العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إنها عائلةٌ ولكن ليست كالعائلاتِ، ها هي الزوجةُ تنظرُ إلى زوجِها، سندِها، وحاميها، وقد قُيِّدت رِجلاه ويداه بالحِبالِ، ويذوقُ من أصنافِ العذابِ ما لا تتحمَّلُه الجبالُ، فتلتفتُ إلى الجهةِ الأخرى فترى ابنَها، وحيدَها، بين القيودِ الغليظةِ، يُغطَّسُ رأسُه في الماءِ حتى يُوشكَ على الموتِ، يُجلدانِ بالسِياطِ حتى تنزفَ ظهورُهما، فأيُ شعورٍ تتوقعونَ في قلبِ هذه الزوجةِ والأمِ المكلومةِ؟ وأما هي، ف...
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهده اللهُ فلا مضلَ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
إنها عائلةٌ ولكن ليست كالعائلاتِ، ها هي الزوجةُ تنظرُ إلى زوجِها، سندِها، وحاميها، وقد قُيِّدت رِجلاه ويداه بالحِبالِ، ويذوقُ من أصنافِ العذابِ ما لا تتحمَّلُه الجبالُ، فتلتفتُ إلى الجهةِ الأخرى فترى ابنَها، وحيدَها، بين القيودِ الغليظةِ، يُغطَّسُ رأسُه في الماءِ حتى يُوشكَ على الموتِ، يُجلدانِ بالسِياطِ حتى تنزفَ ظهورُهما، فأيُ شعورٍ تتوقعونَ في قلبِ هذه الزوجةِ والأمِ المكلومةِ؟
وأما هي، فقد زادوا في قيودِها، وشدو بها يديها ورجليها، وذاقت ألواناً من التعذيبِ، يُخرجونها إذا حَميَت الظهيرةُ، فيعذبونها برمضاءِ مكةَ، صَرخت حتى فَقدتِ النُطقَ من شدةِ الإيذاءِ، وزوجُها وابنُها ينظرانِ إليها لا يستطيعانِ شيئاً، لم تكن جريمتُهم إلا أن آمنوا باللهِ وحدَه لا شريكَ له، وأن محمداً رسولُ اللهِ، وهم في هذه الحالةِ، يمرُّ عليهم رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يعصرُ قلبَه الألمُ عَصْراً، ولا يستطيعُ لهم نصراً، فيقولُ لهم: "صبراً آلَ ياسر، صبراً آلَ ياسر، فإن موعدَكم الجنةَ".
هذه صورةٌ من صُوَرِ الصبرِ على الابتلاءِ في الدينِ، ومثالٌ من أمثلةِ التثبيتِ على الحقِ.
عبادَ اللهِ: هناك إمتحانٌ عظيمٌ ينتظرُ أهلَ الإيمانِ: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 1-3].
ها هو خبَّابُ بنُ الأرتِّ، الذي كانت مولاتُه تَحمي أسياخَ الحديدِ حتى تحمرَّ ثم تطرحُه عليها عاريَ الظهرِ فلا يطفئُها إلا وَدَكُ ظهرِه حين يسيلُ عليها، يأتي إلى النبيِ -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسدٌ بردةً له في ظلِ الكعبةِ، فيقولُ له: "ألا تَستنصرْ لنا، ألا تدعوْ لنا؟" فيقولُ له النبيُ -صلى الله عليه وسلم- الواثقَ بوعدِ ربِه -عز وجل-: "قد كانَ من قبلَكم يؤخذُ الرجلُ فيحفرُ له في الأرضِ فيجعلُ فيها، ثم يُؤتى بالمنشارِ فيوضعُ على رأسِه فيجعلُ نصفينِ، ويُمشطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دونَ لحمِه وعظمِه، ما يصدُّه ذلك عن دينِه، واللهِ ليُتمَّنَ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يخافُ إلا اللهَ والذئبَ على غنمِه، ولكنكم تستعجلون".
فنحتاجُ إذاً، إلى صبرٍ على البلاءِ، ونحتاجُ تثبيتاً على الحقِ، كلنا نحتاجُ من يثبّتُنا على الحقِ.
