العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | خالد بن سعد الخشلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
أيها الإخوة المسلمون: لقد اهتم ديننا الحنيف، وحرص شرعنا المطهر المنزل من عند الله –عز وجل- على محمد -صلى الله عليه وسلم-، حرصت هذه الشريعة السمحة على إشاعة المحبة بين المسلمين، ونشر الألفة والتودد، وتحقيق الصفاء والنقاء بين عامة المسلمين، وقطع كل ما من شأنه إشاعة البغضاء والهجران، والشحناء بين المسلمين. لقد حرصت على إزالة أسباب البغضاء، ودواعي الهجران، وطمس بواعث الشحناء والكراهية بين المسلمين، بل...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واقتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، وملازمة طاعاته، والوقوف عند حدوده، والانتهاء إلى أوامره، فو الله إن الخير والبركة والسعادة، والسرور والطمأنينة، ورغد العيش وراحة البال، وقناعة النفس؛ إنما تنال بتقوى الله –عز وجل- وطاعاته، وفوق ذلك وبعده وقبله الفوز بجنة الله ونعيمه، والسلامة من عذاب الله، والنجاة من ناره: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2- 3].
(وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ) [الطلاق: 5]
جعلني الله وإياكم من عباده المتقين، وأوليائه المفلحين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، إن ربي رحيم ودود.
أيها الإخوة المسلمون: لقد اهتم ديننا الحنيف، وحرص شرعنا المطهر المنزل من عند الله –عز وجل- على محمد -صلى الله عليه وسلم-، حرصت هذه الشريعة السمحة على إشاعة المحبة بين المسلمين، ونشر الألفة والتودد، وتحقيق الصفاء والنقاء بين عامة المسلمين، وقطع كل ما من شأنه إشاعة البغضاء والهجران، والشحناء بين المسلمين.
لقد حرصت على إزالة أسباب البغضاء، ودواعي الهجران، وطمس بواعث الشحناء والكراهية بين المسلمين، بل جاء هذا الدين -أيها الإخوة المسلمين- ليقضي على معالم الجفاء، وليجتث جذور الحقد والحسد من نفوس المسلمين، كل ذلك من أجل أن يعيش المسلمون في مجتمعاتهم إخوة متحابين، إخوة متوادين متناصحين، لا يحمل بعضهم حقدا على أحد، ولا يضمر شرا لأخيه الآخر، يمسي المسلم ويصبح، وهو سليم الصدر، نقي النفس، طاهر القلب والضمير تجاه إخوانه المسلمين، يسعى في حاجاتهم، يكف الأذى عنهم، ينزه لسانه وجوارحه عن الوقيعة في إخوانه المؤمنين.
بل ويشركهم مع نفسه في الدعاء، فلا ينسى في صلاته دائما أن يقول: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)[الفاتحة: 6].
بنون الجماعة، ولا ينسى أن يدعو لهم مع نفسه بالمغفرة والرحمة في صلاته وغير صلاته.
هذا هو المسلم حقا وصدقا، ظاهرا وباطنا، قلبا وقالبا، هذا هو المسلم كما يريد منا ديننا، هذا هو المسلم الذي يرضى عنه ربه ونبيه -صلى الله عليه وسلم-، ووالله ما أجمل الحياة، وألذ العيش وأطيبه، في ظلال مجتمع مسلم أفراده على هذا المستوى الرفيع، والقدر العظيم، من الالتزام بدينهم، وتطبيق آدابه، وامتثال أخلاقه، إنهم حقا يملئون الجو من حولهم إنسا وسرورا، ويشيعون فيه بهجة وحبورا.
هؤلاء هم قرة العيون، ونور الأبصار، إن عاشوا بين الناس عاشوا بحب وتقدير، وإجلال واحترام، وإن ماتوا بقي ذكرهم الحسن، وثناؤهم العطر.
فاللهم يا أرحم الراحمين اجعلنا من عبادك الصالحين، اجعلنا من عبادك وأوليائك المحبوبين من خلقك، والمحبوبين منك يا رب العالمين.
