البحث

عبارات مقترحة:

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

بدر أم المعارك

العربية

المؤلف صالح بن محمد الجبري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. منزلة بدر بين المعارك .
  2. صور وملامح من المعركة .
  3. دروس وعبر من المعركة .

اقتباس

في هذا الشهر المبارك، وفي ذكرى معركة بدر الكبرى، نقول: إن معركة بدر نقطة الضياء الأولى في حياة المسلمين الجهادية التي انبثق منها نور الإسلام إلى أقطار الدنيا، فكانت فاتحة عزٍّ في تاريخنا العسكري إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

الخطبة الأولى:

في هذا الشهر المبارك، وفي ذكرى معركة بدر الكبرى، نقول: إن معركة بدر نقطة الضياء الأولى في حياة المسلمين الجهادية التي انبثق منها نور الإسلام إلى أقطار الدنيا، فكانت فاتحة عزٍّ في تاريخنا العسكري إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

بدر التي أرادها الله أن تكون فرقانا بين الحق والباطل، وإيذانا إلى حياة كريمة تجعل المسلم متحركا ينبض بالنشاط، ممزوجا بالقوة والحيوية.

في هذه الغزوة عظات وعبر تأخذ بيد المسلم إلى حيث القدوة والمثل الأعلى في السلم والحرب، وتوضح أن القتال لا بد منه حين يستعلي الظلم ويتجبر الكبر؛ ليعود الحق إلى نصابه، وتعلو كلمته في سماء الكون ونهج الحياة.

عظات وعبر من غزوة بدر:

أولاً: هرب المسلمون بحياتهم وعقيدتهم، من مكة التي لم يرع الكفار فيها حرية الاعتقاد فصبوا جامّ غضبهم على المؤمنين عدوانا وإيذاء وفتنة، إلى المدينة حيث ينعمون بحرية الاعتقاد والعبادة، فلا رقيب ينغص عليهم، ولا سفيه يمنعهم من أداء شعائرهم.

خرجوا من مكة وقد استولى المشركون على دورهم ورياضهم وأموالهم، فكان لا بد من اهتبال فرصة يستعيد فيها المسلمون جزءا من حقوقهم المسلوبة، وأموالهم المنهوبة؛ وحق طبيعي أن يسعى المظلوم إلى استنقاذ بعض ما سلب منه واغتصب.

وكان أبو سفيان على رأس قافلةٍ لقريشٍ عائدةٍ من الشام قد دنا من المدينة في طريق عودته على حذر، فشعر بالمسلمين وقد كانوا يتتبعون أخبارها، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها؛ لعل الله ينفلكموها"؛ فخف أقوام وتثاقل أقوام؛ لظنهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لن يلقى حربا.

ثانيا: يريد المسلمون حيازة الأمور دون عناء، وهذه طبيعة إنسانية عامة، يبغون القافلة كي يستغنى المهاجرون عن الأنصار الذين أحلوهم بيوتهم وأموالهم واستقبلوهم بحب ومودة وأخوة؛ كيلا يثقلوا عليهم، فقد طالت الأيام، حتى تجاوزت منذ وطئ الرسول -صلى الله عليه وسلم- يثرب الثمانية عشر شهرا، وهذا غاية ما فكر فيه المسلمون في حياتهم التي بدأت تستقر في ملاذهم الجديد.

لكن الله -تعالى- يريد لهم شرفا لا يفارقهم إلى قيام الساعة، وأن يكونوا الرواد الأوائل في الذود عن دعوة الله -تعالى-، والقدوة الأمثل لخلفهم في الجهاد في سبيل الله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 7-8].

ثالثا: معركة بدر قد تكون المعركة الوحيدة في التاريخ التي عرفت نتيجتها منذ البداية؛ فقد وعد الله المسلمين حيازة أحد الأمرين: إما القافلة، وإما النصر على المشركين؛ وقد نجت القافلة فسارت غربا، ووجد المسلمون أنفسهم وجها لوجه أمام جيش المشركين يسعى إلى حتفه دون أن يدري أن الله -تعالى- حكم بانكساره وتدميره.

