البحث

عبارات مقترحة:

المنان

المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...

الأول

(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

وعد الله تعالى

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. وعد الله أصدق الوعود .
  2. نماذج من موعود الله - تعالى - للبشر .
  3. وعد الشيطان .
  4. انتصار موسى على فرعون بوعد من الله .
  5. صيام عاشوراء شكرًا لله على نجاة موسى -عليه السلام- .

اقتباس

إن الله سبحانه حين خلق الأرض وما عليها، وأسكنها البشر، قد جعل الدنيا دارا يعمل العباد فيها لتحقيق ما وعد سبحانه وتعالى، وحين يتفكر العباد أنهم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم إلى موتهم إنما يعملون ليتحقق وعد الله تعالى فيهم؛ فإنه يجب عليهم أن يُولوا هذا الوعد عنايتهم، ويرخوا له أسماعهم، وتعيه قلوبهم، ويعملوا بما ينجيهم، وهم يرون الأعوام تطوى، والأعمار تنقص.

الخطبة الأولى:

الحَمْدُ للهِ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ؛ بَاسِطِ الخَيْرَاتِ، وَاهِبِ البَرَكَاتِ، وَاسِعِ الرَّحَمَاتِ، غَافِرِ الغَدَرَاتِ، مُجِيبِ الدَّعَوَاتِ، نَحْمَدُهُ فَهُوَ أَهْلُ الحَمْدِ، وَلاَ أَحَدَ أَحَقُّ بِالحَمْدِ مِنْهُ؛ فَلَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى الفَضْلِ وَالنِّعْمَةِ، وَمَا أَسْدَى مِنَ المِنْحَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [الزمر: 5]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بُشِّرَتْ بِهِ الأُمَّةُ، وَبِهِ تَمَّتِ النِّعْمَةُ، وَكُشِفَتِ الغُمَّةُ، وَتَنَزَّلَتِ الرَّحْمَةُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَن تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَقْوَالَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصْدًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَعُيُونًا مِنْ جَوَارِحِكُمْ، وَحُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ، لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمُ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ، وَلاَ يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ، وَإِنَّ غَدًا مِنَ اليَوْمِ قَرِيبٌ، يَذْهَبُ اليَوْمُ بِمَا فِيهِ، وَيَجِيءُ الغَدُ لاَحِقًا بِهِ، فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ قَدْ بَلَغَ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ، وَمَخَطَّ حُفْرَتِهِ، فَيَا لَهُ مِنْ مَنْزِلِ وَحْشَةٍ، فَأَعِدُّوا لَهُ العُدَّةَ.

أَيُّهَا النَّاسُ: كُلُّ وَعْدٍ يَقْطَعُهُ صَاحِبُهُ فَلاَ بُدَّ لِوُقُوعِهِ مِنَ الصِّدْقِ وَالقُدْرَةِ؛ فَالعَاجِزُ لَا يَفِي بِمَا وَعَدَ، وَالكَاذِبُ يُخْلِفُ الوَعْدَ. وَأَصْدَقُ الوَعْدِ وَأَنْجَزُهُ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ؛ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الكَذِبِ، فلا يُخْلِفُ مَا وَعَدَ: (وَعْدُ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء: 122]، (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ) [الذاريات: 5] (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) [المرسلات: 7]، (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف: 16].

وَوَعْدُهُ -سُبْحَانَهُ وتَعَالَى- مَبْثُوثٌ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ لِمَنْ قَرَأَهُ وَفَهِمَهُ وَتَدَبَّرَهُ فَاعْتَبَرَ بِآيَاتِهِ، وَاتَّعَظَ بِمَوَاعِظِهِ: (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) [ق: 45].

إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ حِينَ خَلَقَ الأَرْضَ وَمَا عَلَيْهَا، وَأَسْكَنَهَا البَشَرَ، قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارًا يَعْمَلُ العِبَادُ فِيهَا لِتَحْقِيقِ مَا وَعَدَ -سُبْحَانَهُ وتَعَالَى-، وَحِينَ يَتَفَكَّرُ العِبَادُ أَنَّهُمْ فِي مَاضِيهِمْ وَحَاضِرِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ إِلَى مَوْتِهِمْ إِنَّمَا يَعْمَلُونَ لِيَتَحَقَّقَ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُولُوا هَذَا الوَعْدَ عِنَايَتَهُمْ، وَيُرْخُوا لَهُ أَسْمَاعَهُمْ، وَتَعِيهِ قُلُوبُهُمْ، وَيَعْمَلُوا بِمَا يُنْجِيهِمْ، وَهُمْ يَرَوْنَ الأَعْوَامَ تُطْوَى، وَالأَعْمَارَ تَنْقُصْ.

