المتكبر
كلمة (المتكبر) في اللغة اسم فاعل من الفعل (تكبَّرَ يتكبَّرُ) وهو...
العربية
المؤلف | عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
إنه واحد من صحابة نبينا -صلوات ربي وسلامه عليه- تجسد فيه الإسلام بقوة وتجلى فيه بمساواته، هو قبل الإسلام لم يكن شيئًا مذكورًا، بل كان متاعًا مهملاً، بالإسلام ارتفع اسمه، وبالإيمان علا في العالمين ذكره، ومئات الملايين من المسلمين يعرفون اسمه كما يعرفون أبا بكر وعمر وعثمان وعلي. صحابي جليل أحبه الله وأحبه رسوله -صلى الله عليه وسلم، إنه سيدنا بلال بن رباح الذي أعتقه سيدنا أبو بكر كما يحلو لعمر بن الخطاب أن يقول له ذلك -رضي الله عنهم-.
الخطبة الأولى:
الحمد لله أعز المسلم بإسلامه، وجعل الكرامة لعباده بالتقوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله الذي قال: "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى". صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى.
أيها الإخوة المؤمنون: منزلة الإنسان بالإسلام كبيرة، وحقوقه عظيمة وقدره عند الله رفيع، نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السماوات والأرض، واستخلفه فيها، لكن الإنسان لم يحفظ هذا التكريم فوقع في مزالق من أهوائه، فظهرت في كثير من الأمم والديار أعراف وتقاليد اضطربت فيها موازين المساواة بين العباد، فيضام المرء عندهم، يضام وتهضم حقوقه لسواد لونه، ويحتقر لقلة ماله، ويهان لقبيلة أو لنسب، وعانى الناس من ذلك زمانًا.
رأيناه في عنصرية بغيضة عاشت في بلاد الغرب طويلاً، اقتتلوا فيها مع سود البشر تميزًا وعنصرية، لكن الإسلام أنكر تلك النظرات وتلك الموازين وعوّل على قيمة الإنسان مقرونة بعقيدة التوحيد الخالصة دون حساب للون ولا لحسب ولا لغنى ولا فقر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13].
وكان للضعفاء دور في نصرة الإسلام؛ يقول -عليه الصلاة والسلام- "أبغوني ضعفاءكم -أي اطلبوني عندهم- فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم".
ومن هذا المبدأ -إخوتي- صنع الإسلام من أتباعه أمة خرجت للناس تحمل الحق والخير، وترسم أسلوب التعامل، فخلعوا أردية الجاهلية ونبذوا فخرها بالقبائل وخيلاءها، ضعفاء تقوى بالإيمان أمام أقوياء الجاهلية، فتراجع الجاهليون أمامهم، وسنتعرف اليوم على أحد النماذج الضعيفة قدرًا بالدنيا لكنها صنعت مجدًا للآخرة والأولى.
إنه واحد من صحابة نبينا -صلوات ربي وسلامه عليه- تجسد فيه الإسلام بقوة وتجلى فيه بمساواته، هو قبل الإسلام لم يكن شيئًا مذكورًا، بل كان متاعًا مهملاً، بالإسلام ارتفع اسمه، وبالإيمان علا في العالمين ذكره، ومئات الملايين من المسلمين يعرفون اسمه كما يعرفون أبا بكر وعمر وعثمان وعلي.
صحابي جليل أحبه الله وأحبه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، إنه سيدنا بلال بن رباح الذي أعتقه سيدنا أبو بكر كما يحلو لعمر بن الخطاب أن يقول له ذلك -رضي الله عنهم-.
اسم وصوت نتذكره بالأذان، ولد مولى وأخذ إلى مكة وعاش فيها عبدًا ذليلاً يرعى غنمًا لأجل لقيمات، سمع بدعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- للإسلام وبتكذيب سادات قريش له، ولما نزل قول الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:28]، فبدأ -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس جميعًا إلى الإسلام، وكان بلال يعيش عيشة الرقيق، فبدأت أنباء محمد تنادي سمعه حين أخذ الناس في مكة يتناقلونها، فأحبه ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
فانتشر خبر إسلامه حتى صارت الأرض تدور برؤوس أسياده التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور، منهم سيده أمية بن خلف، فاجتمعوا عليه وأذاقوه أليم العذاب فأبى، ضربوه، قيدوه بالحبال، جروه من قدميه والصخر على ظهره، ألقوه في الصحراء في حر الظهيرة والشمس ملتهبة ليعود إلى الكفر فأبى وقال كلمة خالدة أبية: "أحد أحد".