فقد كان المسلمون معسكريِن شمال مرتفع بدر، وجيش المشركين يتجه نحوهم جنوبه، والقافلة تجدّ مسرعة غربا، وكانوا متقاربين دون أن يشعر أحد الثلاثة بقربه من الاثنين الآخرين!.

صحيح أن المسلمين يبحثون عن القافلة وهي على مرمى حجر منهم دون أن يروها، كذلك كان المشركون يجدّون السير نحو المسلمين دون أن يعلموا أنهم دنوا منهم على مرمى حجر كذلك، إنه تخطيط الله وقدره! (إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:42].

وحتى يغري الله -تعالى- الطرفين بالقتال، وكان عدد المسلمين يعادل ثلث عدد المشركين، والمشركون في حدود ألف مقاتل، جعل كلا من الطرفين يبدو للآخر في المعركة قليل العدد مما يسهل عليه قتاله دون أن يخاف منه أو يحسب له حسابا يجعله يتردد في البدء بالقتال: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) [الأنفال:44].

لذلكم؛ عندما بدأت المعركة اشتبك الفريقان، وكل فريق يظن أن الفريق الآخر أقل عددا وعدة منه.

خامسا: الرسول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، يستشير المسلمين، ويأخذ بآرائهم؛ لأنه قدوة للمسلمين، يعلمهم أن القائد -مهما نضج فكره واشتد ذكاؤه- عليه أن يضيف إليه عقول أصحابه وجنوده فيزداد توثيقا لموقفه أو تصويبا له وإحكاما.

وهكذا فعل -صلى الله عليه وسلم- حين علم أن المشركين خرجوا يريدون قتاله، فقال: "أشيروا علي أيها الناس"، فتكلّم الصديق والفاروق والمقداد فأحسنوا .

ثم قال: "أشيروا علي أيها الناس"، يريد الأنصار الذين عاهدوه أن يحموه في المدينة مما يحمون منه نساءهم وأولادهم وأموالهم، وها قد خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المدينة، فهل يقاتلون معه؟ فأكد سعد بن معاذ زعيم الأوس، أنهم أعطوا رسول الله العهود والمواثيق على السمع والطاعة في كل شيء وأنهم جند الله في كل ما يأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويدعو إليه.

وحين نزل المسلمون أدنى ماء من بدر وبينهم وبين المشركين آبار كثيرة، جاء المنذر بن الحباب، وسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأدب جمّ: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل: أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم أو نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فأشار المنذر عليه أن ينزل بأدنى ماء من العدو، ويغوروا بقية الآبار، ويبنوا حوضا على البئر، فيشرب المسلمون ولا يشرب المشركون، ووافقه الرسول الكريم وفعل المسلمون ما أشار به المنذر.

وأشار سعد على الرسول أن يبنوا له عريشا يكون فيه ويعدّوا له ركائب ويحرسه بعض المسلمين بقيادة سعد -أي: غرفة عمليات عسكرية تشرف على المعركة من قريب- فإن أظهرهم الله كان ذلك ما أحبه المسلمون، وإلا انطلق الرسول وحراسه إلى المدينة ولحق بمن بقي فيها ليبدؤوا الدعوة من جديد، فكان ما أشار به سعد، وبُني العريش.

سادساً: القائد الناجح هو الذي يكون كل حين بين جنوده يحضهم ويشجعهم، فإذا رأوه بينهم يقاتل ويتقدم الصفوف قالوا ليست أرواحنا أفضل من روحه ولا حياتنا أغلى من حياته فيتقدمون مطمئنين، وإذا رأوه ينأى بنفسه عن المعركة ويحضهم على القتال وهو بعيد عنهم استنكروا نصرته وقالوا ليست روحه بأغلى من أرواحنا ولا حياته بأفضل من حياتنا.