إِنَّكُ -أَيُّهَا الإِنْسَانُ- خُلِقْتَ وَرُزِقْتَ وَعِشْتَ وَتَمُوتُ ثُمَّ تُبْعَثُ لِيَتَحَقَّقَ فِيكَ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى، فَأَهَمُّ شَيْءٍ يَجِبُ أَنْ تَعْتَنِيَ بِهِ هُوَ مَعْرِفَةُ هَذَا الوَعْدِ؛ لِيَقِينِكَ بِوُقُوعِهِ وَتَحَقُّقِهِ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي وَعَدَكَ بِهِ.

لَقَدْ وَعَدَ اللهُ تَعَالَى كُلَّ الخَلْقِ بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ: خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].

وَالقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِالمُؤَكِّدَاتِ عَلَى تَحَقُّقِ هَذَا الوَعْدِ: (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا) [الكهف: 21]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5]، (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية: 32].

لاحِظُوا -عِبَادَ اللهِ- كَثَافَةَ هَذِهِ الآيَاتِ فِي تَأْكِيدِ هَذَا الوَعْدِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَهْتَمَّ بِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ، حَتَّى سُمِّيَ يَوْمُهُ (الْيَوْمُ المَوْعُودُ)؛ (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) [البروج: 1، 2]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "وَعَدَ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِيهِ".

وَلاحِظُوا فِي الآيَاتِ أَيْضًا أَنَّ الَّذِي يَجْعَلُ الإِنْسَانَ لَا يَأْبَهُ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى: الجَهْلُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَبِوَعْدِهِ، وَالغُرُورُ بِالدُّنْيَا وَزِينَتِهَا؛ فَإِنَّ مَتَاعَ الدُّنْيَا يَغُرُّ بَعْضَ النَّاسِ فَتُسْرِعُ بِهِمُ الأَيَّامُ إِلَى آجَالِهِمْ وَهُمْ فِي غُرُورِهِمْ، لَمْ يَعْمَلُوا لآخِرَتِهِمْ، وَلاَ يَسْتَوِي هَؤُلاَءِ مَعَ الَّذِينَ عَرَفُوا وَعْدَ اللهِ تَعَالَى، وَوَضَعُوهُ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَأَشْغَلُوا عُقُولَهُمْ بِالتَّفَكُّرِ فِيهِ، وَاسْتَعَدُّوا لَهُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [القصص: 61]، وَفِي دُعَاءِ أَهْلِ العِلْمِ وَالإِيمَانِ مَا يَتَضَمَّنُ الإِقْرَارَ بِذَلِكَ الوَعْدِ الرَّبَّانِيِّ: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ المِيعَاد) [آل عمران: 9]

إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ أَهْلَ الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ بِالمَغْفِرَةِ وَالأَجْرِ: (وَعَدَ اللهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [المائدة: 9]، وَنَتِيجَةُ ذَلِكَ الجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) [التوبة: 72]، (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدُ اللهِ حَقًّا) [لقمان: 8، 9]، (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وعدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ المِيعَاد) [الزمر: 20].

وَأَهْلُ الإِيمَانِ يَسْأَلُونَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الجَزَاءِ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ، مَعَ يَقِينِهِمْ أَنَّ وَعْدَهُ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّهُمْ يَخَافُونَ عَدَمَ القَبُولِ وَمُقَارَفَةَ الذُّنُوبِ، وَيَتَبَرَّكُونَ بِذَلِكُمُ الدُّعَاءِ المُبَارَكِ: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ المِيعَاد) [آل عمران: 194].

وَوَعَدَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الكُفْرِ وَالنِّفَاقِ بِالعَذَابِ وَالنَّكَالِ: (وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [التوبة: 68]، (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر: 46]، ويُذَكَّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِتَكْذِيبِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ؛ (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا) [الكهف: 48]، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَسْخَرُونَ مِنَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُمْ يُذَكِّرُونَهُمْ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى فِي الآخِرَةِ: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ: 29، 30].

وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يَجِدُ كُلُّ مَوْعُودٍ مَا وُعِدَ، وَيُذَكَّرُ بِمَا وُعِدَ فِي الدُّنْيَا؛ فَأَهْلُ الإِيمَانِ تَتَلَقَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ بِالبُشْرَى، يُذَكِّرُونَهُمْ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ: (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: 103]، (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) [ص: 53، 54].

وَكَذَلِكَ أَهْلُ الكُفْرِ وَالنِّفَاقِ يَجِدُونَ مَا وُعِدُوا وَيُذَكَّرُونَ بِهِ: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [يس: 63، 64]، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) [الذاريات: 60].