لطموه على وجهه فارتفع صوته ثائرًا متأثرًا مجروحًا: "أحد أحد"، ضربوه بالسياط حتى تمزق جلده وهو يقول: "أحد أحد".
إنها إرادة مسلم ينثني لها الحديد، وهي المعجزة الكبرى التي أتى بها -صلى الله عليه وسلم- حينما حوّل هؤلاء الأعراب والأناس من فقراء مستضعفين إلى كتائب تزلزل الدنيا بلا إله إلا الله.
ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم حتى رقّت لبلال قلوب بعض جلاديه، فرضوا في نهاية الأمر أن يخلوا سبيله على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، لكنه يقول لهم بإصرار المؤمن: "إن لساني لا يحسن ذلك".
ويمر أبو بكر -رضي الله عنه- أمام بلال وهو يعذب فقال لأمية بن خلف: "أشتريه منك يا أمية"، فقال أمية: "خذه ولو بعشرة دنانير"، قال أبو بكر: "والله لو جعلت ثمنه مائة ألف دينار لاشتريته منك".
اشتراه الصديق -رضي الله عنه- وأعتقه لوجه الله، فأنزل الله قوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) [الليل:17، 18]، أعتقه الصديق ثم ذهب به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممزق الثياب، يتساقط دمه ولحمه من شدة التعذيب، فأخذه -عليه الصلاة والسلام- واحتضنه، فصار بلال سابع سبعة أسلموا في الإسلام.
ثم لمّا حصلت الهجرة كان بلال -رضي الله عنه- أول المهاجرين، وفي المدينة عينه -صلى الله عليه وسلم- كأول مؤذن في التاريخ وما أعظمها من وظيفة وما أشرفها!! فانتشر ذكره في الآفاق منذ ذلك الوقت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لم يكن قبل الإسلام أكثر من عبد رقيق يرعى الإبل على حفنات من التمر، وكان ليظل كذلك لكنها عظمة هذا الدين الذي آمن به وبوَّأه في حياته بل وفي تاريخه مكانًا عليًّا بالإسلام فاق مكان وذكر كثير من علية البشر وذوي الجاه، ولذلك عيّنه -صلى الله عليه وسلم- مؤذنًا بنداء الإعلام لأهم شعيرة في الإسلام؛ ليركز في سمع الناس وعقلهم -لاسيما العرب- مبدأ السواسية ونبذ العنصرية لاختياره لبلال مؤذنًا.
وفي غزوة بدر حين هُزم المشركون قال أمية لعبد الرحمن بن عوف: هل لك في أسير، يقول عبد الرحمن: "فوالله إني لأقوده إذ رآه بلال معي فقال: رأس الكفر أمية؛ لا نجوت إذ نجا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار: رأس الكفر أمية، فاجتمع المسلمون عليه وكان أمية رجلاً ثقيلاً، فتجللوه بالسيوف حتى قتلوه". رواه ابن إسحاق.
أيها المسلمون: ذلكم بلال -رضي الله عنه- الذي كان إذا سمع كلمات المدح والثناء تقال له يحني رأسه ويغض طرفه ويقول: "إنما حبشي كنت بالأمس عبدًا".
يأتيه أحدهم فيقول له: "أنت أفضل من أبي بكر"، فيقول له مؤنبًا: "كيف تفضلني وأنا حسنة من حسناته".
وكلما حان وقت الصلاة قام بلال يهتف: "الله أكبر الله أكبر"، فتنتفض أجساد المسلمين من صوته، وكان كلما أهمّه -صلى الله عليه وسلم- أمر نادى بلالاً: "يا بلال: أرحنا بها"، فيؤذن للصلاة، وكان -رضي الله عنه- يأتي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي بماء الوضوء له، وكان يحمل له العنزة، وكان يرى أن ذلك لا يعدله شرف.
كان -صلى الله عليه وسلم- يحبه ويدنيه منه، وصار هذا الحب في قلب بلال، فعوّضه عن كل شيء، عوّضه عن أهله في الحبشة وعن أقربائه وجيرانه، وفي ذات يوم بعد صلاة الصبح قال -عليه الصلاة والسلام- كما رواه البخاري، قال لبلال يبشره: "يا بلال: حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة". فيجيب بلال -رضي الله عنه-: "ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي".
