العليم
كلمة (عليم) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن الصادق القايدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
فهكذا قام الخضر -عليه السلام- ووضح لموسى أسباب خرق السفينة بأنها كانت لمساكين، وفي الطريق يوجد ملك جبار يأخذ كل سفينة صالحة تمر بالطريق بالقوة، فألهم الله الخضر أن يقوم بأخذ لوح كبير منها لتبدو غير صالحة، فتسلم من الملك الجبار. وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين، فكان بعلم الله كافرًا لو كبر، وحتى لا يفتن أبويه أماته الله مبكرًا قبل أن يبلغ الحلم حتى يدخله معهما الجنة؛ لأنه لو أبقاه حتى يشب ربما حُب والديه له قد يجعلهما يكفران...
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: تحدثنا في خطب سابقة عما في سورة الكهف من العبر والحِكم، وذكرنا أصحاب الكهف وقصتهم، واليوم سوف نتحدث عن قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر، فلقد روى البخاري ومسلم من حديث سعيد بن جبير قال: قيل لابن عباس -رضي الله عنهما-: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى الذي صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثني أُبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خطب موسى في بني إسرائيل يومًا حتى ذرفت العيون ووجلت القلوب، فلما انصرف تبعه رجل فقال: يا نبي الله: هل هناك أعلم منك في الأرض؟! قال: لا، فعتب الله -عز وجل- عليه إذ لم يُرجع العلم إليه، قال: بلى إن لي عبدًا في مجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: وكيف لي به؟! قال: خذ حوتًا واجعله في مكتل -وفي رواية: خذ نونًا ميتًا، والنون هو الحوت وإليه يُنسب يونس -عليه السلام- في قوله تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا) [الأنبياء: 87]، فالنون هو الحوت-، قال: خذ نونًا ميتًا فاجعله في مكتل فحيث فقدته فهو ثم، -أي: حيث يُفقد هذا الحوت فالخضر هناك-.
فانطلقا حتى إذا كان ببقعة من الأرض قال موسى لفتاه: لا أكفلك كثيرًا، أيقظني إذا رد الله الحياة في الحوت، قال: ما كَلَّفت، ثم إن الحوت ارتدت إليه الحياة، وقفز في البحر، فأمسك الله عليه الماء وحبسه، فلم يستطيع أن يذهب، فلما استيقظ موسى نسي غلامه أن يخبره أن الحوت قفز إلى الماء، فانطلقا بقية يومهما وليلتِهما، فلما كان من الغد قال موسى لفتاه: (آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) [الكهف: 62]، عند ذلك تذكر الفتى أن الحوت المشوي الذي كانا سيتغديان به قفز إلى الماء، (قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ...)، الآية، (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) أي: أنهما رجعا يقصان الآثار مرة أخرى، فلما وصلا إلى هناك وجدا رجلًا مسجى ببردة خضراء تحت قدميه وتحت رأسه -كالذي يلتحف بلحاف فيجعله تحت رأسه وتحت قدميه-، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: وهل بأرضي سلام؟! -أي: وهل في أرضي هذه من يعرف السلام؟!- قال: من أنت؟! قال: أنا موسى، قال: أنت موسى بني إسرائيل؟! قال: نعم، -وهذا هو الشاهد الذي قال من أجله ابن عباس -رضي الله عنهما-: كذب عدو الله؛ لأن الخضر -عليه السلام- قال: أنت موسى بني إسرائيل-، قال: وما تريد؟! -أي: ما تريد بمجيئك إلى هنا؟!-، قال: أريد أن أتعلم، (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)، فجاء عصفور فنقر من ماء البحر نقرة، فقال الخضر: يا موسى: إن مثل علمي وعلمك بجانب علم الله -عز وجل- كمثل الماء الذي أخذه هذا العصفور بمنقاره. ثم واصل وقال له: (فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا).
فانطلقا ووقفا على شاطئ البحر، فمر مركب فأراد الخضر وموسى أن يركبا، فقال الغلمان: عبد الله الصالح لا نحمله بأجر، فلما استقرا في السفينة عمد الخضر إلى مكان في السفينة، فخلع منه لوحًا بقدوم ووضع مكانه خشبة، قال موسى: قوم حملونا بغير أجرة تخلع لوحًا من سفينتهم لتغرق أهلها! هذا جزاء الإحسان؟! (لقد جئت شيئًا إمرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا).
قال نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "وكانت هذه من موسى نسيانًا، فلما نزلا من السفينة وجدا أغيلمة يلعبون، فعمد الخضر إلى ولد وضيء جميل فأخذه وأضجعه على الأرض وذبحه بالسكين، فقال موسى مستغربًا: عَمِدْتَ إلى نفس لم تعمل سوءًا فقتلتها بغير نفس! لقد جئت شيئًا نكرًا، فقال الخضر -عليه السلام-: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا)".
قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "وكانت هذه شرطًا لأن موسى -عليه السلام- قال له: (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا)".
فهناك فرق في التحذيرين، بين المرة الأولى والثانية، ففي المرة الأولى قال له الخضر: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا)، وفي المرة الثانية قال له: (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا)، فكأنه استدار إليه والتفت إليه وحذّره وأشار: ألم أقل لك -أي: في المرة الثانية-: إنك لن تستطيع معي صبرًا.
"فدخلوا قرية وكانوا جوعى، فلم يستضيفهم أحد ويطعمهم، فأثناء خروجهم من القرية وجدا جدارًا على وشك السقوط، فقام الخضر فأصلح الجدار بيده حتى لا يسقط، فقال موسى: (لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)، واشترينا به طعامًا، فقال الخضر: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا".
قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "يرحم الله موسى؛ وددنا أنه صبر حتى يقص الله -عز وجل- علينا من أخبارهما"، وكل ذلك من علم الغيب الذي يصعب علينا كبشر فهمه لأول وهلة.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المبدئ المعيد، الغني الحميد، ذي العفو الواسع والعقاب الشديد، نحمده -سبحانه وتعالى- على إحسانه المديد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الفعال لما يريد، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله أجمعين.
فهكذا -أيها المؤمنون- قام الخضر -عليه السلام- ووضح لموسى أسباب خرق السفينة بأنها كانت لمساكين، وفي الطريق يوجد ملك جبار يأخذ كل سفينة صالحة تمر بالطريق بالقوة، فألهم الله الخضر أن يقوم بأخذ لوح كبير منها لتبدو غير صالحة، فتسلم من الملك الجبار.
وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين، فكان بعلم الله كافرًا لو كبر، وحتى لا يفتن أبويه أماته الله مبكرًا قبل أن يبلغ الحلم حتى يدخله معهما الجنة؛ لأنه لو أبقاه حتى يشب ربما حُب والديه له قد يجعلهما يكفران.
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة التي أهلها بخلاء، ترك لهما أبوهما كنزًا وبنى عليه جدارًا ليخفيه من أهل القرية اللئام، وأوشك هذا الجدار على السقوط، ولو سقط لوجده أهل القرية وضاع نصيب اليتيمين، ولكن الله ألهم الخضر أن يصلحه وقبل مسحه بيده فاستقام الجدار حتى يكبرا وبعد ذلك يتمكنان من الاستفادة من هذا الكنز.
يستفاد من هذه القصة أشياء كثيرة:
فأولاً: قدر الله لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يتحقق ويفسر، ولقد رأينا موسى -عليه السلام- يتعجب من تصرفات الخضر الفورية ولا يرى لها تفسيرًا؛ لأن هذا قدر مؤجل النتائج، فعلى المسلم أن يرضى ولا يتضجر بقضاء الله وقدره لأننا لا نعلم شيئًا: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) [الإسراء: 85]، فأي شيء يحدث لك أو لغيرك لا تقول: لو كان كذا لصار كذا، "فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل"، وتذكر ما حدث لك من مصائب وكيف تحولت إلى خير وأنت لا تدري، ولو لم يترك سيدنا إسماعيل وأمه في الصحراء لم يكن ماء زمزم الذي نشرب منه، ولولا أن فدى الله إسماعيل بكبش لأصبح علينا أن نضحي بابن من أبنائنا، ولو أخذنا نعدد قدر الله الذي استبان لنا لوجدنا العجب، فعلينا أن نرضى بقدر الله حتى نعيش سعداء في هذه الدنيا، فمثلًا الذي تأخر عن الزواج: لا تقلق، فما تدري كم من الخير ينتظرك ما دمت قد أخذت بالأسباب، وأنت الذي تبحث عن عمل أو وظيفة: لا تخف على رزقك ورزق أولادك، فأنت لا تدري ما هو مدخر لك حتى يأتي وقته، ولا أقصد بذلك أن نتواكل ونترك البحث، بل اسع وتحرك وكل ميسر لما خلق له، وكما سَأل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما نزلت هذه الآية: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود: 105]، فقال: فعلى ما نعمل؟! على شيء قد فُرغ منه أو على شيء لم يُفرغ منه؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بل على شيء قد فُرغ منه وجرت به الأقلام -يا عمر-، ولكن كل ميسر لما خلق له". رواه الترمذي.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وارضوا بقدر الله ولا تسخطوا.
ثم صلوا وسلموا على صفوة خلق الله كما أمركم بذلك...