البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
عاش هذا الشاب لله تعالى منذ عرف الإسلام، وجاءته الدنيا من كل جانب فعزف عنها يرجو رضوان الله تعالى والدار الآخرة، حتى عجب الصحابة من سلوكه وسيرته، واتخذه التابعون لهم أسوة وقدوة.. كان قبل زواجه ملازما للمسجد، يقرأ ويتعلم، ويسمع من النبي عليه الصلاة والسلام حديثه فلا يفوته شيء، حتى إنه كان ينام في المسجد فهو بيته ومدرسته ومحل عبادته
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ الوَلِيِّ الحَمِيدِ، العَلِيمِ المَجِيدِ: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة:142]، نَحْمَدُهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى سَابِغِ عَطَائِهِ، فَلَهُ الحَمْدُ لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا أَثْنَى هُوَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ قَسَمَ بَيْنَ عِبَادِهِ دِينَهُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ، فَكَمَا أَنَّ فِيهِمْ غَنِيًّا وَفَقِيرًا فَإِنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، وَبَرًّا وَفَاجِرًا، وَطَائِعًا وَعَاصِيًا.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَهِدَايَةً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ فَهَدَى اللهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ كُتِبَتْ سَعَادَتُهُمْ، وَعَمِيَ عَنْهُ مَنْ كُتِبَتْ شِقْوَتُهُمْ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَلَنْ يَضِلَّ وَلَنْ يَشْقَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَخُذُوا مِنْ شَبَابِكُمْ لَهرَمِكُمْ، وَمِنْ صِحَّتِكُمْ لِسَقَمِكُمْ، وَمِنْ فَرَاغِكُمْ لِشُغْلِكُمْ، وَمِنْ حَيَاتِكُمْ لِمَوْتِكُمْ؛ فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ مَوْتًا وَقَبْرًا وَبَعْثًا وَحِسَابًا وَجَزَاءً: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزَّلزلة:7-8].
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي الشَّبَابِ عَزْمٌ وَإِصْرَارٌ، وَقُوَّةٌ وَإِقْدَامٌ، وَالأُمَمُ الهَرِمَةُ مُعَرَّضَةٌ لِلزَّوَالِ، وَفِي الحُرُوبِ الطَّويلَةِ أَكْثَرُ مَا يُسْتَهْدَفُ الشَّبَابُ، وَحُرُوبُ المُخَدِّرَاتِ لاَ تَسْتَهْدِفُ إِلاَّ مَنْ كَانُوا فِي مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ؛ فَبِهِمْ تُبْنَى الأُمَمُ وَتُحْمَى، وَفِي ضِيَاعِهِمْ وَاسْتِنْزَافِهِمْ مَوْتُ الحَضَارَةِ وَاضْمِحْلاَلُ الأُمَّةِ، وَأَعْظَمُ مَجَالٍ يُسْتَثْمَرُ فِيهِ الشَّبَابُ هُوَ مَجَالُ العِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ؛ فَالأُمَّةُ الَّتِي يَتَعَلَّمُ شَبَابُهَا وَيَتَفَنَّنُونَ فِي المَعَارِفِ وَالعُلُومُ أُمَّةٌ تَنْهَضُ وَتَتَقَدَّمُ، وَتَمْتَلِكُ القُوَّةَ، وَالأُمَّةُ الَّتِي يَضْعُفُ تَعْلِيمُ شَبَابِهَا تَضْعُفُ تَبَعًا لِضَعْفِهِمْ، وَلَمَّا هَرِمَتِ الدُّوَلُ الغَرْبِيَّةُ بِسَبَبِ الفَرْدِيَّةِ، وَالعُزُوفِ عَنِ الزَّوَاجِ وَتَكْوِينِ الأُسْرَةِ، وَضَيَاعِ الشَّبَابِ؛ صَارَ الغَرْبِيُّونَ يَسْتَوْرِدُونَ النَّابِهِينَ مِنْ شَبَابِ الدُّولِ المُتَخَلِّفَةِ فَيُغْرُونَهُمْ بِالمَالِ وَالجَاهِ، وَيَضَعُونَهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمُ اللَّائِقَةِ بِهِمْ لِاسْتِثْمَارِهِمْ فِي بَقَاءِ التَّفَوُّقِ الغَرْبِيِّ عَلَى سَائِرِ الدُّوَلِ وَالأُمَمِ.
