الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ولا تعجب إذا علمت أنَّ من أكبرِ أسبابِ فشل الزواج وتفريق البيتِ بعد الاجتماعِ التساهل في أمرِ التزويجِ والتقصير في أمر البحث والتدقيقِ، فما أن يعقد القِرانُ ويتمّ النكاحُ إلا وتتبين خفايا عظام وأمورٌ لا يمكنُ معها البقاءُ والدوامُ، فيسعى الولي في فكاك موليته واستنقاذ مزوجتك..
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإنَّ مما يختبر به العبدُ ويبتلى ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن نبينا المصطفى أنه قال: "من ابتلي من هذه البناتِ بشيء فأحسن إليهن كنَّ له سترًا من النار". فقد جعل النبي أمر البناتِ ابتلاء يبتلى به العبد، فإن أحسن إليهن تربيةً وتعليمًا ونفقة وستَرَهن وألبسهن لباس التقوى حِسًا ومعنى فإنَّهن يكن له سِتْرًا يَقِينه دخولَ النَّارِ.
فلا تشاؤمَ جاهلي بولادة البنات أو كثرتهن، كيف وقد كان نبينا محمد أبًا لأربعِ بناتٍ: زينبَ ورقيةَ وأمِّ كلثوم وقد توفين في حياته، ثم فاطمة تأخرت بعده بستةِ أشهر، وهي سيدة نساء أهل الجنَّة.
وعلى قدر ما ورد في فضل رعايةِ البناتِ تعظم المسؤوليةُ في التفريط في حقهن والتساهل في أداء الأمانةِ تجاههنَّ، "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته".
ألا وإن مِن أعظم ما يتعلق بالمسؤولية تجاه البناتِ، بل وغيرهن من الأخواتِ وسائر القريباتِ اللاتي لك عليهن ولاية أو وصاية، إنها مسؤولية التزويجِ والنظر في حال الخطابِ والسؤالِ عن الكفء.
ولا تعجب إذا علمت أنَّ من أكبرِ أسبابِ فشل الزواج وتفريق البيتِ بعد الاجتماعِ التساهل في أمرِ التزويجِ والتقصير في أمر البحث والتدقيقِ، فما أن يعقد القِرانُ ويتمّ النكاحُ إلا وتتبين خفايا عظام وأمورٌ لا يمكنُ معها البقاءُ والدوامُ، فيسعى الولي في فكاك موليته واستنقاذ مزوجتك.
إن من حق الله عليك بعد أن بلَّغت موليتك سنَّ الزواجِ وطرق بابك إليها الخطاب أن تختار لها الكفء الذي يكونُ به حفظها وتحصل به سعادتها، وهذه المرحلة من أحرج المراحلِ وأشدها خطرًا، ولكن من يستعينُ بالله يعينُه الله.
فواجبٌ على الولي إن لم يكن يعرِفُ الخاطبَ أن يسألَ عنه، وأن يعدد الجهاتِ المسؤولة حتى تكتمل لديه الصورة. وأهم ما يسأل عنه ما يتعلق بأمر دينه واستقامة خلقه.
فلا يزوج من لا يُصَلي وإن حَسنت معاملته ولم تفارق شفتيه ابتسامته، ولا يزوجُ من اشتهر فسقه أو ساءت عِشرتُه ولو كثر تردده وكثُر المتوسِطون له أو رضيت به مخطوبته، فهؤلاء لا يزوجونَ ولا كرامة، ولا إثمَ على الولي لو بقيت موليته طول عمرها بلا زواجٍ.
ثم على الولي بعد سؤاله عن الخاطب وتحريه عنه أن ينقل ما عرفه وقيل عنه إلى المخطوبة من بنت أو غيرها بلا مبالغةٍ أو تقصيرٍ، وأن يشير بما يرى، فلا إكراه في الزواجِ، قال النبي : "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت".
وإنَّ على من استشير في تزويجِ أحدٍ من الناس أن يتقي الله في مشورته، فلا يمدح الخاطب ويضع فيه ما ليس فيه من الصفاتِ الحسنة حتى يزَوّجَ، ولا يَعيبه وينتقِصه حتى يردَّ، "فلا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه ".
فإن عجز عن قولِ الحقِّ أو جهل الخاطبَ فالواجب أن يعتذرَ عن المشورة وإبداء الرأي، فمن عجز عن المشورة بالحقِّ فلا يسعه أن يقولَ الباطلَ، سواءٌ كان المسؤولُ قريبًا للخاطِب أو زميلاً أو صديقًا له أو إمامًا أو مؤذنًا لمسجده (يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِلْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْولِدَيْنِ وَلأقْرَبِينَ) [النساء:135].
وإنَّ بعض المسؤولين عن الخطابِ يصفون الخاطب بما ليس فيه، أو يُغْفِلون ما يقدحُ فيه، ويعتذرون لأنفسهم: لعله يُزوَّجُ فتصلحَ حاله. فيا سبحان الله! هل ترضى أن تُغشَّ بخاطب لبنتك بهذه الحجة؟! فاتق الله، وقل الحقَّ، وقد يكون ردُّه هو سببَ صَلاحِه، وليس تزويجَه.
معاشر الأولياءِ من الآباء والإخوة وغيرهم، ها هنا أمرٌ لعلكم لا تستعجلون في رده واستنكاره، بل تفهّموه وفكِّروا فيه، وقبل أن أذكره أذكر دليله وأصله الشرعي، فقد حكى الله عن صاحب مدين الرجل الصالح أنه قال لنبي الله موسى : (قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ) [القصص:27]، وفي صحيح البخاري وغيره قال عمر رضي الله عنه: لقيت عثمان بن عفان فقلت له: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثتُ ليالي ثمَّ لقيته فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج. قال عمر: فلقيت أبا بكر، فعرضتُ عليه حفصة، فلم يجب أبو بكر ولم يتكلم، فما هي إلا ليالٍ حتَّى خطبها رسول الله ثمَّ تزوجها.
