويرموا بهن بعد أشهر قلائل، وعلينا امتثال حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [النور: 32-34].
الخطـــبة الثانــية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده تعالى وأشكره وأؤمن به وأتوكل عليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فمن معوقات الزواج الإسراف والتبذير في وليمة الْعُرْسِ، وهذه سيئة تضاف إلى سيئة المغالاة في المهور والنفقات الأخرى التي تثقل كاهل الزوج وتنفّر الشباب عن الزواج وطلب الحلال؛ لأن كل شيء إذا جاوز حده ينقلب إلى ضده لا محالة.
وعلينا أن نتساءل: من المستفيدون من هذه الأموال التي تذهب هدرًا وتضاع سدى وتسدّ طريق المسلمين إلى الزواج, الذي هو من ضرورياتهم ومن صلاح دينهم ودنياهم وحصول الأمن والاستقرار؟ ومن الذين يخسرون هذه الأموال وتقع عليهم المشاكلُ والتَّبِعَاتُ؟ إن الذين تقع عليهم التبعات وتثقل الديونُ كَوَاهِلَهم الأزواجُ الذين يحيون ويعيشون عيشة الْبُؤْسِ والفقر والتَّعَاسَة نتيجة الإسراف والتبذير، وأما المستفيدون فإنهم أصحاب الدكاكين والمعارض والسلع الأخرى والفنادق وما أشبه ذلك، وقد تذهب كثير من هذه الأموال إلى الخارج للأماكن المستورد منها تلك البضائع والصناعات، وأما بقية الأقارب ومن حضر الولائمَ فهم الْمُتَفَرِّجُونَ عن قُرْبٍ وعن بُعْدٍ, ولا يهمّهم ما وقع على صاحبهم المتورط في تلك الديون وتلك الزوجة المسكينة التي وقعت عليها المصيبة هي وزوجها.
عباد الله: لقد أُحِيطَتْ نعمةُ الزواج بالإسراف البالغ نهايته في الولائم من أهل الزوجة والزوج مشتركين أو منفردين، حيث يدعون جمعًا كبيرًا من الناس يحضر منهم من يحضر ويتخلف من يتخلف، ويحصل فيها من السمعة والرياء والمفاخرة ما الله بها عليم، ولو وقف على أحدهم فقير لما تصدّق عليه بمائة ريال، ولكنه ينفق عشرات الألوف مفاخرة وسمعة ورياء، وبِئْسَ الطعام طعام الوليمة؛ يُدْعَى إليها الأغنياءُ ويُتْرَكُ الفقراءُ أو قد يُرَدُّونَ ويُبْعَدُونَ عنها، ولا يعلمون أنهم يُعَرِّضُونَ أنفسَهم لكراهة الله لهم، وأنهم أصبحوا إخوان الشياطين، وأنهم بذلك عَدَلُوا عن طريق عباد الرحمن الذي هو الطريق الوسط في الإنفاق، قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]، (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) [الإسراء: 26، 27]، (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ) [الإسراء: 29]، (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) [الفرقان: 67].
إن هذا الإسراف كما أنه محظور شرعًا فهو ممقوت عادةً، فإن الناس يلومون من يسرف ويتصرف ذلك التصرف، وينظرون إليه النظرة إلى الساخر الناقص الذي يحاول تغطية وإكمال نقصه بمثل هذه الولائم التي تجاوزت الحد, إن الإسراف سفه في العقول لما فيه من إتلاف المال وإضاعة الوقت وشغل البال وإتعاب الأبدان وامتهان النعمة، حيث نرى ونسمع كثيرًا عن هذه النعم المتنوعة من الأطعمة والأشربة واللحوم التي تبقى ولا يأكلها أحد وتلقى في الزبالات والطرق، والمتورع من الناس من يحملها إلى الْبَرِّ ويرمي بها هناك في الفضاء، فهل هذا من الرشد أم هو من السَّفَه؟! وهل هذا من شكر النعمة؟! وهل تفكر أحد فيما كان عليه الآباء والأجداد؟! وهل تفكر من لم يَعِشْ ويحيا حياة الفقر هل تفكر وتدبر حال الأمم والشعوب التي يراها أو يسمع أو يقرأ عنها كل يوم في وسائل الإعلام المختلفة؟!