وَفِي تَارِيخِنَا المَجِيدِ سِيَرٌ لِشَبَابٍ كَرَّسُوا حَيَاتَهُمْ لِمَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، وَخِدْمَةِ أُمَّتِهِمْ، وَنَفْعِ أَنْفُسِهِمْ، فَخُلِّدَتْ سِيَرُهُمْ، وَقُرِئَتْ أَخْبَارُهُمْ، وَتَأَسَّى بِهِمْ غَيْرُهُمْ، وَاهْتَدَى كَثِيرٌ مِنَ الخَلْقِ بِذِكْرِهِمْ، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِأَنَّهُمْ قَامُوا بِحَقِّ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَأَدَّوْا لِلْأُمَّةِ حُقُوقَهَا، وَأَعْطَوْا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
كَانَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَعَنْ أَبِيهِ، وُلِدَ بَعْدَ البِعْثَةِ بِسَنَتَيْنِ، وَأَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ فِي مَكَّةَ وَلَمْ يَبْلُغْ بَعْدُ، وَهَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْهُ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- لِلْقِتَالِ فِي بَدْرٍ وَلاَ أُحُدٍ لِصِغَرِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَجَازَهُ فِي الخَنْدَقِ، وَتُوُفِّي النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- وَعُمْرُهُ ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
عَاشَ هَذَا الشَّابُّ للهِ تَعَالَى مُنْذُ عَرَفَ الإِسْلاَمَ، وَجَاءَتْهُ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَعَزَفَ عَنْهَا يَرْجُو رِضْوَانَ اللهِ تَعَالَى وَالدَّارَ الآخِرَةَ، حَتَّى عَجِبَ الصَّحَابَةُ مِنْ سُلُوكِهِ وَسِيرَتِهِ، وَاتَّخَذَهُ التَّابِعُونَ لَهُمْ أُسْوَةً وَقُدْوَةً، كَانَ قَبْلَ زَوَاجِهِ مُلاَزِمًا لِلْمَسْجِدِ، يَقْرَأُ وَيَتَعَلَّمُ، وَيَسْمَعُ مِنَ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- حَدِيثَهُ فَلاَ يَفُوتُهُ شَيْءٌ، حَتَّى إِنَّه كَانَ يَنَامُ فِي المَسْجِدِ فَهُوَ بَيْتُهُ وَمَدْرَسُتُهُ وَمَحَلُّ عِبَادَتِهِ، وَذَاتَ مَرَّةٍ رَأَى رُؤْيَا غَيَّرَتْ مَجْرَى حَيَاتِهِ، يَقُولُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا، فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكُنْتُ غُلاَمًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي المَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي، فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ". فَكَانَ بَعْدُ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ رُؤْيَاهُ تِلْكَ وَتَأَثُّرَهُ بِهَا كَانَتْ وَعُمُرُهُ دُونَ العِشْرِينَ، فَتَأَمَّلُوا صَلاَحَهُ وَاسْتِقَامَتَهُ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ، وَانْظُرُوا إِلَى سُرْعَةِ امْتِثَالِهِ لِتَوْجِيهِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فِي المُحَافَظَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَأَعْظَمُ شَيْءٍ يُثَبِّتُ العِلْمَ وَيُنَمِّيهِ وَيُزَكِّيهِ هُوَ العَمَلُ بِهِ.