وفي أخبارِ سعيد بن المسيبِ من أفاضل التابعين وعلمائِهم أنَّه ردَّ خطوبة الخليفة الوليد بن عبد الملك لبنته، وأبى أن يزوج بنته ابن الخليفة، ثم خطب هو لبنته أحد تلاميذه، وزوجها إياه بدرهمين، وبادر في زفها إليه على فقره وقلة يده.
إنَّ ما أعنيه ـ أيُّها الولي ـ أن تبحث لبنتك أو غيرها ممن لك ولاية عليها، أن تبحث لها عن الزوجِ الكفء، أن تبحثَ بنفسك أو بواسطة رجلٍ صالحٍ مؤتمن، فتطرق بابه قبل أن يطرقَ بابك، وتختاره قبل أن يختارك. ألست تختارُ لبنتك وموليتك أو تعهد بذلك إلى من يختار لها اللباس المناسب والحوائج المناسبة؟! إنَّ اختيار الزوجَ المناسب أولى وأولى، وهو من أفضل إحسانٍ تبذله لموليتك، ويبقى بعد توفيق الله معروفًا لا ينسى وجميلاً لا ينكرَ من موليتك، بل ومن زوجها المختارِ. وليس في ذلك نقيصةٌ عليك، ولا على من أنت وليُّها، وقد عرفتَ أصلَه، ومن سبقك إلى فعله.
وإن عَرضَ المرأة على الكفءِ لها ـ سواءً عرضتها بنفسك أو بغيرك ـ متأكِّدٌ في هذا الزمن قبل أن يفجأك خاطِبٌ لا تريده، أو مجهولٌ يعسر البحث عنه، ومتأكّدٌ أيضًا في موليتك المطلّقة التي لم يكتب الله لها توفيق في زواج سابقٍ، وفي موليتك التي تقدَّم سنُّها أو قلَّ جمالُها ورُغِب عنها. فعرض هؤلاء على الأكفاء متأكدٌ، ولو أن تعرضها على من تكونُ عنده زوجة ثانية أو ثالثة. فاحتسب هذا، ودافع العقبات الوهمية والموانع العاطفية.
أعانني الله وإياكم على أداء الأمانة، وجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن مما لا يغفل الكلامُ عنه ما توسع فيه كثيرٌ من الناس وتفاخر فيه آخرون وصار عقبة أمام المتزوجين قضية المهور. أوَما عَلِم هؤلاء ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تُغْلوا صُدُق النساء، فإنها لو كانت مكرمَةً في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي"، وجاء عَن النَّبي : "إنَّ أعْظَمَ النكاح بركة أيسره مؤونة " رواه الإمام أحمد وله طرق، وقال النبي : "من أَعْطى في صداقٍ ملء كفيه سويقًا أو تمرًا فقد استحلَّ "، وأجاز النبي نكاح امرأة على نعلين، وقال لآخر: "التمس ولو خاتمًا من حديد"، فلمَّا لم يجد زوجه بما معه من القرآن. فنعم الصداق، وبورك هذا الزواج.
قال شيخ الإسلام: "ويكره للرجلِ أن يصدق المرأة صداقًا يُضِرُّ به إنْ نَقَدَه، ويعجُزُ عَن أدائه إن كانَ دَينًا"، وقال: "فمن دعته نفسه إلى أن يزيدَ صداق ابنته على صداقِ بناتِ رسول الله اللواتي هُنَّ خيرُ خلقِ الله في كلِّ فضيلةٍ وهنَّ أفضلُ نساء العالمين في كلِّ صفةٍ فهو جاهل أحمقُ" [مجموع الفتاوى (32/194)].
إنَّ قضيةَ مغالاةِ المهور والتباهي بها قضيةُ كلِّ غيور على شباب المسلمين وشاباتهم، لأنه ما بعد المغالاة في المهور إلا الإعْراض عنْ الزَّواجِ، في زَمَن يُدْرِكُ كُلُّ عاقِل حاجَةَ الشَّابِ المتأكِدَةَ إلى إحصانه بزوجة يغض بها بصرَه ويحفظ بها فرجه، فالفتن مستشرفةٌ، ووسائل الإغواء منتشرة، ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم.
إنَّ هذه القضيةَ يجِب أن يَسْعى في حلّها كلُّ مشفِقٍ على شبابِ و شاباتِ المسلمين، فما بالنا نشتكى غلاء المهور في مجالسنا وصعوبة النكاح على شبابنا؟! والأمر كلُّه ـ بعد الله ـ بأيدينا، أوَ ننتظر فيها قرارًا دوليًا أو نظامًا قانونيًا؟! أيعجَز أحدُنا إذا تَقَدم إليه مَن يرضى دينه وخلقه أن يزوجه بما لا يشقُّ عليه، ولو كان دون مهر المثل إذا رضيته الزوجة؟! ولا يلجئه إلى دينٍ يثقله، يذهب به ماء وجهه.
والعِوَضُ عما يفوت من المهرِ إحْصانُ مولِيَّتك، وحفظها من الحرام وأسبابه، والمساهَمَةُ في فتحِ بيتٍ مسلِمٍ يكثرُ به نسلهم وتزداد به قوتهم. ورَحَم الله امْرأ زوجَ موليته مِنْ كفئها، فلم يُغالِ في مهرها، فأحيا بذلك سنةً حسنةً، وصارت موليته قُدْوَةً لِغَيْرِها.
اللهم وفقنا للقيام بالأمانة، وأعذنا من التفريط والخيانة...