أيها الإخوة المسلمون: إن مما جاءت به هذه الشريعة الكريمة من أجل إذكاء المحبة بين المسلمين، ونشر الألفة والتودد بينهم؛ إفشاء السلام، ونشره بين الأنام: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
هذه التحية العظيمة، هذه التحية الكريمة، هذه التحية الحميدة التي لا تأخذ من قائلها إلا ثواني معدودة، هي تحية الرب -عز وجل- لأهل الجنة: (سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يــس: 58].
وهي تحية الملائكة، وتحية الأنبياء والرسل، وتحية الصالحين، وتحية أهل الجنة يوم القدوم على ربهم -عز وجل-: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ)[الأحزاب: 44].
هذه التحية تحية الإسلام، وشعار أهل الإيمان، هذه التحية الممتلئة بألفاظها وجملها المعدودة أمنا وسلاما، وطمأنينة ورحمة وبركه، هذه التحية المتضمنة طلب الحفظ من الله للمسلم عليه.
ولما في هذه التحية العظيمة من المعاني الكريمة، والغايات النبيلة؛ تكاثرت الأحاديث النبوية عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في الترغيب في إفشاءها، والحث على نشرها، ولا غر في ذلك، لا غر ولا عجب أن تتكاثر الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن هذه الشعيرة العظيمة شعيرة السلام.
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو: أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي الإسلام خير؟" أي صفات الإسلام خير، فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".
الله أكبر، من خير صفات الإسلام، ومناقب الإسلام؛ السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وروى الدارمي في السنن بسند صحيح عن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: "لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة استشرفه الناس، فقالوا: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرجت فيمن خرج، فلما رأيت وجهه -صلى الله عليه وسلم- عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام".
هذه أول وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته لأصحابه من الأنصار والمهاجرين في أول لقاء لهم يوم أن قدم المدينة: "يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام".
وروى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم".
قال ابن العربي -رحمه الله- وهو يعدد الفوائد من هذا الحديث: "الفائدة الرابعة: فائدة شيوع المحبة بين الخلق، ائتلاف الكلمة، فتعم المصلحة، وتقع المعاونة، وتظهر شعائر الدين، وتخزي زمرة الكافرين، ومن أسباب الجنة: إفشاء السلام، وأن يعم به الخلق، ولا يخص به المعرفة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم، أفشوا السلام، فإنها كلمة إذا صدرت أخلصت القلوب الواعية لها عن النفرة إلى الإقبال عليها، ويرزق القبول فيها" إلى أن قال رحمه الله: "وهي أول كلمة تفاوض فيها آدم مع الملائكة، فإنه لما خلقه الله، قال له: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة، فسلم عليهم فاستمع ما يوجبونك به، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: "السلام عليكم"، فقالت الملائكة: "وعليك السلام ورحمة الله".
وروى ابن ماجة بسند صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين".
وفي باب: مشروعية السلام، وبيان فضله، وثمراته؛ أحاديث متعددة كثيرة، ليس المجال مجال حصرها، واستقرائها، وإنما الغرض الإشارة إلى شيء منها؛ لتعلم -أيها المسلم- أي أجر وفضل وثواب رتبه ربك –عز وجل- على إفشاء السلام على هذه العبادة اليسيرة في جهدها، أو في الوقت التي تبذل فيه؛ لكنها عظيمة في أجرها وثوابها؛ لتحرص عليها إن كنت ممن يحرص على الخير والفضل.
أيها الإخوة المسلمون: إذا اتضح من خلال ما سبق ما للسلام من فضل وأجر؛ فإن للسلام كذلك فوائد عديدة، وثمار يانعة، وآثار حميدة؛ تقدم بعضها في الأحاديث السابقة؛ فمن فوائد السلام وثمراته: أنه امتثال لسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
وفي امتثال سنته صلى الله عليه وسلم تحصل الهداية والرحمة والبركة: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النــور: 54].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)[محمد: 33].
ومن فوائد السلام: الخروج من داء البخل؛ فقد روى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أعجز الناس من عجز في الدعاء وأبخل الناس من بخل في السلام".
ومنها: أن السلام سبب من أسباب دخول الجنة؛ كما تقدم في الأحاديث السابقة.