مواقفُ عظيمةٌ سجلَها التاريخُ في محنةِ الإمامِ أحمدَ كان لها الأثرُ الكبيرُ في تثبيتِ الإمامِ -رحمه الله تعالى-، عن أبي جعفرٍ الأنباري قالَ: لما حُمِل أحمدُ إلى المأمونِ أُخبرتُ بذلكَ، فعبرتُ الفُراتَ، فإذا هو جالسٌ في الخانِ مكانٍ يستريحُ فيه المسافرونَ- فسلمتُ عليه، فقال: يا أبا جعفر تعَنيتَ، فقلتُ: يا هذا، أنت اليومَ رأسٌ والناسُ يقتدون بك، فو اللهِ لئن أجبتَ إلى خلقِ القرآنِ ليجيبَنَّ خلقٌ، وإن لم تُجب ليمتنعَنَّ خلقٌ من الناسِ كثيرٌ، ومع هذا فإن الرجلَ إن لم يقتلْكَ، فإنك تموتُ، فاتقِِ اللهَ ولا تُجِبْ، فجعلَ أحمدٌ يبكي ويقولُ: ما شاءَ اللهُ، ثم قالَ: يا أبا جعفرٍ أعِد، فأعدتُ عليه وهو يقولُ: ما شاءَ اللهُ.
حتى الأعرابيُ الذي ليسَ عنده علمٌ، له مشاركةٌ في التثبيتِ، قالَ الإمامُ أحمدٌ: ما سمعتُ كلمةً مُنذُ وقعتُ في هذا الأمرِ أقوى من كلمةِ أعرابيٍ، قالَ: يا أحمدُ إن يَقتلْك الحقُ مُتَّ شهيداً، وإن عِشتَ عِشتَ حميداً، فقوي قلبي.
بل حتى أصحابَ المعاصي، لم تمنعهم المعصيةُ من تثبيتِ أهلِ العلمِ والحقِ، قالَ عبدُ اللهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ: "كنتُ كثيراً أسمعُ والدي يقولُ: رحمَ اللهُ أبا الهيثمِ، غفرَ اللهُ لأبي الهيثمِ، عفا اللهُ عن أبي الهيثمِ، فقلتُ: يا أبتِ من أبو الهيثمِ؟ فقالَ: لما أُخرجتُ للسياطِ ومُدت يداي، إذا أنا بشابٍ يجذبُ ثوبي من ورائي، ويقولُ لي: تعرفني؟ قلتُ: لا، قال: أنا أبو الهيثمِ اللص، مكتوبٌ في ديوانِ أميرِ المؤمنين أني ضُربتُ ثمانيةَ عشرَ ألفَ سَوطٍ بالتفاريقِ يعني مُفرَّقةٍ-، وصبرتُ في ذلك على طاعةِ الشيطانِ لأجلِ الدنيا، فاصبر أنت في طاعةِ الرحمنِ لأجلِ الدِّينِ، اللهُ أكبرُ، كم كانَ لهذه المواقفِ أثرٌ عظيمٌ في تثبيتِ الإمامِ أحمدَ في بلاءهِ الذي أصابَه، فكلُّنا يحتاجُ إلى من يُثبّتُه على دينِه.
هل تعلمون ماذا يفعلُ الإيمانُ إذا خالطتْ بشاشتُه القلوبَ، اسمعوا هذه المعلومةَ من كافرٍ، لما أرسلَ النبيُ -صلى الله عليه وسلم- كتابَه إلى هِرَقْلَ ملكِ الرومِ، دعا قوماً من العربِ فيهم أبو سفيانَ بنُ حربٍ وذلك قبلَ إسلامِه فسألَه أسئلةً، ومنها: "فهل يرتدُّ أحدٌ سَخْطةً لدينِه بعد أن يدخلَ فيه؟ قالَ أبو سفيانَ: "لا" ثم قالَ له هِرَقْلُ بعدَ إن انتهى من أسئلتِه: "وسألتُك هل يرتدُ أحدٌ سَخْطةً لدينِه بعد أن يدخلَ فيه فزعمتَ أن لا فكذلك الإيمانُ حين تخالطُ بشاشتُه القلوبَ لا يَسخطُه أحدٌ" لا إله إلا اللهُ: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم: 27].
