الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المعاملات |
إن الربا يزيد المال في الظاهر فتهفوا النفوس إليه، وإن الزكاة تُنقص المال في الظاهر فيحجم الناس عنها، ولكن سنة الله تعالى تقضي بأن هذه الزيادة في الربا تعود على المال وصاحبه بالمحق، كما أن الجزء المزُكى يعود على المال وصاحبه بالبركة النماء؛ ولذا قيل في الزكاة إنها النماء والزيادة، وهذه السنة الربانية المحكمة يعرفها المؤمنون؛ لأنهم يؤمنون بالغيب، ويجهلها الماديون، لأنهم ينكرون الغيب
الحمد لله الغفور التواب، الكريم الوهاب؛ خلق الخلق ودبرهم، وكَفَل أقواتَهم وأرزاقَهم، نحمدُه على ما أعطى، ونشكرُه على ما أولى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تبارك اسمُه، وتعالى جدُه، ولا إله غيرُه ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [الزُّخرف:84-85] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بعثه الله تعالى بالدين المبارك الذي عمَّت بركتُه الأرضَ جميعا، وأنزل عليه كتابا مباركا يهدي العباد للتي هي أقوم في الأمور كلها ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) [الأنعام:155] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أنه مالك الملك، ومدبر الأمر، ورازق الخلق، وذلك من بركاته سبحانه وتعالى على عباده ( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) [غافر:64].
وفي دعاء الوتر نقول: " إِنَّهُ لا يَذِلُّ من وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ " رواه أهل السنن.
وعقب كل صلاة نقول في أذكارها البعدية: " اللهم أنت السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ " رواه مسلم.
وهذا الاعتراف الدائم بالرب تبارك جل جلاله هو طلب للبركة منه سبحانه في أمورنا كلها؛ لمسيس حاجتنا إلى البركة التي هي سبب السعادة وهناء العيش ورغده، وخوفا من المحق الذي هو سبب الشقاء والتعاسة والفقر والجوع.
إن البركة والمحق وصفان مؤثران في الأرض وما فيها من أرزاق وأموال، وهما من أفعال الرب جل جلاله، فإذا بارك رزقا قليلا وَسِع الناس كلَّهم مهما بلغوا، وإذا محق شيئا لم يكف صاحبه ولو كان كثيرا، وكما أن البركة هي كثرة الخير ودوامه ولو بدا للناس قليلا، فإن المحق قلةُ الشيء وزواله ولو كان في أعين الناس كثيرا.
وأهل الإيمان يعرفون ذلك بنصوص الكتاب والسنة بخلاف الملاحدة الماديين الذين ينكرون الغيب، ولا يؤمنون إلا بالعد والحساب والإحصاء والميزان، ويظنون أن الله تعالى لما خلق الخلق ضيعهم فلم تكفهم أرزاقهم، وبنظرتهم التشاؤمية، وسوء ظنهم بالله تعالى أوبقوا أنفسهم، وأضروا بغيرهم.
إن ربنا جل جلاله موصوف بالغنى والجود؛ فهو سبحانه الغني الحميد الجواد الكريم ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ ) [سبأ:24] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ يَمِينَ الله مَلأَى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السماوات وَالأَرْضَ فإنه لم يَنْقُصْ ما في يَمِينِهِ " رواه الشيخان.
ومن جوده وكرمه جل جلاله أن يبارك في أرزاق عباده حتى يكفي قليلها كثيرهم، وهو عز وجل حين خلق الأرض، وبسط فيها الرزق، وجعلها مساكن للبشر؛ بارك سبحانه في منافعها ومواردها وأرزاقها فهي تكفي البشر مهما بلغت أعدادهم، وهذه البركة في الأرض ثابتة بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى يصف خلقه للأرض ( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) [فصِّلت:10].
وهذه البركة ثابتة بالحس؛ فإن الناس يقتطعون جزءا يسيرا من الأرض يزرعونه، فينتج من الطعام ما يشبع عددا كثيرا منهم، وأكثر المزارعين في مشارق الأرض ومغاربها يعيشون وأسرَهم طوال حياتهم على ما تنتجه أراضيهم من خيرات، وأكثر البلاد الفقيرة يعيش أفرادها على الزراعة، ولولاها لهلكوا، بدليل أن البلاد التي يحبس عنها المطر، ويصيبها الجفاف يهلك أفرادها من الجوع.