ومنها: أن السلام والمصافحة سبب في تكفير السيئات، ومحو الخطيئات؛ فعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا".
وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن المؤمن إذا لقي المؤمن، فسلم عليه، وأخذ بيده فصافحه؛ تناثرت خطاياهم كما يتناثر ورق الشجر" [رواه الطبراني في الأوسط].
وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن المسلم إذا لقي أخاه فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحر" [رواه الطبراني].
ومن فوائد السلام: تحصيل الحسنات العديدة على عمل يسير لا يأخذ إلا ثواني معدودة؛ فعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "السلام عليكم، فرد عليه صلى الله عليه وسلم ثم جلس"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عشر" ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد فجلس، فقال: "عشرون" ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد فجلس، فقال: "ثلاثون".
ومنها: أن السلام سبب من أسباب تصفية ود أخيك المسلم، وفيه أداء لحقه؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله عليه وسلم: "حق المسلم على المسلم ست" قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال:"إذا لقيته فسلم عليه..." الحديث..
ومن ثمار السلام التي يجنيها المسلم: أوليته بالله -تعالى-؛ لما رواه أبو داوود والترمذي وحسنه؛ فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام".
ولفظ الترمذي: قيل: يا رسول الله: "الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام؟" قال: "أولهما بالله -تعالى-".
ومن آثار السلام الجليلة: أنه سبب من أسباب حصول البركة وحدوث الخير؛ فعن أنس -رضي الله – قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهلك" [رواه الترمذي].
هذه بعض ثمار السلام وفوائده التي يجنيها المسلم في حياته: (وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[الشورى: 36].
أيها الإخوة المسلمون: للسلام في شريعة ربنا آداب ينبغي أن يحرص المسلم على تطبيقها؛ فمنها: الحرص على أكمل الألفاظ وأتمها في السلام، وهو لفظ: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
وأكمل الألفاظ في الرد: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته".
ومن آداب السلام: ما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير".
وفي حديث آخر: "يسلم الصغير على الكبير".
ومن الآداب كذلك: السلام عند دخول المجلس إذا قام منه؛ لما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ؛ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَةِ".
ومن الآداب: إذا أتى مجلسا وفيه أيقاظ ونيام أن لا يرفع صوته بالسلام، بل يسلم بين بين، فقد روى البخاري في الأدب، ومسلم في الصحيح: عن المقداد بن الأسود قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجيء من الليل، فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان".
ومن الآداب: أن لا يسلم على من كان يقضي حاجاته، ولا يرد إن سلم عليه؛ فقد روى الإمام مسلم في صحيحه: عن ابن عمر: "أن رجلا مر والرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه صلى الله عليه وسلم".
هذه بعض قضايا السلام وآدابه، وفضائله وثماره؛ ذكرتها؛ لتكون حفزا لنا على إظهار هذه السنة الكريمة من أجل تحقيق خيري الدنيا والآخرة.
نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من أهل دار السلام الذين يقال لهم: "ادخلوا الجنة بسلام".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) [النساء: 86].
بارك الله لي ولكن في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المسلمون: هذه هي تحية الإسلام وأهله التي رضيها الله لنفسه ولعباده المؤمنين، وأنعم بها من تحية، وأكرم بها من شعار بين المؤمنين.
فاحذر -أيها الأخ المسلم- احذر العدول عنها، وتبديلها بما هو أدنى منها من تحايا القوم، وعبراتهم، فمن الخير للمسلم أن يحرص على تحية الإسلام التي جاءت بها النصوص، والتي وعد الإسلام عليها بالأجر الجزيل، والثواب الوفير.
ثم بعد إلقاء تحية الإسلام أو ردها لا بأس حينئذ من بذكر بعض عبارات الترحيب الأخرى، لكن أن يكتفي بهذه العبارات، وتهجر تحية الإسلام، فهذا من حرمان الأجر والرغبة عن الفضل العظيم.
أيها الإخوة المسلمون: لقد كان السلف الصالح شديد الحرص على إفشاء السلام؛ روى أبو داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهم شجرة أو جدار ثم لقيه فليسلم عليه أيضا".