وبدأت الهزيمة في النفوس قبل بدء المعركة؛ لذلك نجد أن البطل المقدام علي بن أبي طالب -وهو من هو في شجاعته وفروسيته- يقول مادحاً الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق نتقي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه".

وكان رسول الله يرتب الصفوف، ويمشي بينها يحرض على القتال، ويرفع الروح المعنوية إلى أقصى حد قائلا: "والذي نفس محمد بيده! لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة"، فقال عمير بن الحمام، وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ! أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات وقال: والله إنها لحياة طويلة، وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.

ومما شجع المسلمين وثبتهم في القتال بشرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن النصر لهم، كما أنه أراهم مصارع القوم.

سابعا: من كان يقاتل في سبيل الله نَصَرَهُ الله -تعالى- وأيّده بمدد من عنده، ومن قاتل لغرض في نفسه رفع الله يده عنه، فالمسلمون كلهم لله، وقصدهم أن يرضوه -تعالى-، وحياتهم وهبوه إياها، فكان الله -تعالى- معهم يؤيدهم بنصره حين استغاثوا به وسألوه المدد: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9].

وليست الملائكة الذين ينصرون، إنما النصر من عند الله -تعالى-، وما الملائكة إلا بشرى للنصر: (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:10].

فثبّتت الملائكة المسلمين بأمر من الله، وقاتلت معهم في هذا اليوم، فضربت أعناق المشركين وأصابعهم: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال:12].

والنصر أولاً وأخيرا من عند الله، وما كان قتال المسلمين إلا ستاراً بشرياً لإرادة الله -تعالى- في خذلان المشركين ورفع راية الإسلام: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 17-18].

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

ومن العبر والعظات في هذه الغزوة العظيمة:

إنه قد تبين لنا أهمية التضرع لله وشدة الاستعانة به، فقد سمعنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظل يدعو طوال الليل، ظل يدعو الله ويلجأ إليه ويناشده، ورغم أن الله قد وعده بالنصر، ورغم أنه متأكد من هذا كله، لكنه -لأنه كان عبدا حقيقيا لله- كان يشعر أنه بحاجه لله في كل لحظة.

إن هذه العبودية التي اتخذت مظهرها الرائع في طول دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وشدة ضراعته لربه، أن يؤتيه النصر، هي الثمن الذي استحق به ذلك التأييد الإلهي العظيم في تلك المعركة.

وقارنوا هذا الموقف بموقف الكفار المتغطرس المليء بالغرور والوقاحة، فنالوا بسبب ذلك جزاءهم الرادع في الدنيا، ولَعذاب أشد وأبقى.

وقد أنزل الله سبحانه -تعالى- قرآنا في ذلك يبين لنا أن العبودية له وطاعته وطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي الطريق الوحيد للحصول على عون الله ونصره، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الأنفال:45-47].

وما ضاع كثير من المسلمين في هذا العصر إلا بسبب أنهم قد تركوا طاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وتنازعوا ففشلوا، ولن ينصلح حالهم إلا بالتخلص من أقوى عوامل الهزيمة، وهي الخروج عن طاعة الله ورسوله، وعندئذ يحقق الله لهم وعده بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]، وقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47].

ومن العبر أيضا: يبين الله -سبحانه وتعالى- أن تدميره للظلَمة وأعداء الدين قد يستغرق زمنا طويلا، يعني ذلك أن سنن الله لا تتم بين عشية أو ضحاها، فقد يموت أنبياء، وقد يموت قادة، وقد يستشهد مجاهدون قبل أن يتحقق النصر آخر الأمر؛ لذلك يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) [يونس:46]، ويقول: (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ) [الزخرف:42].

وقد يتساءل البعض ويقول: لماذا طول الزمن؟ والجواب: متى أثبت المؤمنون حقيقة إيمانهم بالجهاد والدعوى والصبر والابتلاء، وأثبت الكفار والمنافقون حقيقة إجرامهم بالبطش والفساد، فوقتها ينزل أمر الله، كما قال -سبحانه-: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) [الأنفال:7].

