الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله الهذلول |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
شبهة يوردها من يعتقدون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ في قبره حياةً كاملة، محتجين بما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريره -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي، حتى أرد عليه السلام". قالوا: إن أعداد المسلمين مئات الملايين، وهم في بقاع متفرقة من الأرض تختلف مشارقها ومغاربها، وهم يصلون ويسلمون على النبي، فلا تمر لحظة من الدهر إلا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده...
أما بعد:
علمنا في الأسبوع الماضي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أثناء الحج في العام العاشر من الهجرة، ودع الناس، وقال: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا".
وتبين أنه صلى الله عليه وسلم من خلال خُطبه التي ألقاها في تلك الحجة، وأيضا من قول الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3].
ثم بعد وصوله إلى المدينة زار البقيع، وشهداءَ أحد، وسلم عليهم، واستغفر لهم، وكان مما قال: "إنا بكم لاحقون" ففهم الصحابة -رضي الله عنهم- من ذلك أنه كغيره يموت.
ومما يؤكد وفاته صلى الله عليه وسلم مسارّته لابنته فاطمة -رضي الله عنها- بإخباره إياها أنها أول أهله لحوقًا به، وقد ماتت رضي الله عنها بعده بستة أشهر.
أيها المسلمون: يعتقد بعض المسلمين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حي في قبره، ولهذا حينما يتحدثون عن هذه المسألة، فلا ترد كلمة الوفاة أو الموت في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- عندهم، وإنما يعبرون عن ذلك بالوصال أو الخلوة أو الانتقال.
وإن مما يؤكد وفاته صلى الله عليه وسلم -إضافة لما سبق- أنه بشر، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [فصلت: 6].
وشأن البشر أن يموتوا، ولم يرد في الشرع ما يستثنيه صلى الله عليه وسلم من هذه السنة الربانية.
وإليكم بعضَ الأدلة التي تثبت مرضه، ثم وفاته صلى الله عليه وسلم مما ورد في القصص والمواقف التي ذُكرت في الجمعة الماضية.
أولًا: ما معنى بدايةِ المرض به صلى الله عليه وسلم؟ حين رجع من البقيع ونابه صداع في رأسه، حتى إن الصحابة -رضي الله عنهم- أحسّوا بحرارته من فوق عصابة رأسه.
وقولِ الراوي -رضي الله عنه-: "وصلى بالناس وهو مريض أحد عشر يومًا، ثم ثقل به المرض".
وما معنى أنه خرج إلى صحابته وهم في مسجده تخطّ قدماه، عاصبًا رأسه، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، معتمدًا عليهما من المرض؟
وما معنى أن المرض اشتد به حتى غمي عليه؟
وكل ذلكم ثابت بأحاديث في الصحيحين والسنن.. الخ .. ذلكم من المشاهد والأحوال التي تؤكد مرضه صلى الله عليه وسلم، إلى درجة أنه غاب عن الناس في حجرته ولم يخرج إليهم حتى للصلاة.
ثانيًا: لماذا قيل كما رواه الإمام البخاري- ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من وفاته: "أهريقوا علي سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم".
ثالثًا: وما معنى أنه يوم السبت أو يوم الأحد أي قبل وفاته بيوم أو يومين، وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خفّة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس[رواه البخاري].
رابعًا: ماذا يعني قولُ أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتي، وبين سحري ونحري..."[رواه البخاري].
هل هي لا تدري ما معنى كلمة توفي، وهي مّنْ هي في اللغة، فقد عاشت في أزهى عصور اللغة العربية، ومن قوم ينظر إليهم على أنهم سادة الناس في اللغة العربية، وزوجها أفصح الخلق، وهو الذي أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، وأبوها الصديق من خطباء العرب وفصحائهم وبلغائهم، وهي كذلك رضي الله عنها؟.
خامسًا: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم، وهو على رِجل عائشة يعاني من آلام المرض، وقد بدأ به النزع: "إن للموت سكرات"[رواه البخاري]؟.
سادسًا: وما المراد بقول الراوي: "وقد بدأ الاحتضار"؟ "ثم رفع يده، وشخص بصره نحو السقف".
سابعًا: وما تفسير قول الله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)[آل عمران: 144].
وقد تلاها أبو بكر على الناس مستنكرًا مواقف بعضهم حين لم يستوعبوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات، وأقسم رضي الله عنه كما ورد في سنن ابن ماجة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات فعلا.
فأخذ المسلمون يرددون قراءة هذه الآية في شوارع المدينة تأكيدًا وإيمانا على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات.
وثامنًا: قال سعيد بن المسيب: "قال عمر -رضي الله عنه-: والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلا قول الله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)[آل عمران: 144] الخ .. فعقرت، حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات"[رواه البخاري].