وكَّله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة من الغزوات بحراسة الجيش والإيقاظ للصلاة، فنام الجيش وبلال يسهر يصلي، فلما كان قبيل الفجر غلبه النوم، فأتت الصلاة وهم نائمون حتى طلعت الشمس، فأول من استيقظ أبو بكر وعمر، فأخذ عمر ينادي: الله أكبر الله أكبر ويعيد التكبير حتى استيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسأل بلال: "لمَ لم توقظنا؟!"، فقال: يا رسول الله: أخذ بعيني الذي أخذ بعينك، فتبسم -عليه الصلاة والسلام- ثم أمره أن يؤذّن بعد طلوع الشمس وصلى بأصحابه.
ومرة كان الصحابة -رضوان الله عليهم- جالسين، فإذا أبو ذر يعيّر بلالاً فقال له: "يا ابن السوداء"، فلما سمعه بلال غضب وقال له: "والله لأرفعنك لرسول الله"، فلما رفع أمره غضب -صلى الله عليه وسلم- غضبًا شديدًا حتى قال لأبي ذر: "عيرته بأمه!! إنك امرؤ فيك جاهلية"، فيضع أبو ذر خدّه في الأرض طالبًا من بلال أن يطأه ليزيل عنه رواسب الجاهلية، فعفا عنه.
فأين اليوم أناس من بيننا يتحدثون في مجالسهم ويعيرون الناس بقبائلهم وأنسابهم وضعفائهم!! إنهم أناس فيهم جاهلية.
ومرت الأيام ولم يزدد بلال إلا رفعة ومحبة عنده -صلى الله عليه وسلم-، يصلي العيد فيتكئ على بلال، ويذهب فيخطب في النساء، وفي اليوم المشهود يوم فتح مكة يدخلها -صلى الله عليه وسلم- منتصرًا، فيرى الأصنام التي كانت تعبد من دون الله محيطة بالكعبة فيسقطها: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81].
وتحين صلاة الظهر ويجلس الناس أمام الكعبة، فنادى -عليه الصلاة والسلام- بلالاً وقال: "اصعد فوق الكعبة، وأذّن فوقها"، انتصارًا للضعفاء وعدلاً بالمساكين ورفعًا لرؤوس المستضعفين، يقوم من كان يعذب سابقًا في هذا المكان وأمام صناديد قريش ليعتلي بيت الله بأقدامه ثم يهتف بالأذان، أين أبو جهل؟! إنه في النار، أين أبو لهب؟! إنه في النارـ وهم ذوو الحسب والنسب والمكانة.
صعد بلال واستوى وأذّن على الكعبة، فلما أذّن بكى الناس وبكى -صلى الله عليه وسلم- للأذان بمكة، سالت دموعه تذكر معاناته، تذكر الأيام العصيبة حين وضعوا سلا الجزور على رأسه وهو ساجد، تذكّر فضل الله عليه وإنعامه بهذا الفتح المبين.
ويرجع الصحابة بعد الفتح إلى المدينة وتمضي الأيام ويموت -صلى الله عليه وسلم-، يموت الإمام فيحزن عليه المؤذن حزنًا شديدًا حتى أظلمت الدنيا في عينه، أمات النبي –صلى الله عليه وسلم-؟! نعم لكن دينه لم يمت، وعلى المؤذن أن يستكمل الطريق.
ومع الفجر قام بلال يؤذن ويؤدي مهمته، فبدأ بالأذان: الله أكبر، الله أكبر، ثم ينظر إلى المحراب فيجده خاليًا من الإمام، فكيف يستطيع أن يكمل أذانه!! ثم تحمل على نفسه حتى قال: "أشهد أن محمدًا..."، فبكى بكاءً شديدًا، وبكى الناس في بيوتهم في المدينة محبة وفقدًا لرسول الله، وهل يلامون؟!
بكى المؤذن فلم يستطع أن يكمل، فنزل ورمى بجسمه على الأرض، فسأله الصحابة لما رأوه: ما لك يا بلال لا تؤذن؟! أتاه أبو بكر فقال: ما لك يا بلال؟! قال: لا أؤذن لأحد بعده -صلى الله عليه وسلم-.
بِنْتُم وَبِنّا، فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا | شَـوْقاً إلَيكُـمْ، وَلا جَفّتْ مآقِينَا |
نَكادُ، حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمائرُنا | يَقضـي علَينـا الأسَى لَوْلا تأسّينَا |
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء | ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا |
ثم جاء بلال إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فقال له: يا أبا بكر: إني سمعته -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله"، وإني أريد أن أرابط في سبيل الله حتى الموت، قال أبو بكر: "بل أريدك معي في المدينة"، فقال بلال: "أأعتقتني لله أم لنفسك؟!"، فقال أبو بكر: "بل لله"، قال: "فائذن لي في الغزو"، فأذن له.