إن الإنسانَ إذا تأملَ قصةَ سحرةِ فرعون، يجدُ عجباً، جاءوا يحاربونَ اللهَ ورسولَه، ويرجون ما عندَ فرعونَ: (فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)[الشعراء(41-42].
كانوا يعظمونَه ويُقسِمونَ به: (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) [الشعراء: 44].
ثم لما رأوا الآياتِ، وتبيَّن لهم الحقُ: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) [طـه: 70] فدُهشَ فرعونُ، فهددَ وتوعدَ: (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) [طـه: 71].
فماذا كان جوابُهم أمامَ هذا الوعيدِ الشديدِ، من هذا المجرمِ المَريدِ: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طـه: 72 -73].
ثم بدأوا يدعونَ إلى الله -تعالى- أعظمَ شخصيةٍ إجراميةٍ عرفها التاريخُ: (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى) [طـه: 74 -76].
عجيبٌ هذا الإيمانُ، كانوا أوَّلَ النهارِ سَحَرةً كفرةً، فأصبحوا في آخرِ النهارِ شُهداءَ بَرَرةً.
هل سمعتُم بأصحابِ الأخدودِ، قَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلاَمِ، فَأُتِيَ المَلكُ فَقِيلُ لَهُ: أَرَأَيْت ما كُنْت تحْذَر؟ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِك حَذرُكَ، قدْ آمنَ النَّاسُ، فأَمَرَ بِالأخدُودِ بأفْوَاهِ السِّكك فخُدَّتَ، وَأُضْرِمَ فِيها النيرانُ، وقالَ: مَنْ لَمْ يرْجَعْ عنْ دينِهِ فأقْحمُوهُ فِيهَا، ففعَلُوا، حتَّى جَاءتِ امرَأَةٌ ومعَهَا صَبِيٌّ لهَا، فَتقَاعَسَت أنْ تَقعَ فِيهَا، فقال لَهَا الغُلاَمُ: "يا أمَّاهْ، اصبرِي فَإِنَّكَ عَلَى الحَقِّ".
سبحانَ اللهِ، سُنةُ اللهِ -تعالى- التي لا تتبدّلُ ولا تتغيرُ، إيمانٌ، ثم ابتلاءٌ، وتثبيتٌ على الحقِ.
فيا أهلَ الإيمانِ: اثبتوا فإنكم على الحقِ، اثبتوا فإنكم منصورون: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُم لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِن جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ)[الصافات: 171-173].
اثبتوا فإنكم ظاهِرون، يَقُولُ عليه الصلاة والسلام: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتي قَائِمَةً بِأَمرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم وَلا مَن خَالَفَهُم، حَتَّى يَأتيَ أَمرُ اللهِ وَهُم ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ".
لا يضرُكم ما ترونه من تسلُّطِ الكفارِ، ومن كيدِ الفجار، ولكن: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران: 140].