وتاسعاً: كيف يجرؤ عليّ والعباس وابناه الفضل وقثم، وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لو لم يكن ميتاً؟ فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعليُّ يغسله، وأوسُ أسنده إلى ظهره. ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية[رواه البخاري].
وعاشراً: كيف يختلفون في دفنه أين يكون؟ لولا أنهم لم يختلفوا في وفاته، لأنه لا يدفن إلا الميت؟!
اللهم رب جبرائيل وميكائيل...
الخطبة الثانية:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) [الكهف: 1-3].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حبيبه ومجتباه، وخليله ومصطفاه: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 128].
قال عن نفسه: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة" صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
شبهة يوردها من يعتقدون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ في قبره حياةً كاملة، محتجين بما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريره -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي، حتى أرد عليه السلام".
قالوا: إن أعداد المسلمين مئات الملايين، وهم في بقاع متفرقة من الأرض تختلف مشارقها ومغاربها، وهم يصلون ويسلمون على النبي، فلا تمر لحظة من الدهر إلا وأعداد كبيرة من المسلمين يصلون ويسلمون عليه، وهو يرد عليهم، إذاً هو حيٌّ وسيظل كذلك!.
والجواب على هذه الشبهة:
إذا قلنا إن رد الروح إليه صلى الله عليه وسلم كما نفهمه بعقولنا فيلزم من ذلك تكرر رد الروح عند تكرر السلام عليه؛ ومعنى هذا: أن الروح مفارقةُ له، ولذا تُردّ عليه! وهنا نقع في محذورات؛ منها: تألم الجسد الشريف بتكرار خروج الروح وعودها، وقد قال صلى الله عليه وسلم آخر حياته، وهو يعاني من المرض والألم: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات"[رواه البخاري].
وأخرج الترمذي من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما أغبِطُ أحداً بِهَونِ موتٍ بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وتعدد خروج الروح وعودِها مخالف لما ورد في القرآن الكريم أنه ليس على الإنسان إلا موتتان وحياتان، قال الله -عز وجل- على لسان الكافرين يوم القيامة: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر: 11].
والميتتان والحياتان المراد بها: أن الله -تبارك وتعالى- أحيا الإنسان الحياة الأولى بعد أن كان ميتاً، ثم أماته ثانية ثم يحييه حين النفخِ بالصور.
ومثله قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[البقرة: 28].
ولما دخل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن جاءه خبر وفاته، يمم صوب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مغشّى، فكشف عن وجهه الشريف، ثم أكب عليه فقبّله، وبكى، ثم قال: "بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتتة التي كتبت عليك فقد متّها" ثم خرج أبو بكر إلى الناس، فلما رأوه تركوا عمراً، وأقبلوا عليه، فخطبهم، وقال: "من كان يعبد محمداً -صلى الله عليه وسلم- فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، وتلا قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 144].
وقال جل ذكره: (إِنَّكَ مَيِّتٌ -أي يا محمد-وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر: 30].
إذاً -أيها الأفاضل-: تكرار رد الروح يستلزم موتات كثيرة، وهو باطل.
والخروج من هذه الشبهة والجواب عليها يسير: إنك أيها المؤمن ألست تؤمن بالغيب؟ أو ليس الإيمان بالغيب ركن من أركان الإيمان الستة؟ أو ليس عَالَمُ ما بعد الموت كله غيب؟ ولا يعلم الغيب إلا الله -تعالى-، قال جل وعز: (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل: 65].
فلماذا إذاً نقحم العقل في أمور لا يطيقها؟
دع الأمر غيباً، وآمن بما جاءك من ربك ومن نبيك، وقل: سمعنا وأطعنا.
آمن بالمعاني، وفوض الكيفية إلى الله -تعالى-، لا تتكلف في تحديد الحياة البرزخية للأنبياء والشهداء، أنت في عافية من ذلك، ونبيك -صلى الله عليه وسلم- يدعوك أن تكثر من سؤال الله العافية.
وبدلاً من هذا التكلف أَكثِر من الصلاة عليه دائماً كما أمرك ربك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً" [رواه مسلم].
وعن أوس بن أوس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ"[رواه أبو داود بإسناد صحيح].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" [رواه أبو داود بإسناد صحيح].
فانشغل -أيها العبد المؤمن- بفعل القربات التي أمرك بها ربك ونبيك، وسارع إلى الخيرات: "واحرص على ما ينفعك".
وفقنا الله جميعاً لما يحب ويرضى، وأخذ بنواصينا للبر والتقوى.
لا إله إلا الله العظيم...