فذهب بلال للشام والتحق هناك بجيوش المسلمين، ونذر نفسه للجهاد في سبيل الله فاتحًا مقاتلاً يجاهد المشركين ويعلم الناس دينهم، وتمر الأيام وتمضي السنون ويموت أبو بكر -رضي الله عنه- ويتولى الخلافة من بعده عمر، وبلال مرابط في أرض الشام مع جيوش المسلمين.
وآهٍ ثم آه من بلاد الشام اليوم، ليت بلالاً والصحابة يرون كيف استباحها النصيريون والرافضة ومن معهم.
ثم يفتح الله على المسلمين بيت المقدس، ويأتي الفاروق عمر بن الخطاب ليستلم مفاتيح بيت المقدس، سيدخلها بثوبه المرقّع، لكنه يحمل الدنيا في يديه ويجتمع عدد من كبار الصحابة من أهل بدر وبيعة الرضوان جاؤوا لحضور هذا اليوم المشهود، وتحين صلاة الظهر فيقول عمر لبلال: "أسألك بالله -يا بلال- أن تؤذن لنا"، فقال بلال: "اعفني يا أمير المؤمنين"، فقال الصحابة: اتق الله يا بلال، سألك أمير المؤمنين، فقام بلال يتحامل على جسمه، فقد أصبح شيخًا كبيرًا، وارتفع صوته بالأذان، فإذا بصوت عمر -رضي الله عنه- يسابقه بالبكاء، ثم بكى كبار الصحابة وارتج المسجد الأقصى بالبكاء لأنه ذكرهم معنى عظيمًا وتاريخًا كبيرًا ومعلمًا وقائدًا أحبوه حبًّا جمًّا.
وعاد بلال إلى الشام ليكمل طريقه الذي أخذه على نفسه، الجهاد في سبيل الله، وانقطع عن المدينة، أصبح شيخًا كبيرًا، وفي ليلة من الليالي وهو نائم إذ يرى حبيبه ونبيه -صلى الله عليه وسلم- في المنام رآه ببشاشته وهو يعاتبه: "هاجرتنا يا بلال، ألا تزورنا في المدينة؟!".
فاستيقظ بلال في وسط الليل وتوضأ وصلى ركعتين، ثم أسرج راحلته وركبها قبل الفجر، ذهب إلى المدينة ليزور مسجده -صلى الله عليه وسلم-، وصل إليها ليلاً فوجد الناس نيامًا، فأول ما بدأ به المسجد، أتى الروضة الشريفة ثم توجّه إلى قبره مسلمًا، فسلّم وبكى، فحان أذان الفجر، فتأخر المؤذن قليلاً، فصعد بلال المنارة وأذّن للصلاة حتى وصل إلى "محمد رسول الله"، فانفجر في البكاء، وقام الناس على صوت بلال، نعم إنه بلال بن رباح، فأخذ الناس يبكون مع بكاء بلال -رضي الله عنه-، وعاد إلى الشام، وهناك أتته المنية -رضي الله عنه-.
وعندما حضرته الوفاة صار يقول وهو يحتضر: "غدًا نلقى الأحبة: محمدًا وصحبه"، اشتياقًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فصرخت امرأته وكانت بالقرب منه، وقالت: يا ويلاه، تقول هذا في مصيبتنا!! وهو يقول: "ويا فرحاه ويا فرحاه"، باشتياق حقيقي للقاء الأحبة، ونفسه تغرغر وهو يقول: "غدًا نلقى الأحبة: محمدًا وصحبه".
فرضي الله عنه وأرضاه، فهو السيد الحر المؤمن المجاهد، عاش بضعًا وستين سنة، وإن سواد بشرته وتواضع حسبه وهوانه على الناس كعبد رقيق لم يمنعه حين رضي بالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً، أن يتبوأ المكان الأرفع والمكان الأسمى، مات -رضي الله عنه- سنة عشرين من الهجرة في بلاد الشام مرابطًا هناك كما أراد.
وهناك وتحت ثرى دمشق رفات رجل من أعظم رجالات هذا الدين: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر:27- 30].
اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنّا بعدهم، واحشرنا في زمرتهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
إن في قصة بلال مؤذن الإسلام دروسًا وعبرًا، أولها: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، فلا فرق لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، فالقرشي عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي عارض الرسالة بنار ذات لهب، والحبشي الذي آمن بالرسالة يسمع قرع نعاله بالجنة.
هذا ما ينبغي أن نلزم به أنفسنا ونربي عليه أبناءنا حتى لا تسيطر عليهم رفعة النسب وعظم المنصب وشهوة المال وحب تصنيف الناس بألوانها وأنسابها وأفكارها، أو احتقار العامل الأجنبي أو التعدي عليه كما يفعله بعض هؤلاء السفهاء -هداهم الله-.
كما أن هذا الدين لا ينتصر بكثرة العدد، ولا يعتمد على أصحاب المناصب والأموال، ولكنه يبقى مكانه ويأتي إليه من يحبه، يقول أبو جهل: "كيف يهتدي بلال وأنا سيد بني مخزوم وهو عبد حبشي، لو كان خيرًا ما سبقونا إليه". (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
لذلك يحقر الإنسان نفسه مع قلة ماله أو مكانته أو جاهه عن إيجاد دور له في نصرة الإسلام والمسلمين، يبذل جهده والله يوفقه.
جاء رجل أسود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: إني رجل أسود منتن الريح لا مال لي، أفئن قاتلت هؤلاء حتى أقتل فأين أنا؟! قال: "في الجنة"، فقاتل حتى قتل، فأتاه -صلى الله عليه وسلم- فقال: "قد بيّض الله وجهك وطيب ريحك وأكثر مالك". رواه البيهقي والحاكم.
عباد الله: نأخذ من قصة بلال وغيره من الصحابة -رضوان الله عليهم- حنكته -صلى الله عليه وسلم- ومعرفته بالفروق بين صحابته -صلى الله عليه وسلم- واختلاف مواهبهم، أعطى الأذان لبلال لأنه الأصلح، أعطى الراية لخالد لأنه قائد، أعطى الخلافة لأبي بكر، والقافية والأدب لحسان، ومدرسة الفرائض وتوزيع المواريث لزيد، والقضاء وهيئة الاستشارة لعلي، وكتابة الوحي لمعاوية -رضي الله عنهم أجمعين-.
وهذا الأمر ومعرفة الفروق الفردية والمواهب الشخصية قد يفوت بعض المربين والدعاة والمعلمين حين لا يهتمون بالقدرات لشبابهم وأولادهم، أضف لذلك الحب الذي غرسه -صلى الله عليه وسلم- وربى صحابته عليه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران:159].
إن سر نجاح دعوته -صلى الله عليه وسلم- أنه جعل الناس يحبونه حبًّا تتقطع له القلوب، تنقاد له الأجسام، كان أبًا لليتامى، معينًا للأرامل والمساكين، أحبته القلوب، عشقته الأفئدة.
نبـي الخيـر بيَّنـه سبيـلاً | وسن خلاله وهدى الشعابَ |
وكان بيانـه للهـدي سبلاً | وكـانت خيله للحق غابًا |
وعلمـنا بنـاء المجـد حتى | أخذنا إمرة الأرض اغتصابًا |
أبا الزهراء قد جاوزتُ قدري | بمدحك بيد أن لي انتسابًا |
إن نسب الدين والتقوى أعلى نسب وأشرف، رفع بلال وسلمان وصهيب وخذل أبا جهل وأمية وأبا لهب.
أبي الإسلام لا أب لي سواه | إذا افتخروا بقيس أو تميم |
فمن أراد أن يفتخر بجنسية أو بقبيلة أو ببلد فليتذكر هذه المهام في هذه الخطبة.
نرى بعض الناس اليوم يتعاملون مع العمالة المتخلفة التي خالفت النظام بتعامل فيه بعض الظلم من قبل الناس في رسائلهم، والمفروض أن يترك هذا الأمر للدولة هي التي تطبق الأنظمة وهي التي ترعاهم لا أن يتدخل الناس في إثارة الإشاعات عن بعض هؤلاء وأكثرهم مسلمون.
فلنتنبه -أيها الإخوة- من هذه العصبية التي يمارسها البعض وهي موجودة في بعض قلوبنا وتصرفاتنا وأفعالنا، لننتهِ عنها اليوم.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفر لنا ذنوبنا وأن يتجاوز عن سيئاتنا وأن يصلح أحوالنا وأن يعز الإسلام وأهله.