أَثَّرَ عِلْمُ هَذَا الشَّابِّ بِاللهِ تَعَالَى وَبِمَا يَجِبُ لَهُ عَلَى حَيَاتِهِ كُلِّهَا، فَكَانَ لاَ يُعْجِبُهُ شَيْءٌ إِلاَّ قَدَّمَهُ للهِ تَعَالَى لِعِلْمِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ يُحِبُّ إِذَا تَصَّدَقَ عَبْدُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَحَبِّ مَالِهِ إِلَيْهِ؛ فَرَكِبَ نَاقَةً أَعْجَبَتْهُ فَنَزَلَ عَنْهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَدْخَلَهَا فِي البُدْنِ المُهْدَاةِ إِلَى الحَرَمِ، وَأَعْجَبَتْهُ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيهِ فَأَعْتَقَهَا وَزَوَّجَهَا غُلاَمًا لَهُ، وَكَانَ إِذَا رَأَى مِنْ رَقِيقِهِ أمْرًا يُعْجِبُهُ أَعْتَقَهُ، وَلاَ يَأْكُلُ طَعَامًا لِوَحْدِهِ حَتَّى يَدْعُوَ المَسَاكِينَ، وأُتِيَ بِعَشْرَةِ آلاَفٍ فَفَرَّقهَا، وَأَصْبَحَ يَطلُبُ لرَاحِلَتِهِ عَلَفاً بِدِرْهَمٍ نَسِيْئَةً، فكَانَ يُقَدِّمُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلاَ يَسْتَأْثِرُ بِالشَّيْءِ لِوَحْدِهِ.
وَبِتَوْفِيقِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، ثُمَّ بِسَبَبِ تَرْبِيَتِه عَلَى العِلْمِ وَالعَمَلِ فِي شَبَابِهِ لَمْ يَأْبَهْ بالدُّنْيَا حِينَ تَنَافَسَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَكَانَتْ هِمَّتُهُ أعَلَى مِنْ أَقْرَانِهِ مِنَ الشَّبَابِ، حَتَّى قَالُ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عنه-: "إِنَّ أَمْلَكَ شَبَابِ قُرَيْشٍ لِنَفْسِهِ عَنِ الدُّنْيَا ابْنُ عُمَرَ".
كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- مُعَظِّمًا لِلْأَثَرِ، مُقْتَفِيًا لِلسُّنَنِ، وَقَدْ اشْتُهَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِأَنَّهُ أَشَدُّ أَهْلِ زَمَانِهِ اتِّبَاعًا لِلنِّبِيِّ -عَلَيْهِ الصلاة وَالسَّلاَمُ-، وَالعِلْمُ يُورِثُ الخَشْيَةَ وَالمَحَبَّة، وَكَثْرَةَ العِبَادَةِ، قَالَ مُحَمَّدٌ العُمَرِيُّ: مَا سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ ذَكرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ بَكَى، وَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ". لَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْن عُمَرَ حَتَّى مَاتَ.
وَلَمَّا ثَارَتِ الفِتْنَةُ تَطَلَّعَ النَّاسُ لِلْإِمَارَةِ وَالشَّرَفَ، وَعَزَفَ عَنْهَا ابْنُ عُمَرَ، وَرُشِّحَ لِلْخِلافَةِ فِي وُجُودِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ فَأَحْجَمَ عَنْهَا، وَزَهِدَ فِيهَا، وَفِي عَهْدِ بَنِي أُمَيَّةَ حَاوَلَ النَّاسُ فِيهِ أَنْ يَتَوَلَّى الخِلاَفَةَ؛ لِأَنَّ الأُمَّةَ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ لِإِمَامَتِهِ فَفَرَّ مِنَ النَّاسِ.
وَذَاتَ مَرَّةٍ جَلَسَ شَبَابُ قُرَيْشٍ يَتَمَنَّوْنَ عِنْدَ الكَعْبَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ تَمَنَّى مَا تَمَنَّى مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، فَقَالَ ابْن عُمَرَ: "أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى المَغْفِرَةَ".
وَمِنْ طَلَبَ العِلْمَ فِي شَبَابِهِ كَانَ عَالِمًا فِي شَيْخُوخَتِهِ، وَهَكَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ، قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "كَانَ إِمَامَ النَّاسِ عِنْدَنَا بَعْدَ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ عَبْدُ اللهِ بْن عُمَرَ، مَكثَ سِتِّينَ سَنَةً يُفْتِي النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ فِقْهِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ يُصَلِّي مَعَ الطَّوَائِفِ المُتَقَاتِلَةِ، وَيَقُولُ: مَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ أَجَبْتُهُ، وَمَنْ قَالَ: حَيَّ عَلَى قَتْلِ أَخِيكَ وَأَخْذِ مَالِهِ قُلْتُ: لَا".
