العالم
كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | فواز بن خلف الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
أيها الناس: آية من آيات الله في الكون، يرى المتأمل فيها إعجاز الله وقدرته، وإبداعه في خلقه، هي العنصر الأول للحياة، وقطب الرحى في حياتنا نحن بني الإنسان، وكذا الحيوان والنبات، إنها آية الماء الذي قال فيه: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)[الأنبياء: 30]. فالماء، هذا السائل العجيب الغريب، العجيب في طعمه ولونه، والغريب في الارتواء به دون سواه. هو غذاء الكائنات وحياتها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحا لذكره، وسببا للمزيد من فضله، ودليلا على آلائه وعظمته، لا إله إلا هو يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، يفرج الكروب، ويغفر الذنوب، ويستر العيوب، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور وتكنه القلوب.
خلق فسوى، وقدر فهدى، نعمه تترى، وفضله لا يحصى، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، وكل شيء عنده بأجل وقدر مسمى، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين، وعن جميع الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، والتوبة إليه من كل ذنب وخطيئة، فالله قريب ممن دعاه، رحيم بمن تاب إليه واتقاه.
أيها الناس: آية من آيات الله في الكون، يرى المتأمل فيها إعجاز الله وقدرته، وإبداعه في خلقه، هي العنصر الأول للحياة، وقطب الرحى في حياتنا نحن بني الإنسان، وكذا الحيوان والنبات، إنها آية الماء الذي قال فيه: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)[الأنبياء: 30].
فالماء، هذا السائل العجيب الغريب، العجيب في طعمه ولونه، والغريب في الارتواء به دون سواه.
هو غذاء الكائنات وحياتها، بفقده تذبل وتموت، ترى الأرض هامدة يابسة منكمشة لا حراك فيها من العطش، فإذا ما أنزل الله عليها الماء تحركت فيها الحياة، وتلألأت بالخضرة والنضرة: (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الروم: 50].
وقد حظي الماء باهتمام كبير في القرآن الكريم، فقد ورد ذكره في تسع وخمسين آية، مشيرة إلى أهميته، وطهارته وفائدته، باعتباره نعمة كبرى، أنعم الله بها على مخلوقاته، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)[المؤمنون: 18].
أي: أنزلناه بحكمة وتدبير، فلم ننزله كثيرا فيغرق ويفسد، ولا ضئيلا فيكون الجدب والفناء، ولا في غير أوانه فيذهب بلا فائدة، وإنما أنزلنا بقدر وحكمة.
عباد الله: إن البشرية اليوم أهدرت هذه الثروة الغالية، فأصبحت تعاني من انعدام المياه أو شحها، فارتفعت أسعار تكلفة إنتاج المياه العذبة، وغدت مشكلة المياه في مقدمة المشكلات العالمية، بل يتنبأ بأن تكون محور صداع الأجيال القادمة.
ونحن -أيها المسلمون-: أمامنا سنة ربانية، في قلوب راسخة: أن البلاء الذي نصاب به والنقم التي تحل إنما هي بسبب الذنوب والمعاصي، فقد قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)[الشورى: 30].
وقال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)[الروم: 41].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الفساد: القحط وقلة النبات وذهاب البركة".
وقال أبو العالية: "من عصى الله في الأرض فقد أفسد فيها؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة".
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ)[الأعراف: 96].
قال أهل التفسير: البركات: المطر والنبات.
وقد حكى الله لنا في كتابه عن نبي الله هود –عليه السلام- قوله لقومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ)[هود: 52].
ذكر المفسرون: أن قوم هود حبس الله عنهم المطر بسبب ذنوبهم ثلاث سنين، فقال لهم هود: "إن آمنتم أحيا الله بلادكم وزادكم عزا إلى عزكم".
أيها الإخوة في الله: إن ما نعانيه اليوم وغيرنا كثير في القريب والبعيد، من قلة الأمطار، وذهاب البركة، وحلول القحط والجدب والشدة، لهو إنذار من الله للعباد أن ذنوبهم ومعاصيهم عظمت وكثرت، فتأخر الغيث، وغور مياه الآبار والهلاك المتنوع في المواشي والزروع، ليس ذلك لعمر الله نقص في جود الباري -جل شأنه- وفضله وكرمه وإحسانه، ولا نقص مما بيمينه عز وجل، فيداه ملئا لا تغيظها نفقة سحاء الليل والنهار، وإنما السبب هو إضاعة أمر الله وعدم المبالاة بأوامره ونواهيه.
فالله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة، بنقص الثمرات وحبس البركات ليتوب تائب، ويقلع مقلع، ويتذكر متذكر، ولذا جعل الله التوبة والاستغفار سببا لدور الرزق كما جعل الذنوب سببا لانعدام الرزق؛ فقال سبحانه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10-12].
