المعطي
كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
لقد طُوِيَت صحيفةُ رمضان، وانقضَت سوقٌ كانت عامِرةً بالخيرات والحسنات، ربِح فيها من ربِح، وخسِر من خسِر، وحُرِم من حُرِم. فمن كان يعبُد رمضان فإنه قد ولَّى وانقضَى، ومن كان يعبُد اللهَ فإن الله هو ربُّ الشهور كلِّها، فبِئسَ القوم لا يعرِفون الله إلا في رمضان؛ لأن في بقيَّة الشهور والأيام من أصول الطاعات المشروعة في رمضان كما هي الحالُ في رمضان، غيرَ أنها في شهر رمضان تتناسَقُ بكيفيَّةٍ فريدةٍ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) [الأنعام: 96]، يُقلِّبُ الليلَ والنهار عبرةً لأُولي الأبصار، له الحمدُ في الأولى والآخرة، وله الحُكمُ وإليه تُرجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ من حجَّ لله وصام، وصلَّى وقام، عليه من الله أفضلُ صلاةٍ وأزكى تسليم، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسِي بتقوى الله -سبحانه-؛ فهي زادُ السالكين، وعُدَّةُ الذاكِرين، بها تُرفعُ الدرجات، وتُمحَى الذنوبُ والسيئات: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].
أيها الناس: سُنَّةٌ لا تتبدَّل يُداوِلُها الله بين الناس، فيُغشِي الليلَ النهارَ يطلُبُه حثيثًا، يتنقَّل المرءُ خلالها من زادٍ إلى زاد، ومن طاعةٍ إلى مثيلَتها، وينتهِزُ المرءُ فيها كلَّ فرصةٍ سانِحةٍ له لأن الميدان سِباق، والأوقات تُنتَهَب، وما فاتَ خيرٌ إلا بالكسل، ونِيلَ مثلُه إلا بالجدِّ والعزم.
إذ كل الناس يغدُو فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها، والعاجزُ عن اغتنام المواسِم هو من أتبعَ نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأمانيّ.
إنها دُنيا كالمائدة؛ شِبَعها قصير، وجوعُها طويل، فمن سلكَ مسلكَ قدوته -صلى الله عليه وسلم- فإنه قد استجابَ لأمر ربِّه: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
أيها الناس: كأنَّ شيئًا لم يكُن إذا انقضَى، وما مضَى مما مضَى فقد مضَى، بالأمس كنا نستنشِقُ عبيرَ شهرٍ كريمٍ بملء صدورنا وملء أسماعنا وأبصارنا، ما بين مُقِلٍّ فيه ومُكثِر، غيرَ أن سُنَّة الله قد دلَّت على أن لكل بدايةٍ نهاية، ولكل تمامٍ نقصًا، وأن كل شيءٍ هالِكٌ إلا وجهه -سبحانه-؛ فهو الآخر وليس بعده شيء، فلا دائمَ إلا الحي الذي لا يموت: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس: 39].
لقد طُوِيَت صحيفةُ رمضان، وانقضَت سوقٌ كانت عامِرةً بالخيرات والحسنات، ربِح فيها من ربِح، وخسِر من خسِر، وحُرِم من حُرِم.
فمن كان يعبُد رمضان فإنه قد ولَّى وانقضَى، ومن كان يعبُد اللهَ فإن الله هو ربُّ الشهور كلِّها، فبِئسَ القوم لا يعرِفون الله إلا في رمضان؛ لأن في بقيَّة الشهور والأيام من أصول الطاعات المشروعة في رمضان كما هي الحالُ في رمضان، غيرَ أنها في شهر رمضان تتناسَقُ بكيفيَّةٍ فريدةٍ عن بقيَّةِ الشهور.
وإلا فإن الصدقة، وقيام الليل، وصوم النوافِل، وتلاوة القرآن، والتسبيحَ والتهليل، وكل أنواع الجُود قد حضَّ عليها الخالقُ الكريمُ في غير رمضان.
ولذا فقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان أجودَ الناس -أي: في عُموم حياتِه-، غيرَ أنه أجودُ ما يكونُ في رمضان.
وإنه لعيبٌ في المرء أن يضعُفَ بعد قوةٍ، ويُسيءَ بعد إحسانٍ، وإن المؤمنَ المُلهَم هو الخائِفُ الراجِي الذي توسَّط يوم تبايَنَ آخرُون، يعبُد اللهَ في كل حينٍ، وعلى كل حالٍ، يستزيدُ في زمن الزيادة، ويعتدِلُ في زمن الاعتِدال، لا يفتُرُ عن الطاعة، ويُتبِعُ الحسنةَ الحسنة، ويظهرُ من سُلوكه وعملِه بعد رمضان ما يُشيرُ إلى قبول عملِه؛ لأنه زمَّ نفسَه عن الحَور بعد الكَور، ولم يقَع فيما حذَّر منه الله بقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) [النحل: 92].
