الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | خالد الشهري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أعلام الدعاة |
أيها الأحبة: كثيرا ما نحمل همَّ أنفسنا، وهمَّ أبنائنا وأهلينا، لكن هل حمل كل منا همَّ هذا الدين ليبلغه، أو ينشره، أو يدفع مالا لنشره، أو يدافع عنه؟ ما مساحة الدين بحياتنا؟ وما مساحة الدنيا في قلوبنا؟ كم نقضي مع وسائل التواصل والقنوات اليوم؟ وكم نقضي لخدمة ديننا؟! أسألك بالله ونفسي هل في يومك ولو ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الخلق وأحصاهم: (وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 94- 95] يعلم: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى)[طـه: 6] (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام: 59].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[الحديد:4].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإحبة الكرام: فاتقوا الله، فإن تقوى الله عليها المعول، وعليكم بما كان عليه حبيبكم -صلى الله عليه وسلم-، وتهيئوا للرحيل قبل لقياه، واعلموا أن كل إنسان بعمله لا بماله سيلقاه، وأن ليس للإنسان إلا ما جمعت يداه، وما أخفاه سرا عن ربه سينكشف الغطاء يوما فيراه: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[فصلت: 21].
أيها الإحبة: ها هي امرأة تدخل مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا بيت لها إلا غرفة سمح بها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تسكنها في جوار المسجد، غرفة صغيرة، متقاربة الجدران، لا تتسع إلا لسكن شخص واحد؛ إنه فندق تلك المرأة التي تحمل الهم الكبير لهذا الدين.
لم تجعل نفسها عبئا ثقيلا على بيت النبوة؛ إنما بحثت عن عمل تخدم به هذا الدين، تشعر وهي تخدمه أنها تؤدي فضلا لله عليها.
ها هي تبدأ عملها كل يوم تخدم المسجد النبوي، تتعهد نظافته، تلقط الخرق والعيدان، وتكنس فرشه كل نهار؛ إن لله عليها فضلا فهي تؤديه.
تدخل يوما على عائشة -رضي الله عنها- فتنشد نشيدا دائما ما كانت تنشده:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا | ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني |
تعجبت عائشة -رضي الله عنها- لها، فسألتها، فإذا بالمرأة تنهال دموعها، وتبكي، تحكي قصتها: كنت أمة فعتقوني، وبقيت أخدمهم في بيتهم، وفي يوم خرجت لهم فتاة، في يوم عرسها بوشاح أحمر، دخلت العروس تغتسل، وتركت وشاحها، فأتى طائر الْحِدَأَةُ، فأخذ الوشاح وطار، فاتهموني بسرقته، وانهالوا علي ضرباً وشتماً.
وكانت ساعة حرجة، لم أجد أحدا ينصرني، فاتجهت إلى الله، ونسيت الأصنام والإلهة، وسألت الله أن يظهر براءتي، فإذا بالْحِدَأَة تعود والوشاح معها، فلما قربت منهم ألقت الْحِدَأَةُ الوشاح بينهم، وأظهر الله براءتي، فعلمت أنه لا منجي لي إلا الله، فبحثت عن الله، وبحثت مرارا كثيرا ولم أجد الإجابة إلا عند محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهاجرت إليه، وأسلمت.
كم من المحن -أيها الإحبة- في حياتنا اليوم نراها كدرا، ربما يكون مرضا، ربما يكون حادثا مروريا، ربما يكون ضياع مال، أو فقر، فإذا انجلت المحنة رأينا الخير في طياتها.
أيها الكرام: هنيئا لتلك المرأة سكناها بجوار محمد -صلى الله عليه وسلم-، عاملة نظافة!.
نعم هي عاملة نظافة! أقل مهنة اليوم! لكنها أشرفها في خدمة الدين.
فقدها النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما، فسأل عنها، قالوا: يا رسول الله ماتت البارحة، فقال: "أفلا كنتم آذنتموني؟!" أي أخبرتموني، قالوا: يا رسول الله ماتت من الليل، فكرهنا أن نوقظك، لم تكن صاحب منصب، أو جاه، ولم تكن صاحب مال، إنما هي تكاد تكون مفقودة في وسط العالم، لكنها شريفة عند الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: "دلوني على قبرها" فأتى صلى الله عليه وسلم قبرها، فصلى عليها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها عليهم بصلاتي".
أيها الإحبة: هنيئا لها، وهنيئا لكل خادم لهذا الدين، من يحمل هم الدين أكثر مما يحمل هم نفسه وعياله؟!
هنيئا لخادم هذا الدين، تاج الوقار من محمد -صلى الله عليه وسلم-، هنيئا لها، وهنيئا لمن بعدها ممن خدم هذا الدين، بصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إنها امرأة عاملة نظافة تخدم الدين! وتحمل همه! ووزراء وكبراء وعظماء، ما حملوا همَّ الدين يوماً!.
إنها امرأة تكاد تكون شبه مفقودة، لا يرجى منها شيء، لا أقارب لها ولا مال، لكنها جعلت لحياتها معنى، وكثير من الناس يحمل الشهادة ولديه التجارة والمال، ولكنهم يموتون ولا يبكي عليهم أحد.
إن تلك المرأة التي أحزن موتها محمدا -صلى الله عليه وسلم-، وهز قلبه كثيرا، ومن الناس الذين لم يحملوا همَّ الدين لم يحزن عليهم أحد.
لقد كان هذا العمل صغيرا، لكنه كان في عين النبي -صلى الله عليه وسلم- كبيرا، جعل هذا العمل النبي –صلى الله عليه وسلم- يبحث عن قبرها، ويقف مصليا، يدعو لها!.
إن نسيها العالم فلن ينساها الله، إن نسيك العالم وأنت تخدم هذا الدين، فسيذكرك الله، وستُذكر بعد موتك بخدمة دينك!.