وهل أَمِنَّا مَكْرَ الله؟! وهل لدينا ضمان بدوام هذه النعم مع كفرانها؟! لا والله، لئن لم نشكر النعمة لَيَحِلّ بنا ما حَلَّ بغيرنا من الأمم السابقة والحاضرة, (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 62], قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7]، وقال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل: 112]، وقال عن سبأ وما كانوا فيه: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) [سبأ: 15 - 17]، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53].
ومما يُثْقِلُ كاهلَ الزوجِ ويُعِيقُ الزواجَ اشتراطُ أهلِ الزوجةِ تأثيثًا معينًا لبيت الزوجة أو غرفة النوم, وأحيانًا نوع السيارة أو إقامة الحفلة في فندق أو قصر معين, أو إحضار المطربين والمطربات وأنواع رقاع الدعوة المسماة بالكروت التي تصل إلى آلاف الريالات وإدخال بعض السفهاء لمن يلتقط صورًا للزوجين وقد يحصل حتى للنساء الحاضرات، وتسجيل أصواتهن في الأشرطة وتداولها وسماعها وانتشارها بين قليلي المروءات، وهذا تدهور وانحدار إلى الهاوية، وهذه الأخيرة أمور منكرة يجب على كل مسلم أن يسعى لإزالتها بما يستطيع، ومتى أدرك كل منا دوره وقام بالواجب عليه صلح المجتمع بإذن الله، ومتى تهاونّا فسوف تكون العواقب السيئة التي لا تحمد عقباها.
وقد ظهر في الآونة الأخيرة أعظم من ذلك وهو الإرسال المباشر من الهواتف المحمولة إلى هواتف أخرى أو شبكة المعلومات أو الفضائيات، إرسال ما يدور في قاعات وصالات الأفراح النسائية من رقص وغناء بالصوت، وقد يكون النقل مع الصورة غالبًا خاصة لِلْمُرْسِلَةِ التي قَلَّ حياؤُها وقامت بهذا الفعل الْمَشِين.
أعود لأقول بأن الذي سبق ذكره قبل هذا التذكير الأخير إنما هو موجز للعقبات والتكاليف الباهظة التي أَسَرَ بها كثير من المسلمين أنفسهم, ووضعوا بها الأغلال والقيود في أعناقهم وأيديهم وأرجلهم, حتى صاروا لا يستطيعون الفكاك منها، بل تزداد أحوال كثير منهم سوءًا يومًا بعد يوم، فهل يفيق المسلمون من غفلتهم؟ وهل يرجعون إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم ويدركون الحكمة من وراء النكاح؟ وهل يتركون المفاخرة والمظاهر الكاذبة والإسراف في الولائم ويحافظون على النعم؟ وهل يكتفون ويرضون بالاقتصاد والاختصار في التكاليف القليلة التي ترجع على الزوجين بالخير والبركة؟ وهل يكتفون بالاقتصار على أقرباء الزوجين ويختصرون في طعام الوليمة؟ هل يقتصدون في أمورهم كلها؟ إنا لنرجو أن يسلكوا طريق عباد الرحمن في الاقتصاد وعدم الإسراف عمومًا، وفي الزواج خصوصًا، ابتداءً بالْخِطْبَةِ التي هي عقبة أيضًا لدى كثير من الناس ولها خُطْبة مستقلة نظرًا لأهمية ذلك الآن، وما يلحق بالخِطبة من مهر وغيره، ومرورًا بوليمة العرس وما يتبعها، وانتهاءً ببيت الزوجية الذي أنهك قوى كثير من الأزواج من حيث الإعداد والنفقات والذي هو مقر ومكان الخصام أو الوئام، إما أنْ يُؤَسَّسَ على البر والتقوى أو على العكس، وعندها يعرف كل منهما ما كسبت يداه وما قدم في أيام خلت هي البداية للطريق الطويل أو القصير، إما أن يُدْخَلَ السجن أو يعيش سنوات طوالاً أسير الهمّ بالليل والْمَذَلَّة بالنهار لأصحاب الدَّيْنِ حتى يُوفِيَهُمْ حقوقَهم أو يماطلهم.