وَوَعَدَ -سُبْحَانَهُ وتَعَالَى- أَهْلَ الإِيمَانِ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الدُّنْيَا، وَالاسْتِخْلاَفِ فِي الأَرْضِ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور: 55]، كَمَا وَعَدَ الكُفَّارَ بِالعَذَابِ فِي الدُّنْيَا: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ المِيعَاد) [الرعد: 31].

وَهَذَا الوَعْدُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ لَوْ تَأَمَّلَهُ النَّاسُ مَلِيًّا، وَفَقِهُوهُ حَقَّ الفِقْهِ؛ فَإِنَّ وَعْدَ اللهِ تَعَالَى لَا يُخْلَفُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ؛ زِيَادَةً فِي الامْتِحَانِ وَالابْتِلاَءِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالإِمْدَادِ وَالإِمْلَاءِ لِلْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ؛ وَلِذَا جَاءَ التَّأْكِيدُ عَلَى الصَّبْرِ مَقْرُونًا بِإِثْبَاتِ الوَعْدِ حَتَّى لَا يَتَزَعْزَعَ المُوقِنُ عَنْ يَقِينِهِ، وَلاَ يَتَزَحْزَحَ المُؤْمِنُ عَنْ إِيمَانِهِ: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم: 60]، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [غافر: 55]، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [غافر: 77].

فإذا مَا أَحْزَنَ المُؤْمِنَ تَسَلُّطُ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ فَلْيَقْرَأِ القُرْآنَ بِتَدَبُّرٍ، وَلْيُرَاجِعْ آيَاتِ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ: (كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 103] (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173]، (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) [إبراهيم: 47]، وَلْيَقْرَأْ وَعِيدَهُ سُبْحَانَهُ فِي الكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِينَ: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 12]، (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) [الزخرف: 41، 42]، (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [المجادلة: 5]، وَوَعَدَ قَوْمَ لُوطٍ الصُّبْحَ فَجَاءَهُمْ مَا وُعِدُوا فِي صُبْحِهِمْ: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) [هود: 81، 83].

وَالشَّيْطَانُ يَعِدُ النَّاسَ بِخِلاَفِ وَعْدِ الرَّحْمَنِ سُبْحَانَهُ؛ وَلِذَا حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى مِنْ وَعْدِ الشَّيْطَانِ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) [البقرة: 268]، (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [النساء: 120].

وَيُقِرُّ الشَّيْطَانُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَنَّهُ قَدْ غَرَّ مَنْ وَعَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْدَاهُمْ فِي العَذَابِ، فَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ حَسْرَةً وَعَذَابًا: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم: 22]، بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فيه كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

أَيُّهَا النَّاسُ: مِمَّا وَقَعَ مِنْ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ حَادِثَةُ نَصْرِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص:5-6]، ثُمَّ لَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- كَرَّرَ عَلَيْهِمْ وَعْدَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ لَمَّا شَكَوْا إِلَيْهِ أَذَى فِرْعَوْنَ وَجَبَرُوتَهُ فَقَالَ مُوسَى لَهُمْ: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 129].

وَمِنْ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الحَادِثَةِ العَظِيمَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَوْحَى إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ تُلْقِيَهُ وَهُوَ رَضِيعٌ فِي اليَمِّ وَعَدَهَا بِرُجُوعِهِ إِلَيْهَا فَكَانَ وَعْدُهُ سُبْحَانَهُ حَقًّا وَصِدْقًا: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) [القصص: 13].

وَمَضَى وَعْدُ اللهِ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ مُوسَى بِالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَفِي عَدِّوِهِ فِرْعَوْنَ بِالهَلاَكِ وَالتَّعْذِيبِ: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف: 137]، وَكَلِمَةُ اللهِ الَّتِي تَمَّتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ هِيَ وَعْدُهُ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ.

فَكَانَ ذَلِكَ اليَوْمُ يَوْمَ شُكْرٍ عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، تَوَارَثُوا تَعْظِيمَهُ وَالاحْتِفَاءَ بِهِ مِنْ عَهْدِ مُوسَى إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ-، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟!" قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ"؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "خَالِفُوا اليَهُودَ، وَصُومُوا التَّاسِعَ وَالعَاشِرَ".

وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "...وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَصُومُوهُ وَصُومُوا التَّاسِعَ مَعَهُ؛ تَحَرِّيًا لِلسُّنَّةِ، وَطَلَبًا لِلأَجْرِ، وَمُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ، وَشُكْرًا للهِ تَعَالَى عَلَى نَصْرِ مُوسَى وَالمُؤْمِنِينَ، وَهَلاَكِ فِرْعَوْنَ وَالكَافِرِينَ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...