هل سنذكر بعد موتنا بخدمة ديننا أم بخدمة دراهمنا وأبنائنا ومناصبنا؟!
هل سيُذكر كم خلفنا من العمارات والشقق؟ أم كم خلفنا في خدمة هذا الدين؟!
رفع خُبيب -رضي الله عنه- على خشبة الصلب ليقتلوه، ثم قالوا له: أتحب أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- مكانك وأنت في أهلك؟ قال الذي يحمل هم الدين: "والله ما أحب أن محمدا يشاك بشوكة واحدة وأنا في أهلي".
سأل عمر -رضي الله عنه- في قتلى القادسية، قال: من مات؟ قالوا: مات فلان وفلان وفلان، أناس ما نعرفهم، قال: إن كان عمر لا يعرفهم فإن الله يعرفهم.
نعم يعرفهم بسجلهم عند الله، في خدمة هذا الدين.
أيها الإحبة: كثيرا ما نحمل همَّ أنفسنا، وهمَّ أبنائنا وأهلينا، لكن هل حمل كل منا همَّ هذا الدين ليبلغه، أو ينشره، أو يدفع مالا لنشره، أو يدافع عنه؟
ما مساحة الدين بحياتنا؟ وما مساحة الدنيا في قلوبنا؟
كم نقضي مع وسائل التواصل والقنوات اليوم؟ وكم نقضي لخدمة ديننا؟!
أسألك بالله –ونفسي- هل في يومك ولو ثلث ساعة أو أقل تخدم هذا الدين كما تخدم الواتس أب وتوتير وغيرها؟!
إن المرأة السوداء ذُكرت بعد موتها بألف وأربعمائة وثلاثين سنة وزيادة! بعمل نحن نراه قليلا لكنه عند الله كثيرا! فهل ستذكر بعد موتك ولو بسنة أو سنتين؟!
ألا وإن هناك رجالا يخدمون الدين وإن لم يذكرهم الإعلام! رحم الله الشيخ الحصين وأسكنه فسيح الجنان، فقد كان ممن عمل لهذا الدين عملا خفيا.
اخدم هذا الدين لتذكر به بعد موتك، واخدم الدنيا وأهلها وستذكر بعد موتك بشهر أو شهرين، ثم تنسى كما نسي أهل المقابر!.
تأمل في الوجود بعين ذكر | ترى الدنيا الدنيئة كالخيال |
وكل ما فيها سوف يبلى | ويبقى وجه ربك ذو الجلال |
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اجعلنا ممن خدم هذا الدين، اللهم اجعلنا ممن حمل همَّ هذا الدين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على عظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
أيها الإحبة الكرام: ذكر الشيخ عبد العزيز الخضير -حفظه الله- يقول: قابلت في أحد المجالس طبيبان من هولندا، سألتهما عن قصة إسلامهما، فقال الأول: كنت في أحد الشوارع في هولندا، أتاني رجل لا أعرفه، يمد يده لكل من رآه، ويفتح يده، ثم يضع الكتاب في يده غصبا عنه، ويقول له: اقرأ عن الدين الحق، اقرأ عن القرآن، اقرأ عن الإسلام.
قال فلم يعجبني تعامله، إذ يفتح يدي غصبا، ويضع فيها الكتاب، قال: فرميت بالكتاب، وما مر ذلك الرجل بأحد إلا أعطاه الكتاب، قال: فعدت إلى البيت، ولما وضعت رأسي على فراشي، أقلقني ما فعلت! فقلت: لِمَ أردُّ شيئا وإن كان فيه حق وإن لم يعجبني صاحب التعامل؟!
قال: فخرجت من اليوم الآخر أبحث عنه، فما وجدته، أسبوعين، ثلاثة، إلى شهرين، لم أعد أراه، وبعد ثلاثة أشهر قابلته، سألته عن الكتاب، قال: ليس معي، لكن انتظر قليلا، ثم خرج من عندي وما أحد إلا وفتح يده وأعطاه! وهو يقول: اقرأ عن الدين الحق! قال: ثم عاد إلي وأعطاني الكتاب، قرأته وأنهيته بعد ثلاثة أشهر، ثم أسلمت.
فقال الذي بجانبه الطبيب الآخر: أهو عبد المجيد؟! قال: نعم، أهو رجل أسمر؟! قال: نعم، قال: وأنا أسلمت على يده! قال: فمرت الأيام، قابلت رجلا هولنديا في الحج، جمعني به يوم عرفة، قال: فكنت أحدثه عن هولندا، وعن هذه القصة!.
قال: فما حدثته عن هذه القصة، وهو ينظر إلي في مجمع من الناس، إذا بالرجل ينهار ويبكي، ثم زاد بكاؤه، قال: فاستغربت وسألته: ما بك؟ قال: هما أسلما؟! قلت: نعم، قال: أسلما؟! قلت: نعم، قال: "أنا عبد المجيد الهولندي الذي يوزع تلك الكتب، والمطويات في شارع هولندا!".
أيها الإحبة: من منا وزع شيئا للإسلام بدل أن يوزع في الوتس أب وغيرها قبيح وسيء العبارات؟!
بدل أن نبقى على الانترنت الساعات أفلا بقينا مع كتاب الله؟! نشرنا الخير؟! نشرنا الفضيلة؟! تبرعنا لمكاتب الدعوة؟ عملنا عملا نذكر به بعد موتنا؟! أم سنكون ترابا مثل ما كنا ترابا؟!
الله الله: أحي نفسك بحمل همَّ هذا الدين، فمن حمل همَّ هذا الدين حمل ذكره في الدنيا، وعند العرض، وعند الوقوف بين يديه.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اجعلنا ممن حمل همَّ هذا الدين.