بِعِلْمِهِ وَتَقْوَاهُ عُصِمَ مِنَ الفِتَنِ؛ فَلَمْ تَتَلَطَّخْ يَدَاهُ بِالدِّمَاءِ، وَلَمْ يَلُكْ بِلِسَانِهِ أَعْرَاضَ النَّاسِ، وَعَاشَ فِي مَعَامِعِ الفِتَنِ قَوَّالًا بِالحَقِّ، ثَابِتَ الرَّأْيِ، فَلَمْ يَنْحَزْ إِلَى طَائِفَةٍ دُونَ أُخْرَى، وَلَمْ يَقْدُرُوا عَلَيْهِ لاَ رَغَبًا وَلاَ رَهَبًا، وَتَجَلَّى ذَلِكَ فِي مَقُولَاتِهِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ فِي الفِتَنِ وَأَحْوَالِهَا وَأَهْلِهَا، فَقَدْ كَتَبَ رَجُلٌ إِلَيْهِ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِالعِلمِ كُلِّهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: "إِنَّ العِلمَ كَثِيْرٌ، وَلَكِنْ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلقَى اللهَ خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيْصَ البَطنِ مِنْ أَمْوَالِهِم، كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِم، لاَزماً لأَمرِ جَمَاعَتِهِم، فَافعَلْ". وقَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُنَا فِي هَذِهِ الفِتْنَةِ، كَمَثَلِ قَوْمٍ يَسيرُوْنَ عَلَى جَادَّةٍ يَعرفُوْنَهَا، فَبيْنَا هُم كَذَلِكَ، إِذْ غَشِيتْهُم سَحَابَةٌ وَظُلمَةٌ، فَأَخَذَ بَعضُهُم يَمِيْناً وَشِمَالاً، فَأَخْطَأَ الطَّرِيْقَ، وَأَقَمْنَا حَيْثُ أَدْرَكَنَا ذَلِكَ، حَتَّى جَلاَ اللهُ ذَلِكَ عَنَّا، فَأَبْصَرْنَا طرِيقَنَا الأَوَّلَ، فَعَرفْنَاهُ، فَأَخَذْنَا فِيْهِ".
رَضِيَ اللهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَرْضَاهُ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَنَظَمَنَا فِي سِلْكِهِمْ مُتَّبِعِينَ، وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ يَوْمَ الدِّينِ، وَجَمَعَنَا بِهِمْ فِي دَارِ النَّعِيمِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوُهُ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أَيُّهَا النَّاسُ: مَا بَلَغَ ابْنُ عُمَرَ مَا بَلَغَ مِنْ قُوَّةِ الدِّيَانَةِ، وَشِدَّةِ الاتِّبَاعِ، وَغَزَارَةِ العِلْمِ، وَالعُزُوفِ عَنِ الدُّنْيَا، وَالإِمَامَةِ فِي الدِّينِ إِلاَّ بِاسْتِثْمَارِهِ فَتْرَةَ شَبَابِهِ، وَتَرْوِيضِ نَفْسِهِ مُنْذُ الصِّغَرِ عَلَى العِلْمِ وَالعَمَلِ، وَتَلَمُّسِ رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى فِي مَظَانِّهِ، فَكَانَ هَمُّهُ غَيْرَ هَمِّ أَقْرَانِهِ، وَكَانَتْ هِمَّتُهُ أعَلَى مِنْ هِمَّةِ أَصْحَابِهِ حَتَّى قَالَ فِيهِ الذَّهِبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَأَيْنَ مِثْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي دِيْنِهِ وَوَرَعِهِ، وَعِلمِهِ وَتَأَلُّهِهِ وَخَوْفِهِ، مِنْ رَجُلٍ تُعرَضُ عَلَيْهِ الخِلاَفَةُ فَيَأبَاهَا، وَالقَضَاءُ مِنْ مِثْلِ عُثْمَانَ فَيردُّهُ، وَنِيَابَةُ الشَّامِ لِعَلِيٍّ فِيْهربُ مِنْهُ! فَاللهُ يَجْتبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ".