هذه الآية قرأها الفاروق - رضي الله عنه - من على المنبر يستسقى، ثم قال: "لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل به المطر".
عباد الله -أيها الإخوة المؤمنون-: ـما لبعضنا لا يرجون لله وقارا؟ وقد خلقهم أطوارا؟ ما لبعضنا يتهاون في الصلاة ويتركها أو يتكاسل فيها وفي أدائها؟! أليس هذا في دين الله من أكبر الكبائر؟! بل يخرج من الدين كلية؟! ما لبعضنا لا يخرج زكاته؟! الزكاة التي هي قرينة الصلاة وشقيقتها؟!
أليس قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منع القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا".
أم يحسب كثير من الناس أن الزكاة واجبة فقط على التجار وأرباب الأموال، وهو غالبا ممن يجب عليه إخراج زكاة ماله ورواتبه.
ألم يسمع قول رسول الهدى- صلى الله عليه وسلم-: "ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين".
وفي رواية: "إلا حبس الله عنهم القطر".
أيها المسلمون: ألا وإن مما يعاقب الله عليه بالشدة والقحط: الإسراف والبذخ، فكم نرى ونسمع من صور البطر والترف والخيلاء التي لا ترضي رب الأرض والسماء، بطر وبذخ في ذبح البهائم التي سخرها الله لعباده، وسرف وخيلاء في مزايين الإبل ومسابقات الشعراء وقصائدهم التي لا يرجوا أهلها منها إلا الفخر والخيلاء، وهم عند الله ممقوتون على أفعالهم، فهل وصل بنا -معشر المسلمين- الحد من الجهل والترف إلى ما نسمع؟
أزادت أموال بعضنا، وطغت أرزاق الله عليهم، حتى ينفقون مئات الألوف، بل الملايين على حفلات ومهرجانات للإبل والشعر، ونحوها مما لا تقرب إلى الله، ولا تخدم دينه ولا تفيد وتنفع عباده، في مشاريع صحية أو تعليمية أو اجتماعية، أبهذا الكفران للنعم ينزل الغيث؟ ويسقى العباد؟
أبهذا الإسراف والتبذير ورمي نعم الله في صناديق النفايات يعم الرخاء، ونسلم من الفتن والبلاء؟!
قال تعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
وقال: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)[القصص: 58].
ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه عن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة وذكر منهم: "ويؤتى بالرجل من أهل الغنى والإنفاق، فيعرفه نعمه فيعرفها، فيقول الله: ما صنعت بها؟ فيقول: يا رب ما تركت من سبيل تحب أن أنفق فيه إلا أنفقت".
وفي رواية: "كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت وتقول الملائكة: كذبت وإنما تصدقت ليقال فلان جواد وقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب على وجهه ثم يلقى في النار" نسأل الله العافية.
هذا جزاء المتصدق والمنفق في وجوه الخير والمعروف التي يحبها الله، ولكنه يريد الفخر وكلام الناس، فكيف بمن لا ينفق في غير وجوه الخير يريد الفخر والخيلاء؟!
أيها الإخوة في الله: ألم يسمع المطففون في المكيال والميزان، أهل الخديعة والغشش في البيع والشراء، ثمارا وزروعا وسيارات ومقاولات وغيرها، ألم يسمعوا قول المصطفى -عليه السلام-: "ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين - يعني الشدة والقحط- وشدة المؤنة وجور السلطان".
وفي رواية: "ولا طففوا المكيال إلا حبس عنهم النبات وأخذوا بالسنين" نعوذ بالله.
ما لبعضنا تهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للمسلمين.
ناهيكم عما ابتلي به كثير من الناس اليوم من الربا والتعامل مع بنوكه الربوية، والتي بعضها زورا وبهتانا تسمي نفسها إسلامية، وهي تتعامل بالربا والحرام صراحة دون لا خوف ولا وجل.
وناهيكم عن الزنا واللواط والسكر، والتبرج والسفور، والاختلاط والمخدرات والفواحش التي بسببها محقت البركات، وحلت النكبات على الناس والبهائم والنباتات، وحتى الجمادات -ولا حول ولا قوة إلا بالله-.
فالصلوات عند كثير من الناس قد ضيعت، والمحرمات قد انتهكت، وأركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد اهتزت، والنعم قد خربت، والغيرة على المحارم قد تضعضعت، والمعاملات قد فسدت، والربا قد فشا، وشأن المعازف والمزامير قد علا، وقد تقرر بما صح من أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن منع الزكاة، وأكل الحرام، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خاصة هذه الأمور تمنع القطر من السماء وتحول دون إجابة الدعاء.