والله سبحانه وتعالى لما بارك الأرض جعل لبركة الخيرات فيها أسبابا إن أخذ الناس بها بارك الله تعالى لهم في أرزاقهم فكفتهم وفاضت عنهم ولو بدت للناس قليلة، كما جعل سبحانه للمحق أسبابا إن أتاها الناس محقت بركة أرزاقهم فلا تكفيهم ولو كانت كثيرة.
إنها سنة ربانية في الرزق والمال والمعاملات التجارية، لا تتبدل ولا تتحول؛ إنْ فهمها البشر وعملوا بمقتضاها بورك لهم في أرزاقهم وأموالهم، فلم يشتكوا ندرة ولا قلة، ولم يجدوا بخسا ولا نقصا، وإن عارضها البشر جرت فيهم سنة الله تعالى فمحقت أرزاقهم، وذهبت بركة إنتاجهم.
ونجد هذا القانون الرباني واضحا كل الوضوح في قول الله تعالى: ( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ) [البقرة:276]، وفي قوله سبحانه: ( وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ الله وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ ) [الرُّوم:39].
إن الربا يزيد المال في الظاهر فتهفوا النفوس إليه، وإن الزكاة تُنقص المال في الظاهر فيحجم الناس عنها، ولكن سنة الله تعالى تقضي بأن هذه الزيادة في الربا تعود على المال وصاحبه بالمحق، كما أن الجزء المزُكى يعود على المال وصاحبه بالبركة النماء؛ ولذا قيل في الزكاة إنها النماء والزيادة، وهذه السنة الربانية المحكمة يعرفها المؤمنون؛ لأنهم يؤمنون بالغيب، ويجهلها الماديون، لأنهم ينكرون الغيب.
ومن سنة الله تعالى مباركة الأموال بالتجارة الحلال، والصدق في البيع والشراء، فتلحق بركة أرباحها المال كله، فيكون مالا مباركا، كما أن من سنته سبحانه محق الأموال بالبيوع المحرمة، والمعاملات الفاسدة المبنية على الكذب والغش والضرر والاحتكار، فيحيط المحق بأصحابها وأموالهم، وقد دل على هذه السنة الربانية أحاديث كثيرة منها: حديث حَكِيمِ بن حِزَامٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا " رواه الشيخان.
وفي حديث أبي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سمع رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول " إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ في الْبَيْعِ فإنه يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ " رواه مسلم.
ولو أمعنا النظر في هاتين السنتين الربانيتين القاضيتين بأن المال يتبارك بالزكاة وبالصدق والنصح في العقود والتجارة، وأن المال يُمحق بالربا وبالكذب والغش في التجارة، ثم نزّلنا هاتين السنتين على واقع البشر - فإننا سندرك يقينا أن المحق قد حاق بالبشر في أرزاقهم بسبب انتشار الربا في أموالهم، وتفشي المحرمات في عقودهم ومعاملاتهم، وأن البركة نُزعت من أرزاقهم بسبب منع الزكاة، وقلة الصدق والنصح في العقود والمعاملات.
وهذا هو السبب الحقيقي الذي يُغفله الناس في تلك الأزمات المالية المتلاحقة، التي تنذر بخطر كبير، نسأل الله تعالى العافية لنا وللمسلمين أجمعين، كما نسأله سبحانه الثبات على الدين، إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) [البقرة:278-279].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم |
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: لنوقن تمام اليقين أن الله تعالى ما ضيع البشر حين خلقهم، وأنه سبحانه قد كفل أرزاقهم، وما من مولود يفد إلى الدنيا إلا ورزقه معه، ولكن البشر أفسدوا في الأرض، حتى ضاقت الأرزاق، ونزعت البركات.
إن الأرض في القرن الأخير قد فاضت بالخيرات، وتحررت فيها التجارات عقب الثورة التجارية، ثم اتسعت الأرزاق أكثر بعد الثورة الصناعية، وزادت أكثر وأكثر بعد ثورتي الاتصال والمواصلات، ولكن الفقر ازداد في الأرض، وكثر الجوع، وتبع ذلك اختلال الأمن، واضطراب الأحوال.
بل بلغ من بطر الناس، وإفسادهم في الأرض عقب السيادة الرأسمالية أن موارد الأرض، وأرزاق البر والبحر؛ قد استُنزف منها خلال مئة سنة فقط أكثر مما استُنزف خلال القرون السالفة منذ خلقت الأرض إلى ما قبل مئة سنة.
والمصانع العملاقة المتعددة تدور آلاتها في الليل والنهار؛ لتنتج ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وآلات الزراعة تستخرج المياه من أعماق الأرض، ويُزرع بها من مساحات الأرض ما لا يدركه البصر، فتُملأ المخازن بملايين الأطنان من الغذاء، ومع ذلك فإن ملياري إنسان تحت خط الفقر، أي ما يقارب ثلث البشر؛ فأين هذا الإنتاج العظيم من الطعام والكساء عن أفواههم وأجسادهم؟!
إن الفساد الرأسمالي في الفكر والتصور والإدارة والعمل قد تسبب في محقٍ عظيم أحاط بالبشر في كل بقاع الأرض، وأسبابُ هذا المحق جاءت به الرأسمالية المتوحشة؛ فالربا الذي هو الركن الأول للمحق لم يكتف الرأسماليون بالتعامل به فحسب، بل فرضوه نظاما ماليا عالميا كان سببا لمحق أموال الناس في كل مكان، والآن يجنون بعض ثماره الفاسدة، ويعانون من محقه الأكيد.
وأما المعاملات المحرمة فأكثر من أن تُحصى في نظامٍ أطلق لكبار المرابين والمقامرين والمتوحشين أن يمتصوا دماء الناس، وينتهبوا أموالهم، ويلعبوا بعقولهم، ويغشوهم في تجاراتهم عبر الدعايات الكاذبة للمنتجات الاستهلاكية التي تنفق الشركات المنتجة أموالا طائلة عليها، لا هدف لها إلا التسويق وخداع المتلقين عنها بأي وسيلة، حتى حولوا الناس إلى مستهلكين دائمين لا ينفكون عن الاستهلاك والإسراف ولو استدانوا لذلك وافتقروا، فكان فعلهم هذا من أعظم الغش والكذب والغرر في التجارات، وتسويق المنتجات، وقد علمنا أن المحق من سنة الله تعالى في أموال أهل الكذب والغش.
وفي مقابل ذلك مُنعت الزكاة؛ لأن الرأسماليين لا يؤمنون بها ولا بأي إحسان ليس له عائد محسوس، وكثير من المتعاملين بالربا من المسلمين لا يؤدون الزكاة، وربما تحايلوا لإسقاطها.
إن أسوأ ما في النظام المالي المهيمن على العالم في هذا العصر أنه شرَّع أسباب المحق ونشرها وفرضها، وحارب أسباب البركة وحال بينها وبين أكثر الناس، وبهيمنة هذا النظام المالي الفاسد عمَّ المحق أموال البشر، ونُزعت البركة من أرزاقهم.
ثم كانت الجريمة الكبرى في ادعائهم أن الأرض لا تسع البشر، وأن مواردها لا تكفيهم، وبناء على ذلك احتكروا موارد الأرض لدولهم وشعوبهم، وحبسوها عن بقية الدول والشعوب، فحاصروها وأفقروها وجوعوها حتى بلغ من ظلمهم أن خمسة عشر بالمائة من البشر ينفقون خمسة وثمانين في المائة من ثروات الأرض، بينما يقتسم خمسة وثمانون بالمائة من البشر خمسة عشر بالمئة من موارد الأرض.
وهذا من أعظم الظلم والبغي ولا سيما أن شعوبا يموت منها كل يوم آلاف من الجوع، ودولا تعاني من الفقر والإفلاس، حتى أُعلن بالأمس أن باكستان أفلست، وأن كارثة ستحل بها خلال أيام إن لم يتم إنعاش اقتصادها، ثم كان هذا الزلزال المروع الذي ضربها مأساة أخرى إلى مأساتها المالية، نسأل الله تعالى أن يجبر مصابهم، وأن يخفف عنهم وعن المسلمين، وأن يكفينا والمسلمين أجمعين شر الكوارث والمصائب إنه سميع مجيب ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [الأعراف:96].
وصلوا وسلموا على نبيكم...