وَكُلُّ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَلَيْسَ عِلْمًا نَافِعًا، وَكُلُّ عِلْمٍ لاَ يَظْهَرُ أَثَرُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ فِي عِبَادَتِهِ وَمُعَامَلِتِهِ فَهُوَ مُجَرَّدُ حِفْظِ مَعْلُومَاتٍ لاَ غَيْرَ، وَآلاتُ التَّسْجِيلِ الصَّمَّاءُ تَحْفَظُ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْفَظُ.
إِنَّ عَلَى المُعَلِّمِ فِي مَدْرَسَتِهِ، وَعَلَى الطَّالِبِ فِي فَصْلِهِ أَنْ يَحْرِصَا عَلَى التَّخَلُّقِ بِالعِلْمِ، فَلاَ يُجَاوِزَا مَعْلُومَةً إِلَى غَيْرِهَا حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُهَا عَلَى المُعَلِّمِ وَالطَّالِبِ سَوَاءً، فهَذَا هُوَ العِلْمُ الَّذِي يَبْقَى بِبَقَاءِ أَثَرِهِ، وَهُوَ العِلْمُ الَّذِي يَنْفَعُ المُعَلِّمَ وَالمُتَعَلِّمَ، وَيَنْتَقِلُ نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِمَا.
وَإِنَّ فِي سِيَرِ شَبَابِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالأَئِمَّةِ المَتْبُوعِينَ وَسَلَفِ هَذِهِ الأُمَّةِ الصَّالِحِ عَجَبًا عُجَابًا مِنْ مَحَبَّةِ العِلْمِ، وَالتَّفَانِي فِيهِ، وَالحِرْصِ عَلَيْهِ، وَنَفْعِ النَّاسِ بِهِ، وَإِتْبَاعِ العِلْمِ العَمَلَ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَيَكُونَ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ، وَهِيَ خَيْرُ سِيَرٍ يَجِبُ أَنْ يُرَبَّى عَلَيْهَا شَبَابُ المُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا لِقَوْمٍ سَادَتْ بِهِمُ الأُمَّةُ فِي وَقْتِهِمْ أُمُمَ الأَرْضِ كُلَّهَا، وَجَمَعُوا الدِّينَ وَالدُّنْيَا، وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ سِيَرِ العَابِثِينَ اللاَّهِينَ الَّتِي يُبْرِزُهَا الإِعْلامُ المُنْحَرِفُ للشَّبَابِ لِيُغْرِقَهُمْ فِي الشَّهَوَاتِ، وَيَصْرِفَهُمْ عَنْ وَاجِبَاتِهِمْ وَمَسْئُولِيَّاتِهِمْ، وَيَجْعَلَ فِئَةَ الشَّبَابِ مِنَ الفِتْيَانِ وَالفَتَيَاتِ مُجَرَّدَ أَرْقَامٍ بَشَرِيَّةٍ، تَكُونُ عِبْئًا عَلَى أُسَرِهَا وَمُجْتَمَعِهَا وَأُمَّتِهَا.
وَلاَ يَنْتَظِرَّنَّ شَابٌّ مِنْ مُجْتَمَعٍ أَنْ يَنْتَشِلَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الفَشَلِ أَوِ الكَسَلِ أَوْ ضَعْفِ الهِمَّةِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ لانْتِشَالِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَرَفْعِهَا عَنِ الدَّنَايَا إِلَى المَعَالِي، وَحَجْزِهَا عَمَّا يَضُرُّهَا مِنَ اللَّهْوِ، وَحَجْرِهَا عَلَى مَا يَنْفَعُهَا مِنَ العِلْمِ وَالعَمَلِ؛ فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ خَيْرٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَصْلَحَ اللهُ تَعَالَى شَبَابَ المُسْلِمِينَ وَفَتَيَاتِهِمْ، وَدَلَّهُمْ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَوَقَاهُمْ شَرَّ الأَشْرَارِ، وَكَيْدَ الفُجَّارِ، وَمَكْرَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...