فالسماء -عباد الرحمن- لا تمنع خيرها، ولا تحبس قطرها وبركاتها إلا إذا جفت ينابيع الخير من القلوب، واضمحلت الفضائل من النفوس، وأنَّت الأرض من المنكرات والمخالفات، عند ذلك يكون القحط والبلاء، والجفاف والمجاعات وتتوالى المحن والمصائب.
فرحم الله امرءا استعجل توبته، وأقلع عن خطيئته، وندم على فعلته، وبادر منيته.
روى ابن قدامه في كتاب التوابين قال: لحق بني إسرائيل قحط على عهد موسى -عليه السلام-، فاجتمعوا إلى موسى، وقالوا: يا نبي الله ادع لنا ربك يسقنا الغيث، فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء ليستسقوا وهم سبعون ألف أو يزيدون، فقال موسى: إلهنا اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع، والشيوخ الركع، فما ازدادت السماء إلا تقشعا، وذهب السحاب الذي كان في السماء، وما ازدادت الشمس إلا حرارة، فقال موسى: يا رب استسقيناك فلم تسقنا، قال: يا موسى إن فيكم عبدا يبارزني بالمعصية منذ أربعين سنة، فمره أن يخرج من بين أظهركم، فبشؤم ذنبه منعتم القطر من السماء، قال موسى: يا رب عبد ضعيف، وصوتي ضعيف، فأين يبلغ وهم سبعون ألف أو يزيدون؟! فقال الله: يا موسى منك النداء وعلينا البلاغ، فقام موسى ينادي فيهم قائلا: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله بالمعصية أربعين عاما أخرج من بين أظهرنا، فبشؤم ذنبك منعنا القطر من السماء، فأوصى الله إلى موسى: أن هذا العبد تلفت يمينا وشمالا لعله يخرج غيره، فلم يخرج أحد، فعلم أنه المقصود بذلك، فقال في نفسه: إن خرجت افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن بقيت هلكت وهلكوا معي جميعا بالقحط والجدب، فما كان منه إلا أن أدخل رأسه في ثيابه، وقال: يا رب عصيتك أربعين وأمهلتني، واليوم قد أقبلت إليك طائعا تائبا نادما، اللهم فاقبلني واسترني ولا تفضحني بين هؤلاء الخلق يا أكرم الأكرمين، فلم يستتم الكلام حتى علت السماء سحابة بيضاء، فأمطرت كأفواه القرب، فقال موسى لربه: يا رب سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد، فقال الله: يا موسى سقيتكم بالذي قد منعتكم به -أي بنفس العبد-، قال: رب أرني هذا العبد التائب النادم، قال: يا موسى لم أكن لأفضحه وهو يعصيني أفأفضحه وهو يطيعني؟!
فلا إله إلا الله ما أحلم الله على من عصاه؟ وما أقربه ممن تاب إليه ودعاه؟!
وما أعظم أثر الذنوب والمعاصي -عباد الله-، فها هو عبد واحد يمنع الله القطر عن الأمة بسببه، فكيف بنا وقد تلبسنا جميعا بالذنوب والمعاصي، وجاهرنا الله بالمنكرات والكبائر؟!
قال مجاهد -رحمه الله- عند تفسير قوله تعالى: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)[البقرة: 159]. قال: إذا جاءت سنة -أي قحط وجدب- قالت البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم".
وقال أيضا: "تلعنهم دواب الأرض وما شاء الله، حتى الخنافس والعقارب تقول: نمنع القطر بذنوبهم".
وقال أبو هريرة: "إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
أما بعد:
فإن الواجب علينا تجاه نعمة الماء، وبلية القحط والجدب الحاصلة؛ هجر الذنوب والمعاصي والتوبة إلى الله -تعالى-، والإكثار من ذكر الله والاستغفار، وعلينا شكر نعمة الله علينا بالماء، وغيره، وذلك بالمحافظة عليه، وعدم الإسراف فيه، فبسبب الإسراف يحرم العبد محبة الله القائل: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31].
فينبغي تعليم الأولاد كبارا وصغارا الاقتصاد في استعمال الماء، وينبغي التأكيد على استخدام الخادمات في البيوت والعمال وغيرهم وعدم الإسراف فيه؛ لأن الإسراف في المياه أخذ صورا عجيبة، وأوضاعا غريبة، لا يرضاها الله ولا يحبها".
والإسراف سبب كل جفاف، وقد كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في المدينة وكانت المدينة ذات مياه وافرة، و زروع وحدائق، ومع هذا فقد كان رسولكم - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بصاع، ويتوضأ بمد.