أقولُ قولي هذا، واستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ فاستغفروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خاتمِ الأنبياءِ والمرسلينَ، المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
يا أهلَ الإيمانِ: إن هذا الطريقَ الذي تسيرونَ فيه، هو الطريقُ الذي من أجلِه، اُبتليَ آدمُ، واستهزئَ بنوحٍ، وصبرَ فيه هودٌ، وتَعِبَ صالحٌ، وأُلقيَ في النارِ إبراهيمُ، وأُخرج لوطٌ، وفقدَ يعقوبُ أبناءَه، وأُلقيَ في الجبِ يوسفُ، وعُوديَ شعيبٌ، وأُوذيَ موسى، وتعرضَ للقتلِ عيسى، وأما نبيُنا -عليه الصلاة والسلام- فيصفُ القائلُ حالَه:
ولَّى أبــوك عن الدنيا ولم ترهُ | وأنت مرتــهنٌ لا زلــتَ في الرحمِ |
ومــاتت الأمُ لمّا أن أنستَ بها | ولم تكـن حينَ ولــت بالغَ الحُلُمِ |
ومــات جدُك من بعدِ الولوعِ به | فكنت مـن بَعدِهم في ذُروةِ اليُتْمِ |
فجاء عمُــك حصناً تَستكنُّ به | فاختـاره الموتُ والأعداءُ في الأَجَمِ |
تـُـرمَى وتُؤذَى بأصنافِ العذاب فمـا | رُئيتَ في ثوبِ جبارٍ ومنتقمِ |
حتى عــلى كتفيك الطاهِرَين رمَوْا | سَلا الجَزورِ بكـفِّ المشركِ القَزَمِ |
أما خديــجةُ من أعطتْك بهجتَها | وألبستْكَ رداءَ العطفِ والكرمِ |
غدتْ إلى جَنــةِ الباري ورحمتهِ | فأسلمـتْك لجُرحٍ غيرَ مُلتَئمِ |
والقلبُ أُفعمَ من حبٍ لعائشةَ | ما أعظمَ الخطبْ؟ فالعِرضُ الشريفُ رُمِيْ |
وشُـــجَّ وجهُك ثم الجيشُ في أُحُدٍ | يعــودُ ما بين مقــتولٍ ومُنهزمِ |
لمـّــا رُزقتَ بإبراهيمَ وامتلأتْ | به حيــاتُك بات الأمـــرُ كالعَدَمِ |
ورُغــمَ تلك الرزايا والخطوبِ وما | رأيتَ من لـوعةٍ كبرى ومن ألمِ |
ما كنتَ تحملُ إلا قلــبَ محتسبِ | في عزمِ مُتـقِدٍ في وجهِ مبتسمِ |
إذا كانَ الخالقُ الرازقُ -سبحانه وتعالى- لم يسلمْ من الأذى، فكيف تَسلَمون، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ -عز وجل- يُشْرَكُ بِهِ، وَيُجْعَلُ لَهُ وَلَدٌ، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ، وَيَرْزُقُهُمْ".
واللهِ لَوْ صَحِبَ الإِنْسَانُ جِبْرِيْلا | لَمْ يَسْلَمِ الْمَرْءُ مِنْ قَالٍ وَمِنْ قِيْلا |
قَدْ قِيْلَ فِي اللهِ أَقْوَالٌ مُصَنَّفةٌ | تُتْلَى إِذَا رُتِّل القُرْآنُ تَرْتِيلا |
قَدْ قِيْلَ أَنَّ لَهُ وَلْدًا وَصَاحِبَةً | زُوْرًا عَلَيْهِ وَبُهْتَانًا وَتَضْلِيْلا |
هَذِي مقالَتُهمْ فِي اللهِ خَالِقِهِمْ | فَكَيْفَ لَوْ قِيْلَ فِيْنَا بَعْضُ مَا قِيْلا |
إذاً فليكن شعارُنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
يا مقلبَ القلوبِ ثبت قلوبَنا على دينِك، يا مصرفَ القلوبِ والأبصارِ صرف قلوبَنا على طاعتِك.
اللهم أرِنا الحقَ حقاً وارزقنا اتباعَه، وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابَه.
(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].
اللهم آمنِّا في أوطاننِا، وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهم انصر دعاةَ الخيرِ وأئمةَ الهدى، والمجاهدينَ في سبيلِك والدعاةَ إلى سبيلِك، والآمرينَ بالمعروفِ والناهينَ عن المنكرِ في كل مكانٍ.
اللهم انصر إخوانَنا المجاهدينَ الذين يجاهدونَ في سبيلِك لإعلاءِ كلمتِك، وإعزازِ دينِك في كلِ مكانٍ، اللهم انصرهم على أعدائِهم، وثبت قلوبَهم، وأنزل عليهم الطمأنينةَ والسكينةَ، اللهم خالف بين كلمةِ أعدائِهم الكفرةِ، اللهم اقذف الرعبَ في قلوبِهم، اللهم شتتهم، اللهم اجعلهم غنيمةً للمسلمينَ، إنك على كلِ شيءٍ قديرٍ.