ويُوجَدُ بَوَادِرُ طيبةٌ في بعض الأماكن -نسأل الله أن يتمها بخير ويعم بنفعها مجتمعات المسلمين-، تلك البدايات المتمثلة في الحد من الإسراف والتكاليف الباهظة في الزواج، ومنها الزواج الجماعي لعشرات العرسان في ليلة واحدة، ولكنها محصورة في بعض القرى والقبائل وفي المدن أيضًا، أما الغالبية العظمى فهي على العكس من ذلك، وأما من ناحية المبادرات الخيرية المنتشرة في بعض المدن والتي تُعْنَى بتيسير الزواج فهي بداية الحلول للمشاكل والعقبات التي أشغلت وأَهَمَّتْ معظم الناس، والحلول كثيرة وميسورة في الوقت نفسه لو وَحَّدْنَا الْجُهْدَ والوقتَ والمالَ، وأما إذا بقيت الجهود مبعثرة وتعددت الاتجاهات والمؤسسات فإن خيرها ونفعها محدود ومجالها مقصور على فئات معلومة تبعًا لتصورات القائمين عليها في كل مدينة ومنطقة، وفكرة إنشائها وعملها فكرة طيبة وخَيِّرَةٌ، ولكن تلك المساعدات زهيدة جدًا سواء ما كان منها على سبيل القرض أو الهبة التي هي أساسًا من الزكاة، تلك الزكاة التي لا بد أن تُدْفَعَ لمن هو غير مستطيع للزواج من ماله لا بد أن تؤدّى في الوقت المناسب غير متأخرة لعدة سنوات، وعلى العكس من ذلك وُجِدَ من دُفِعَتْ لهم لانتظارهم أكثر من عشر سنوات ضمن قائمة الانتظار بعد أن تزوج الزوجان وأنجبا أولادًا وصل الأكبر منهم المرحلة المتوسطة، فهذا غالبًا قد أغناه الله بالوظيفة والعمل والكسب خلال السنوات، فاستحقاقه السابق في ذلك الوقت ليس معناه أن يأخذه الآن زكاة مدفوعة في هذه السنة، وهذا أمر ليس بالْهَيِّنِ، ولا يجوز السكوت عليه لأنه من الزكاة، أما لو كان قرضًا أو هبة فهذا أمر مختلف تمامًا، فليتنبه المسلمون لذلك ويقفوا عند شرع الله وأوامره ونواهيه، وكما أشرت فإن الحلول المتمثلة في صناديق الإقراض العامة البعيدة عن الربا والشبهات المبنية على مصادر التكافل الاجتماعي لعامة الشباب في جميع أنحاء المملكة هي الحل الأمثل لواقع الناس اليوم، ولعلنا نستعرضها بعد الخطب عن الربا والدَّيْن إن شاء الله تعالى.
أما الواجب على شباب المسلمين فهو امتثال أمر الله وأمر رسوله عند عدم الاستطاعة على تكاليف الزواج بالاستعفاف حتى يغنيهم الله من فضله, ويجدوا الحلول الطيبة المباركة لهم ولأمثالهم من المسلمين، ففي الآية الكريمة والحديث الشريف التالي ذكرهما الحل الإلهي والدواء الشافي بإذن الله -عز وجل-، قال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النور: 33] ، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أَغَضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاءٌ"، وِجاء أي: وقاية وحصانة بإذن الله من الوقوع في الحرام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه الأطهار...