فرحِمَ الله امرأً استقامَ على طاعة ربِّه بعد رمضان، وأمسكَ بما عاهَدَ عليه خالِقَه من التوبة النَّصُوح، وسُؤال مغفرة الذنوب، والعِتق من النِّيران؛ لأن الهوَى مُكايِد، ومن استمسكَ بالعُروة الوُثقى سلِم من هواه، وجعل صِلَتَه بالله لا تنفكُّ مهما تقلَّبَت الأيام والشهور.
فاستدامَ على الطاعة، وروَّضَ نفسَه على التكيُّف مع العبادة بحسب أوقاتها وتفاضُلِها دون كلَلٍ أو ملَلٍ.
ولئن كانت الطاعةُ تحتاجُ إلى مُجاهدةٍ وصبرٍ؛ فإن الاستقامةَ عليها تحتاجُ إلى مُجاهدةٍ أكبر، وصبرٍ أعظم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت: 30، 31].
فيا أهل التوبة: استيقِظوا، ولا ترجِعوا بعد رمضان إلى ارتِضاع ثديِ العجز والكسَل بعد الفِطام؛ فإن النكسةَ أعظم من المرض نفسِه، وذنبٌ بعد التوبة أقبحُ من ذنوبٍ قبلَها.
ألا إن من فعلَ ما يُوعَظُ به كان خيرًا له وأشدّ تثبيتًا في الدنيا والآخرة على عملٍ صالحٍ ونعيمٍ مُقيمٍ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27].
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكرِ والحكمة، قد قلتُ ما قلتُ إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفرُ الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه.
وبعد:
فإن الله -جلَّ شأنُه- قد شرعَ لنا عيدًا فيه فرحٌ وسرورٌ، وسَعةٌ بعد شهر جدٍّ واجتهادٍ وشدٍّ للمِئزَر، لحكمةٍ بالغةٍ يعلمها -سبحانه-، يتجلَّى بعضُ معانِيها في أن يُعوِّدَ المُسلمُ نفسَه وجسدَه على تحمُّل الحياة بفُصولِها ونوائِبِها، وأنه ينتقلُ من شهر تسبيحٍ وقيامٍ وقراءةٍ وبُكاءٍ وابتِهالٍ إلى عيدِ محبَّةٍ وفرحٍ وصِلةٍ وسَعةٍ وسُرور.
فإنه -سبحانه- ختمَ آيات الصيام بالتقوى، لما فيه من الطاعات المُقرِّبَة إليه -سبحانه-، وختمَ بالتكبير في العيد، لما فيه من الشُّكر والتيسير والفرَح تفاؤُلاً بقبول شهر الصوم: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
ألا وإن من أعظم ما يُعينُ على الثبات على الطاعة: أن يفرحَ المرءُ في العيد باعتدالٍ، فلا يطغَى في فرَحه بما يُغضِبُ اللهَ، ولا يُضيِّقُ على نفسِه فيما جعلَ الله له فيه سَعَةً حتى لا يكونَ حرَضًا أو يكون من الهالِكين.
وإنما يفرح فرَحَ الأقوياء بربِّهم لا فرَح اللاَّهِين السادِرين، الذين تُدرِكُ من أحوالهم أن شهرَ رمضان كان حَجرًا للَهثِهم العابِث، وفرَحهم الطاغِي.
وخيرُ الأمور الوسَط، ولنتذكَّر وصيَّةَ المُصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من صامَ رمضان ثم أتبَعَه ستًّا من شوال كان كصِيام الدَّهر كلِّه". رواه مسلم.
ألا فلا يُنسِيَنَّكم -عباد الله- ما أنتُم فيه من عيدٍ وسُرور ما يُعانِيه إخوانٌ لكم لم يعرِفوا العيد ولا الفرحةَ ولا السُّرور، فالشهورُ عندهم على حدٍّ سواء بين دوِيِّ القنابل وصُروف الحروب المُدمِّرة، لا تغمِضُ أجفانُهم إلا لُمامًا، لم يخْلُ بيتٌ فيهم من قتيلٍ أو جريحٍ أو شريدٍ، ما انفكَّوا مظلومين حُفاةً جِياعًا ضُعفاء، يفترِشون الأرض، ويلتحِفون الهواء.
فاللهَ اللهَ أن تُنسِيَكم فرحةُ العيد أحزانَهم وآلامَهم، فلا تحرِموهم عاطفةً قلبيَّةً بالدعاء، ولا عاطفةً ماديَّةً بالدعم والإغاثة والمُواسَاة؛ فإن الله في حاجة العبد ما كان العبدُ في حاجَة أخِيه.
هذا وصلُّوا -رحمكم الله- على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأَ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائِكتِه المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون-، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ صاحبِ الوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين وتابِعي التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالهم في أراكان، وأصلِح أحوالهم في فلسطين، وفي سوريا، وفي مصر يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين.