الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله بن حميد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
الجيرانُ يعرفُ بعضُهم أحوال بعض، ويُحيطُ بعضُهم بأسرار بعض، يعرفون ما يدخل وما يخرُج، ويطَّلِعون على العورات، ويُشاهِدون الغادِي والرائِح، ويسمَعون الأصوات، ويشمُّون الروائِح. يبلُغُهم ما يجري من وفاقٍ وخِصام، وخلافٍ وئام، لا تُحجَبُ عنهم ذخائرُ البيوت، ولا تغيبُ عنهم خفايا الأُسَر. والجوارُ في معناه -حفظكم الله- يُعبَّر به عن كلِّ ما يعظُم حقُّه عقلاً وشرعًا، ولهذا يُقال: استجارَ به وأجارَه. وربُّنا -عزَّ شأنُه- لكمال ربوبيَّته وعلوّ مقامه هو وحده الذي يُجيرُ ولا يُجارُ عليه.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله خلقَ وأمَر، وملكَ فقهَر، وأراد فقدَّر، أحمده -سبحانه- وأشكرُه وهبَ وأعطى، وأغنَى وأقنَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الحمدُ في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صفوةُ الأخيار وقُدوةُ الأبرار، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِه أهل الفضل والتُّقى، ما وهَنوا لما أصابَهم في سبيل الله وما ضعُفُوا وما استكانُوا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله- واعبدوه، اجتمِعوا على الرحمة والمحبّة والطاعة، ولا تتفرَّقوا على الشَّحناء والهوى والمعصية.
بطاعة ربِّكم تزيَّنوا، ومن الذنوب توبوا وتطهَّروا، وعن باب مولاكم فلا تبرَحوا؛ لعلَّكم في جنات عدنٍ أن تُحضَروا. من تفكَّر بعواقب الدنيا أخذَ بالحذَر، ومن أيقنَ بطول الطريق تأهَّب للسفر.
المُسلمُ من سلِم المُسلمون من لسانه ويدِه، والمُهاجِرُ من هجرَ ما حرَّم الله، والمُجاهد من جاهدَ نفسَه وهواه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
أيها المسلمون: التشريعاتُ في ديننا والوصايا في إسلامنا تبدأُ بتحقيق التوحيد، وحُسن العبادة، ومتانة العلاقات، وصفاء الصِّلات. الرابطةُ الإسلاميةُ والأُخوَّة الإيمانية هي لُبُّ الدين، ولُباب المشاعِر، يحيا بها المسلم ويحيا لها، عقيدةٌ وشعائر وصِلات يأخذُ بعضُها برِقاب بعضٍ.
اقرؤوا إن شئتم: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) [النساء: 36].
جمعَ الله في هذه الآية بين حقِّه وحقوق عباده، وأصحابُ هذه الحقوق أنواعٌ؛ منهم: ذوو القرابات، وخَصَّ بالذِّكر الوالدَين؛ لشدَّة قُربهما وعِظَم حقِّهما.
ومنهم: قريبٌ مُخالِطٌ، وهمُ الجارُ ذو القُربى، والجارُ الجُنُب، والصاحبُ بالجَنب.
ومنهم: ضعيفٌ محتاجٌ إلى الإحسان لضعف بدنِه، وهو اليتيم. ومُحتاجٌ لقلَّة مالِه، وهو المسكين.
معاشر الإخوة: إن من أعظم ما عُنِيَ به الإسلام تنظيمَ حياة المُجتمع المُسلم في دوائِر مُتكاملة تتَّسِع شيئًا فشيئًا، حتى تنتظِم المُجتمع كلَّه، بدءًا من حقوق الوالدين، ثم الأقارب، ثم تتَّسِع لتشملَ الجيران والأصدقاء والمعارف، ثم تمتدّ لتتَّصِلَ بالغُرباء وغير المُسلمين.
وهذه وقفةٌ مع إحدى هذه الدوائر والحلقات، تُجسّد هذا التعاوُن، وتُصوِّر هذه الرابطة الإسلامية بكل معانيها ووسائلها ومقاصِدها، إنها: دائرةُ الجوار وحقوق الجيران.
ذلكم أن توثيق العلاقات مع المُجتمع القريب في البيت والحي هو المُقدَّم؛ لأنه هو الأقدرُ والأقربُ والأسرعُ لتحقيق التكامُل في وقته المُناسِب، وتقدير النفع في صورته البارزة.
الجيرانُ يعرفُ بعضُهم أحوال بعض، ويُحيطُ بعضُهم بأسرار بعض، يعرفون ما يدخل وما يخرُج، ويطَّلِعون على العورات، ويُشاهِدون الغادِي والرائِح، ويسمَعون الأصوات، ويشمُّون الروائِح. يبلُغُهم ما يجري من وفاقٍ وخِصام، وخلافٍ وئام، لا تُحجَبُ عنهم ذخائرُ البيوت، ولا تغيبُ عنهم خفايا الأُسَر.
والجوارُ في معناه -حفظكم الله- يُعبَّر به عن كلِّ ما يعظُم حقُّه عقلاً وشرعًا، ولهذا يُقال: استجارَ به وأجارَه. وربُّنا -عزَّ شأنُه- لكمال ربوبيَّته وعلوّ مقامه هو وحده الذي يُجيرُ ولا يُجارُ عليه.
وقد خذلَ إبليس -عليه لعنة الله- أتباعَه وزيَّن لهم حين قال: (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ) [الأنفال: 48].
فالجارُ -حفظكم الله- سُمِّي جارًا لأنه يُجيرُ صاحبَه ويدفع عنه السوء والأذى، ويجلبُ له الخيرَ والنفع.
والجيرانُ أنواعٌ ومراتبٌ، بعضُها ألصَق من بعض. يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "الجارُ يشملُ المُسلمَ والكافرَ، والعابدَ والفاسِق، والصديق والعدو، والقريب والغريب، والأقرب دارًا والأبعد. ولهم مراتب بعضُها أعلى من بعضٍ، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفاتُ الأولى كلُّها، ثم أكثرها، وهكذا، وعكسُه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى، فيُعطَى بحسبِه".
وقال أهل العلم: "ينبغي توسعةُ دائرة الصِّلة بالجوار ما أمكن".
يقول عليٌّ -رضي الله عنه-: "من سمِع النداء فهو جارُه".
ومنه حديث: "لا صلاة لجار المسجِد إلا في المسجد".
ويقول الأوزاعي -رحمه الله-: "حدُّ الجوار أربعون دارًا من كل ناحية".
معاشر المسلمين: إن حقَّ الجوار عظيمٌ ربطَه نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وآله وسلم- بالإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "من كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُكرِم جارَه". وفي رواية: "فلا يُؤذِ جارَه".
وعن أبي شُريحٍ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "والله لا يُؤمن، والله لا يُؤمن، والله لا يُؤمن". قيل: من يا رسول الله؟! قال: "الذي لا يأمنُ جارُه بوائِقَه".
ورُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما آمنَ من بات شبعان وجارُه جائِع".
وكل هذه الأحاديث والآثار وأمثالُها تُؤكِّد الصلةَ والارتباط بين الإيمان والقيام بحقوق الجوار؛ ما يدلُّ على أن حقَّ الجار من خِصال الإيمان، ومن أعمال الإيمان. الإيمان بالله الذي يطَّلع على خائنة الأعيُن، والإيمان باليوم الآخر الذي فيه الجزاءُ والحساب.
وفي حديثٍ عن الترمذي وابن حبان وابن خزيمة والحاكم، وصحَّحه: "خيرُ الأصحاب عند الله خيرُهم لصاحبه، وخيرُ الجيران عند الله خيرُهم لجارِه".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهنَّ أو يُعلِّم من يعمل بهنَّ؟!". فقال أبو هريرة: فقلتُ: أنا يا رسول الله. فأخذ بيدِه فعدَّ خمسًا، وقال: "اتَّقِ المحارِم تكُن أعبدَ الناس، وارضَ بما قسمَ الله تكُن أغنى الناس، وأحسِن إلى جارِك تكُن مؤمنًا، وأحِبَّ للناس ما تحبُّ لنفسِك تكُن مُسلمًا، ولا تُكثِر الضَّحِك فإن كثرةَ الضحِك تُميتُ القلب". أخرجه الترمذي. وهو حديثٌ حسن.
أيها الإخوة: ويجمعُ حقَّ الجارِ ثلاثةُ أمور: إكرامُه، وكفُّ الأذى عنه، وتحمُّل أذاه.
أما إكرامُه؛ فبابٌ واسعٌ، يبدأه بالسلام، ويُلينُ له في الكلام، ويتلطَّف معه في الحديث، ويُرشِدُه إلى ما فيه صلاحُه وصلاحُ أهله في دينِه ودُنياه، ويحفَظُه في غيبَته، حريصٌ في ذلك كلِّه على الرِّفق واللُّطف، وحُسن المعشر، وإسداء المعروف في اليُسر والعُسر، والفرح والشدة، والحُزن والسرور، مواسِيًا مؤنِسًا، لطيفًا ودودًا.
ومن إكرامِ الجارِ والإحسان إليه: المُبادرةُ بإهداء ما تيسَّر؛ لأن الجارَ ينظرُ إلى ما يدخلُ جارَ داره وما يخرُج منها.
روى مسلمٌ عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: "يا أبا ذر: إذا طبختَ مرقةً فأكثِر ماءَها وتعهَّد جيرانَك".
وفي قوله: "أكثِر ماءَها" تنبيهٌ إلى عدم التكلُّف في الإهداء، ولم يقُل: فأكثِر لحمَها؛ إذ إن اللحمَ وأمثالَه لا يسهُلُ على كل أحدٍ. غيرَ أنه ينبغي التنبيه إلى عدم إهداء الحقير؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ثم انظُر أهلَ بيتٍ من جيرانك، فأصِبهم منها بمعروفٍ".
أي: بشيءٍ مما يُهدَى عُرفًا. فلا يُهدِي الحقير والنَّزر اليسير الذي لا يُهدَى في العُرف والعادة.
إن هذه صورةٌ من مكارم الأخلاق، تتوثَّق فيها الصلة والمحبة وحُسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة؛ فإن الجار يتأذَّى بقَتار قِدر جاره، وربما كان لهذا الجار ذريَّةٌ ضعفاء صغارٌ تعظُم على وليِّهم والقائم عليهم الكُلفةُ والألم، ولاسيَّما إذا كان القائم عليهم أرملةً أو فقيرًا، فتعظُم المشقَّة وتشتدُّ الحسرة. وكل هذا يندفعُ بمثل هذه المشاركات اليسيرة.
وقد قال نبيُّنا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- لأهل بيته عند تفريق لحم الأُضحية: "ابدئي بجارنا اليهودي".
وذُبِحت شاةٌ في أهل عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، فلما جاء قال: أهديتُم لجارنا اليهودي -ثلاث مرات-، سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيُورِّثُه".
وفي قوله: "حتى ظننتُ أنه سيُورِّثُه" فكأنَّه لا فارقَ بين حقوق الأقارب والجيران سوى الميراث.
ومن أنواع الإحسان: مُواساتُه عند الحاجة؛ بل كم هو جميلٌ أن ينفعَ الجارُ جارَه فيما وهبَه الله من مواهِب، وهيَّأ له من تخصُّصات؛ فالغنيُّ يُواسِي، والطبيبُ يُعالِج، والمُعلِّمُ يُعلِّم. يُقال مثلُ هذا في المهندس، والنجَّار، والحدَّاد، وسائر أرباب الحِرَف والمِهَن والصنائع. جيرانٌ مُتحابُّون، يُعينُ بعضُهم بعضًا، وينفعُ بعضُهم بعضًا.
ومن أنواع الإحسان: تعليمُه وإرشادُه، ونُصحُه، وأمرُه بالمعروف ونهيُه عن المُنكر بأدبٍ وحكمةٍ، كما ينبغي أن يتلطَّف لولده في كلماته ويُرشِده إلى ما ينفعه في أمور دينِه ودُنياه.
وفي حديثٍ جامعٍ حسنِ الإسناد، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قُلنا: يا رسول الله: ما حقُّ الجار؟! قال: "إن استقرضَك أقرضتَه، وإن استعانَك أعنتَه، وإن احتاجَ أعطيتَه، وإن مرِضَ عُدتَّه، وإن ماتَ تبِعتَ جنازتَه، وإن أصابَه خيرٌ سرَّك وهنَّيتَه، وإن أصابَته مُصيبةٌ ساءَك وعزَّيتَه، ولا تُؤذِه بقَتار قِدرِك إلا أن تغرِف له منها، ولا تستطِل عليه بالبناء لتُشرِف عليه، وتسُدّ الريحَ إلا بإذنه، وإن اشتريتَ فأهدِ له منها، وإلا فأدخِلها سرًّا، ولا يخرُج ولدُك بشيءٍ منه يُغيظُ به ولدَه".
وفي حديثٍ مُتفقٌ عليه: "ومن كان له جارٌ في حاجةٍ أو شريك فلا يبِعه حتى يعرِضَ عليه".
ويبدأ في إحسانه ومعروفه بالأقرب فالأقرب؛ لأن الأقربَ يرى ما يدخلُ من بيت جارِه وما يخرُج؛ فعند البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلتُ: يا رسول الله: إن لي جارَين، فإلى أيِّهما أُهدِي؟! قال: "إلى أقربِهما منكِ بابًا".
قال أهلُ العلم: "والمرادُ: إذا لم يكُن عندك ما تُهديه إليهما جميعًا فتُهدِي للأقرب، أما إذا أمكنَ الإهداءُ لهما جميعًا فهو أولَى وأفضَل".
وتتضاعفُ المسؤوليةُ وتزدادُ الحقوقُ حين يكونُ الجارُ مسكينًا أو يتيمًا أو أرملةً أو صاحبَ حاجةٍ خاصَّة، ورُوي أن الجارَ الفقير يتعلَّق بالجار الغنيِّ يوم القيامة ويقول: "يا ربِّ: سلْ هذا لمَ منعَ عني معروفَه وأغلقَ عني بابَه؟!".
أيها الإخوة في الله: ومن أعظم حقوق الجيران: كفُّ الأذى عنهم، وقد قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخر فلا يُؤذِ جارَه".
وعند مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "لا يدخلُ الجنةَ من لا يأمنُ جارُه بوائقَه".
وفي الحديث الآخر: "أعوذُ بك من جار السوء في دار الإقامة؛ فإن جارَ البادية يتحوَّل". رواه أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد"، والنسائي، والحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي.
والبوائِق جمعُ بائِقة، وهي: الغائِلة والفتْك والشرور والأضرار.
وعبَّر في الحديث بقوله: "لا يأمنُ جارُه بوائقَه" أي: لا يتَّخِذ من معرفته بأحواله سبيلاً لطعنِه والتسلُّط عليه، وطريقًا لابتِزازه.
وأنواع الأذى، وصُوره كثيرة، فيصفَحُ عن زلاَّته، ولا يطَّلعُ على عوراته، ولا يُتبِعُ نظرَه فيما يحمِلُه من متاع، ويستُرُ ما ينكشِفُ من عورته، ويغُضُّ البصرَ عن محارِمه، ولا يُضايِقُه في طرحِ الأترِبة والكُناسَة في فنائِه، ولا يُضيِّقُ عليه في طريقِه إلى جارِه، ولا في مصبِّ الماء في ميزابِه، ولا يستطِل عليه في البناء فيحجبُ عنه الهواء إلا بإذنه.
وتعوَّذوا بالله -رحمكم الله- من جار السوء، يسمعُ الخنا، ويهذِي بكل عنا.
ثم الحذرَ الحذرَ أن يكون وفرةُ مالك أو سعَة جاهِك سببًا لإهانتك جارَك، أو التطاوُل عليه، أو لاستِكبارك عليه.
وعلِّم أولادَك أن يحفَظوا حقوقَ الجيران، حتى لا يتربَّى أهل الحيِّ على الحسد والنِّقمة والكراهية والحقد.
وبعد:
عباد الله: فبالقيام بحقوق الجيران تقوم الأُلفة، وتحصُل المودَّة، فيعيشُ أهلُ الحي والمُجتمع في أمنٍ وطُمأنينة، يتبادَلون المنافع، ويقضُون حاجاتهم فيما بينهم، ويتعاوَنون على البرِّ والتقوى، ويدفَعون الشُّرور والأذَى والسوءَ عن أهليهم وبيوتهم، في إخلاصٍ وصدقٍ في الظاهر والباطن، يُؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف، وينهَون عن المُنكر، ويُسارِعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، هو الحكمُ العدل، خلقَ الذكرَ والأُنثى (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم: 31]، أحمده -سبحانه- وأشكرُه على نعمٍ من ربِّنا لا تُعدُّ ولا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُقرِّبُ لديه الزُّلفى، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خاتمُ النبيين وسيّد الورَى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسارَ على نهجِهم فاهتدَى.
أما بعد:
معاشر المسلمين: ومن حقوق الجار: أن يتحمَّل أذَى جاره، ويصبِر على ما يصدُر منه ومن أهله وأولاده، فهذا من أعظم الحقوق، ومن أنبَل الأخلاق.
فقد جاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: دُلَّني على عملٍ إذا قمتُ به دخلتُ الجنة. فقال: "كُن مُحسنًا". فقال: كيف أعلمُ أني مُحسن؟! قال: "سَلْ جيرانك، فإن قالوا: إنك مُحسن فأنت مُحسِن، وإن قالوا: إنك مُسيءٌ فأنت مُسيءٌ". ذكرَه البيهقي من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وجاء رجلٌ إلى ابن مسعودٍ -رضي الله عنه- فقال له: لي جارٌ يُؤذِيني ويشتُمُني ويُضيِّقُ عليَّ. فقال: "اذهَب، فإن عصَى اللهَ فيك فأطِع اللهَ فيه".
ويقول الحسنُ: "ليس حُسنُ الجوار كفّ الأذى، ولكنَّ حُسن الجوار احتمالُ الأذى".
ويُروَى في خبرٍ مرفوعٍ: "إن الله يحبُّ الرجلَ يكونُ له الجارُ يُؤذِيه جوارُه فيصبِرُ على أذاه حتى يُفرِّق بينهما موتٌ أو ضعَة". أخرجه أحمد في مسنده.
ومما يدخلُ في ذلك: ما ينبغي على المُهدَى إليهم من الجيران من القبول والشُّكر والعِرفان، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "يا نساءَ المؤمنات: لا تحقِرنَّ إحداكنّ لجارتِها ولو كُراعَ شاةٍ مُحرّقة".
وخَصَّ النساء؛ لأنهنَّ أعظمُ أثرًا في المودَّة والبغضاء، وأسرع تأثيرًا في السلوك والتصرُّفات. فلا يستصغِر أيَّ عونٍ مهما صغُر، وليشكُر ما قُدِّم مهما قلَّ.
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، وقوموا بحقوق جيرانِكم، وأصلِحوا ذاتَ بينكم، وأطيعوا الله ورسولَه إن كنتم مؤمنين.
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في مُحكم تنزيله، فقال -وهو الصادقُ في قِيله- قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.