وروى الإمام مالك في الموطأ: أن الطفيل بن كعب أخبره: أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله بن عمر على سقاط ولا صاحب بيعة، ولا مسكين، ولا أحد إلا سلم عليه، قال الطفيل فجئت عبد الله بن عمر يوما فاستتبعني إلى السوق، فقلت له: وما تصنع في السوق وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق، قال: وأقول اجلس بنا هاهنا نتحدث، قال: فقال لي عبد الله بن عمر: "يا أبا بطن -وكان الطفيل ذا بطن- إنما نغدو من أجل السلام نسلم على من لقينا".
وسأل رجل الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- عن ابنة عم له تشتمه: أيسلم عليها؟ فقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "إذا لقيتها سلم عليها، اقطع الْمُصَارَمَةَ".
هكذا كان حرص السلف الصالح على السلام وإفشاءه؛ لما فيه من المنافع الجمة، ووالله إن مما يألم النفس، ويحزن القلب، ويضيق به الصدر، ما يلحظ على كثير من الناس في هذا الزمن من تجاهل لسنة السلام، وغيابه عن واقعهم، حتى فشا الهجران عند كثير من المسلمين، بل فشا الهجران بين القريب وقريبه، والجار وجاره، وفي أحيان بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه -نسأل الله السلامة والمغفرة، ونعوذ بالله من العقوق، وقطيعة الأرحام-.
ويا ليت ذلك بسبب ديني، إذاً لكان حسنا بضوابطه الشرعية، وإنما بسبب كلمة قيلت، ونقلها النمامون، أو بسبب عرض من أعراض الدنيا الدنيئة، أو لحقد وحسد -نسأل الله السلامة والعافية-.
لهذه الأسباب الحقيرة يصرم كثير من الناس حبال القرابة مع أقربائه، ويقطع أسباب الصلة والمودة مع إخوانه وزملائه وجيرانه، وما ذاك –والله- إلا لضعف الإيمان، والخضوع لوساوس الشيطان، وغياب الرؤية السليمة للعلاقات الاجتماعية في الإسلام.
كيف يليق بمسلم رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا ونبيا أن يلقي قريبه، فيصد عنه ويعرض عنه؟ كيف يليق بمسلم يرجو ما عند الله والدار الآخرة أن يهجر جاره وصديق؟ أما سمع هذا الغافل قوله صلى الله عليه وسلم محذرا من التهاجر بين الإخوان: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".
وأخرج أبو داوود والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث، فمات دخل النار".
وفي رواية لأبي داوود: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وأن لم يرد فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجر".
وروى الطبراني بسند صحيح عن فضالة بن عبادة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من هجر أخاه فوق ثلاث فهو النار، إلا أن يتداركه الله برحمته".
أيها الإخوة المسلمون: والله لا أظن مسلما يحمل في قلبه إيمانا صادقا، وخوفا من الله؛ يسمع هذه الأحاديث ثم يصر في عماه واستكباره، ويزداد في هجرانه وطغيانه؛ لعمرو الله لئن حصل ذلك فإنما هو دليل الشقاء والخذلان.
إن من الناس من يترفع عن السلام على عباد الله تكبرا وغرورا إما لمنصب حصله، أو لمال جمعه، أو أشد من ذلك أن يتكبر عن السلام، وهو فقير صعلوك، وحسب أولئك المتكبرين حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثال ذرة من كبر".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر".
وفي الحديث الآخر: "يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس يوم القيامة".
ويقرب من هذا الصنف قوم إذا سلم أحدهم سلم بأطراف أصابعه، دون اهتمام ومبالاة، يصحب ذلك عبوس وجه، وتقطب جبين، وكأنه يمن على الناس بسلامه وكلامه.
نسأل الله –عز وجل- أن يطهرنا جميعا من هذه الأخلاق الرديئة الدنسة النجسة، ونسأله سبحانه أن يزكينا بأخلاق الإسلام، وتعاليم الإسلام التي تكون ذكرا وثناءً حسنا لنا في الدنيا، وثواب وأجر يوم القدوم على الله –عز وجل-.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرة".
اللهم صل وسلم وبارك...