فأين هذا ممن يفتح صنابير المياه على أعلى حد ليغسل يده أو رجله، أو يفرش أسنانه، وهو ينظر للماء ينصرف وكأنه لا يعنيه؟
وأين هذا ممن يغتسل قرابة النصف ساعة إلى الساعة ودش الماء مفتوح؟!
جاء أعرابي فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوضوء؟ فأراه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثا ثلاثا، ثم قال: "هذا الوضوء، فمن زاد على هذا -أي على الثلاث- فقد أساء وتعدى وظلم"[رواه ابن ماجه وأحمد].
هذا في الوضوء أساء وتعدى وظلم، فما بالكم إذا كان الإسراف وإهدار الماء في غير الوضوء؟ ألا يكون إساءة وتعديا وظلما من باب أولى؟!
أيها الإخوة في الله: إن مصيبة البعض منا مع الإسراف في الماء أنهم لا يقدرون هذه النعمة حق قدرها وعظيم حاجة العباد والبلاد لها، فكبرت كلمة تخرج من أفواه بعض الناس عندما يقولون: أي حاجة لنا في الأمطار، ولم ندع الله ونستسقي ونستغيث دائما ألا يكفينا تحلية مياه البحر؟!
فهذا القائل لم يفكر إلا في نفسه وغفل عن القدر العظيم الحاصل بتأخر نزول الأمطار، أو نقصان الماء على البهائم والزروع والأرض كلها، وغفل عن قدرة الله أن يعاقبه هو أو غيره في يوم من الأيام، فلا يجد شربة ماء يبل بها ريقه، وصدق الله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ)[الملك: 30].
وقال سبحانه: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة: 68-70].
فلنصدق -عباد الله- في التوبة إلى الله، وفي الدعاء، ولنلجأ إليه سبحانه، فلا كاشف للكروب سواه، ولا دافع للضر أحد عداه، ووالله إن علم الله منا صدق اللجأ والحاجة، وصدق الدعاء والاضطرار ليجيبن دعاءنا كما وعد، فقد استجاب سبحانه دعاء نملة صغيرة من دواب الأرض، ففي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خرج سليمان ابن داود -عليهما السلام- يستسقي، فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تدعوا وتقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك، فإما أن تسقينا وترزقنا وإما أن تهلكنا، فقال سليمان وقد سمع دعائها: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم" فسقاهم الله.
ولنعلم -أيها الإخوة المؤمنون- أنه لابد مع الدعاء من طاعة الله، والاستجابة لأوامره، فدعاء بدون استجابة وانقياد لا يقبل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].
وتأملوا معي هذه الحادثة: حدث محمد بن سويد قال: إن أهل المدينة قحطوا، وكان فيها رجلا صالحا ملازما لمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبينما هم في دعائهم واستغاثتهم إذ بالرجل الصالح يرى رجلا عليه طمران خلقان، فصلى ركعتين أوجز فيهما ثم بسط يديه إلى الله، فقال: يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة، فلم يرد يده، ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغيم، وأمطروا مطرا غزيرا، حتى صاح أهل المدينة مخافة الغرق، فقال الرجل: يا رب إن كنت تعلم أكفهم قد اكتفوا فارفع عنهم، فسكن المطر، ثم تبعه حتى عرف موضعه، ثم بكر عليه في اليوم التالي، فنادى: يأهل البيت فخرج الرجل الداعي، فقال له: قد أتيتك في حاجة، قال: وما هي؟ قال: تخصني بدعوة، قال: سبحان الله، أنت أنت؟ يعني في صلاحك وتقواك وتسألني أخصك بدعوة؟ ثم قال أو رأيتني؟ قال: نعم قال: فما الذي بلغك ما رأيت حتى استجاب الله لك؟ قال: أطعت الله فيما أمرني ونهاني فسألته فأعطاني. وصدق رحمه الله.
فلنتق الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ولنتب إليه توبة نصوحا، ولنكثر من الاستغفار والدعاء، فإن الله رحيم ودود.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علين الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا اللهم أغثنا.
اللهم إنا ندعوك من بعد انقطاع وغلاء البهائم وجدب الأرض، راغبين في رحمتك راجين من فضلك، اللهم قد انصاعت جبالنا، واغبرت أرضنا، اللهم فاسقنا غيثك ولا تجعلنا من القانطين، اللهم ولا تهلكنا بالسنين.
اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا طبقا سحا مجللا عاما نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل، اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر والباد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق.
اللهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع وأنزل علينا من بركاتك واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا على طاعتك وبلاغا إلى حين، اللهم إنا خلق من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الأعراف: 23].
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والبلاء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين، يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم اصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وألف بين قلوبهم.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على المصطفى الهادي، البشير النذير، إمامنا وقدوتنا، فالدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يصلى على النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ كما جاء في الأثر.