القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | الحسين أشقرا |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الحياة الآخرة |
إن لأهل التقوى والإيمان علامات يعرفون بها: صدق الحديث, ووفاء بالعهد، وصلة الأرحام، ورحمة بالضعفاء، وقلة المباهاة للناس, وحسن الخلق. وإن منا من تزود في رمضان بخير الزاد فتطهر لا يليق به أن يعود لما كان من الأدران، وإن من كانت فيه ثلاث خصال ذاق حلاوة الإيمان منها أن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُقذف في النار. وإنك -أيها المسلم- ناظر إلى عملك غدا يوزن خيره وشره، فلا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا...
عباد الله: تذهب الدقائق من أعمارنا بأعمارنا ويبقى الله، وتذهب الساعات والأيام ويبقى الله خالق الزمان والمكان, وتذهب الشهور والسنون ويبقى الله رب الشهور والسنين, يذهب الجاه والمنصب والمال ويبقى ما عند الله: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل: 96] , يذهب الولد والوالد والأحبة ويبقى الله. كل شيء يفنى (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) [الرحمن: 27].
فهل وعينا هذه الحقيقة أم أننا مغترون بالفانية, مفتونون عن الباقية؟.
فمن المفتون ؟ من المفتون -يا عباد الله-؟, نسمع جواب المبعوث رحمة للعالمين -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَبِي يَغْتَرُّونَ، أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ؟ فَبِي حَلَفْتُ لَأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَانًا" الترمدي, اللهم لا تجعلنا منهم.
أيها المسلمون: إن لأهل التقوى والإيمان علامات يعرفون بها:
صدق الحديث, ووفاء بالعهد، وصلة الأرحام، ورحمة بالضعفاء، وقلة المباهاة للناس, وحسن الخلق. وإن منا من تزود في رمضان بخير الزاد فتطهر لا يليق به أن يعود لما كان من الأدران، وإن من كانت فيه ثلاث خصال ذاق حلاوة الإيمان منها أن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُقذف في النار.
وإنك -أيها المسلم- ناظر إلى عملك غدا يوزن خيره وشره، فلا تحقرن من الخير شيئا وإن صغر، فإذا رأيت مكانه سرك, ولا تحقرن من الشر شيئا وإن صغر، فإذا رأيته ساءك مكانه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8].
ورحم الله رجلا كسب حلالا طيبا، وأنفق قصدا, وقدم فضلا ليوم فقره وفاقته. وهيهات هيهات لمن فتنته الفانية أن يفوز (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الإسراء: 72].
فيا من آمنت حقا: بِع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبيعن آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا. إن المؤمن الصادق لا تراه يلوم إلا نفسه ويعاتبها.
يا أيها المسلم: إياك والظلم فإنه ظلمات يوم القيامة وقد قال العادل سبحانه : "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا " و"ليأتين الناس يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فما يزال يؤخذ منهم حتى يبقى الواحد منهم مفلسا, وكلكم تذكرون حديث: "من المفلس؟".
أيها الناس: لو لم يكن لنا ذنب إلا حب الدنيا؛ لخشينا على أنفسنا الهلاك. فالله سبحانه يقول : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال: 67], فهنيئا لعبد أراد ما أراد الله.
أيها الناس, يا أهل المساجد وعمارها, يا أهل الله: لقد كان الرجل إذا طلب العلم يُرى ذلك فيبصره، وتخشعه, وصلاته ولسانه ويده وزهده. أما الآن ، فقد أصبح العلم مصيدة يصيد بها الشيطان العالِم ضحاياه إلا من رحم ربك وقليل ما هم. وترى الناس في تنافسهم الدنيوي بالجهل أو بالعلم بعضهم يصطاد بعضا والشباك تختلف.
أيها المسلمون: لا يزداد المومن صلاحا وعلما إلا ازداد خوفا وخشية واجتنابا للمعاصي (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [فاطر: 28], وأما الفاسق الجاهل فيقول: الناس مثلي كثير وسَيُغفر لي, إن الله غفور رحيم, ولا بأس علي. وعلى المغرور أن يعرف أن رحمة الله قريب من المحسنين، والله يقول: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82].
فاللهم اجعلنا لك تائبين، واجعلنا من العاملين المصلحين وممن بهداك اهتدوا.
ويغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين ولكل عبد قال آمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على نعمتي الإسلام والإيمان، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد:
أيها المسمون: لقد عاش الناس الصالحون الإسلام الذي أراده الله لعباده، وتحققت نعمته في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى رأسهم أبو بكر -رضي الله عنه- الذي كان أول المؤمنين به، وخير الصديقين و المصدقين له، فانقلب من رجل التجارة والتكسب وجمع المال إلى رجل الإيمان والصدق والعقيدة والتضحية.
ولنعش -أيها المؤمنون- لحظتين من لحظات هذا الرجل الشامخ, عسانا نقتفي أثره في زمن الافتتان والحيرة.
قالت ابنته أسماء: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرج أبو بكر معه للهجرة، احتمل أبو بكر معه ماله كله, فانطلق بها معه. قالت فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، وقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله ونفسه، قالت: فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة البيت الذي كان يضع فيه أبي ماله. قالت ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده، فقال: لابأس إذا ترك لكم فقد أحسن. قالت والله ما ترك لنا شيئا، وإنما أردت أن أسكت الشيخ بذلك.
هكذا أنت يا أبا بكر عشت كبيرا وفارقت الدنيا كبيرا, انشغلت بالله وبرسوله وبالآخرة فربحت الدنيا والآخرة.
وقفة أخرى أكثر معنى، فقد سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر عن أحب الأشياء له في هذه الدنيا, فقال: أحب من هذه الدنيا ثلاثـــــــــا يا رسول الله:
"النظر إليك, والجلوس بين يديك, وإنفاق مالي كله عليك".
فهل يحقق المسلمون اليوم إسلامهم في واقع حياتهم، أفرادا وجماعات ودولا بإحياء مُثُله العليا في نفوسهم ونفوس ناشئتهم، وفي أخلاقهم ووجودهم؟, (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) [آل عمران: 19], (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].
فالصحابة -رضي الله عنهم- كانوا على الإسلام وتبعهم على ذلك التابعون, ونحن اليوم ندعو الله ونقول: اللهم اجعلنا على نهج هؤلاء, وانفعنا بمحبتهم وكثر فينا ومنا الصالحين والمصلحين, ونجنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجعل اللهم بلدان المسلمين آمنة مستقرة ومطمئنة...