وقتها ينزل نصر الله على المؤمنين حتى وهم في حالة الضعف الشديد والحاجة؛ مصداقا لقوله في حق أهل بدر، عندما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال:26].

وفعلا؛ فقد آواهم الله وأعزهم ونصرهم، وجعلهم يكسبون المعركة على هذا النحو الغريب، حتى قال قائل في مكة: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا! وهذا مصداق قوله -تعالى-: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال:17].

وتأكيدا لهذه الحقيقة وجه الله الخطاب إلى الكفار، وعلى سبيل التقريع والتهكم؛ لأن أبا جهل وغيره من رؤساء المشركين قالوا يوم المعركة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم: أقْطَعُنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه؛ فأحنه الغداة"، أي: أهلكه الغداة يوم بدر، فأنزل الله -تعالى-: (إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:19].

(إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ)، أي: إن تطلبوا القضاء بينكم وبين محمد فقد جاءكم الفتح، جاءتكم الهزيمة في بدر، (وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) أي: إن تتركوا الكفر وحرب المسلمين فنهو خير لكم، (وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ) نسلط عليكم المؤمنين مرة أخرى، (وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

وهنا يتضح يا إخوة، ومن موقف أبي جهل، أن العبرة ليست بما يعتقد الإنسان من أنه قد يكون على صواب في اعتقاداته وعباداته ومعاملاته؛ بل العبرة هي: هل ما يعتقده الإنسان ويعمله هو الحق الذي يريده الله فعلا منه؟.

أخيراً؛ من العبر أنه في هذه المعركة قد برزت قوة العقيدة، وثبات المبدأ، وأهمية الولاء لله ورسوله؛ فقد قاتل الابن أباه، والأخ أخاه، والقريب قريبه؛ فأين دعاة القومية والعنصرية والذين يزعمون زوراً وكذبا أن رابطة الدم واللغة أقوى من رابطة العقيدة والدين؟ فهل قاتل المسلمون أقرباءهم في سبيل القومية؟ أم قاتلوهم في سبيل العقيدة والدين؟.

ولهذا نرى في هذا العصر -وللأسف الشديد!- أن كثيرا من المسلمين قد ضيعوا الولاء لله ولرسوله وللدين، وأصبحوا يوالون من حادّ الله ورسوله.

بل إننا صرنا نرى ونسمع عن أناس كلما سمعوا بأنباء صراع بين المسلمين وأعدائهم من الكفار والمنافقين والعلمانيين، والذين لا يحكمون بما أنزل الله ويحاربون ذلك، وقفوا مع أعداء الله وتمنوا لو أنهم يبطشون بالمسلمين، والذين يصفونهم بالتطرف والأصولية كما يزعمون، والسؤال لأمثال هؤلاء هو: أين ولاؤهم لله ولرسوله وللإسلام؟ أيّ إسلام هذا الذي يدعيه صاحبه وهو يتربص الدوائر بالمسلمين؟.

هذه صفات المنافقين الذين وصفهم الله مخاطبا رسوله بقوله: (إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ) [التوبة:50].

لهذا يردّ الله عليهم بقوله: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) [التوبة:52].

ولا يظن أحد بأنه ما دام يصلي ويصوم ويزكي ويفعل بعض شعائر الإسلام، لا يظن أنه يسلم عند الله إذا ما والى أعداء الله وعادى أولياء الله، يقول عبد الله بن مسعود: "لو أن رجلاً قام يعبد الله بين الركن والمقام سبعين سنة، لبعثه الله مع من يحب يوم القيامة".

فمَن يريد أن يبعث يوم القيامة مع المنافقين والعلمانيين وأعداء الله الذين لا يحكمون بما أنزل الله؟ من يريد ذلك؟.

لهذا علينا أن نعرف كيف نحب في الله وكيف نبغض فيه، حتى نسلم في الدنيا والآخرة؛ فهل نفعل ذلك؟ نرجو ذلك ونتمناه. وفّقنا الله لما يحب ويرضاه.

اللهم...