الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله الهذلول |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة - السيرة النبوية |
في يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر صفر نفسه، شهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق نابه صداع في رأسه، وارتفعت حرارته، حتى إن صحابته -رضي الله عنهم- كانوا يجدون سورتها فوق عصابة رأسه. وصلى بالناس وهو مريض أحد عشر يوما، ثم ثقل به المرض، فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غدًا؟ ففهمن مراده، فأذنّ له يكون حيث شاء، فانتقل إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
وبعد:
في السنة التاسعة من الهجرة فرض الحج على المسلمين، على ما ذهب إليه جمهور أهل العلم.
وقيل: في السنة الخامسة، وقيل: في السادسة، وقيل: في العاشرة!.
وفي السنة العاشرة للهجرة عزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على حج بيت الله الحرام.
ولعل تأخره عن أدائه في السنة التي فرض فيها أنه لم يفرض إلا في آخر التاسعة! أو لعدم استطاعته صلى الله عليه وسلم.
وقيل: أخره بأمر الله -تعالى- لتكون حجته حجة الوداع كما سميت فيما بعد.
وقيل....
وأعلن صلى الله عليه وسلم عزمه على ذلك، فتقاطرت جموع المسلمين إلى المدينة طمعًا في صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- والائتمام به في حجته.
وفي يوم السبت السادس والعشرين أو السابع والعشرين من شهر ذي القعدة في السنة العاشرة للهجرة تحرك موكب النبوة المهيب، محاطًا بعشرات الآلاف من صحابته، على رأسهم كوكبة المهاجرين والأنصار خيرُ من طلعت عليهم الشمس بعد الأنبياء، تجللهم عناية الله، وتحوطهم رعايته، تحركوا من المدينة، وأحرموا في ذي الحليفة "المسمى حاليًا أبيار علي" فأهلّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بحج وعمرة.
وبعده توجهوا صوب البلد الحرام.
ولما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه مكة، أدى مناسكه ولم يحلّ إحرامه؛ لأنه كان قارنًا.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة، وهو يوم التروية، خرج إلى منى، وفي اليوم التاسع نفر إلى عرفة، وخطب الناس، وقد اجتمع حوله أكثر من مائة ألف من المسلمين، ومما قاله في خطبة عرفة: "أيها الناس اسمعوا قولي: فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا".
ونزل عليه قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [المائدة: 3].
وفور سماعها بكى الفاروق عمر -رضي الله عنه-، فقيل له: "ما يبكيك؟ قال: ليس بعد الكمال إلا النقصان" [رواه البخاري].
إذا تم شيء بدا نقصه | ترقب زوالًا إذا قيل تم |
ثم دفع صلى الله عليه وسلم إلى مزدلفة بعد غروب شمس اليوم التاسع وبات فيها، وبعد صلاة الفجر وقبل شروق الشمس دفع إلى منى، وهناك أدى نسكه، وخطب الناس، ومما قال في خطبته: "إنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعد ضلّالًا يضرب بعضكم رقاب بعض"[رواه البخاري].
ثم أقام أيام التشريق في منى يؤدي مناسكه، ولما فرغ منها حث الركاب راجعًا إلى المدينة بعد أن طاف طواف الوداع.
وفي أوائل شهر صفر من السنة الحادية عشرة، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أُحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم عمد إلى منبره، فقال: "إني فرطكم على الحوض، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها "أي الدنيا"[متفق عليه].
وخرج ليلة في منتصفها إلى البقيع، فاستغفر للموتى فيه، وقال: "السلام عليكم يا أهل المقابر، لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرُها أولَها، والآخرة شر من الأولى، وبشرهم قائلا: إنا بكم للاحقون".
وفي يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر صفر نفسه، شهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق نابه صداع في رأسه، وارتفعت حرارته، حتى إن صحابته -رضي الله عنهم- كانوا يجدون سورتها فوق عصابة رأسه.
وصلى بالناس وهو مريض أحد عشر يوما، ثم ثقل به المرض، فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غدًا؟ ففهمن مراده، فأذنّ له يكون حيث شاء، فانتقل إلى حجرة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- عاصبًا رأسه تخط قدماه من المرض، حتى دخل بيت عائشة، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته.
ويوم الأربعاء قبل خمس أيام من الوفاة، اشتد به المرض حتى غمي عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: "أهريقوا علي سبع قرب من آبار شتى؛ حتى أخرج إلى الناس فأعهدَ إليهم" ففعلوا، فنشط، ثم خرج إلى منبره، وخطب الناس، فقال: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"[رواه البخاري].
وقال: "لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد"[رواه الإمام مالك في الموطأ].
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وخطبهم، فأوصى بالأنصار خيرا، ومما قال في خطبته أيضا: "إن عبدا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده".
قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له"[متفق عليه].
ففهم أبو بكر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما يخبرهم بدنو أجله، وكان ذلك يومُ الأربعاء.
ويوم الخميس اشتد به الوجع، وأوصى بثلاث: "بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وبإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزهم، والثالثة نسيها الراوي، ولعلها: الاعتصام بالكتاب والسنة، أو إنفاذ جيش أسامة، أو هي الصلاة وما ملكت أيمانكم".
وكان أبو بكر يؤم الناس في الصلاة، وقد أمّهم سبع عشرة صلاة والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا زال حيًا، لكن شدة المرض منعته، فأمر الصديق أبا بكر بذلك.
وفي ضحى يوم الاثنين، دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة -رضي الله عنها- فسارّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارّها بشيء فضحكت.
قالت أم المؤمنين عائشة: "فسألناها عن ذلك فيما بعد، فقالت: سارّني أنه يُقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارّني فأخبرني أني أول أهله لحوقًا به فضحكت"[رواه البخاري].
وبدأ الاحتضار، وكان مستندًا على عائشة -رضي الله عنها-، وكانت تقول: "إن من نعم الله علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي في بيتي، وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، حيث كانت تلين له سواكه وكان بين يديه إناء فيه ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات"[رواه البخاري].
ولما فرغ من السواك رفع يده أو إصبعه، وشخص بصره نحو السقف وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة، وهو يقول: "مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى"[رواه البخاري].
ومالت يده الشريفة، ولحق بالرفيق الأعلى.
إنا لله وإنا إليه راجعون، وسرى الخبر الفاجعة في أنحاء المدينة، فأصاب الناس حزن لم يمر عليهم مثله!.
وما فقد الماضون مثل محمد | ولا مثله حتى القيامة يفقد |
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم | قد وهنت منهم ظهور وأعضد |
قال أنس خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيت يوما قط كان أحسن، ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"[رواه الدارمي].
وذهل الناس، حتى إن الفاروق عمرَ -رضي الله عنه- فقد وعيه في هذا، وقال: "إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليقطعن أيدي رجال وأرجلَهم يزعمون أنه مات"[رواه البخاري].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك...
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحكيم العليم، الرحيم العظيم، لا يسأل عما يَفعل، وهم يسألون، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88].
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أنزل عليه ربه قوله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الرمز: 30].
عبد ربه حتى أتاه اليقين، قال عن نفسه فيما نزل من القرآن العظيم: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 188].
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم.
وبعد:
موقف عمر -رضي الله عنه- حال وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعكس مدى الذهول، وعظم الدهشة، وحجم المصيبة التي نزلت بالمسلمين فصعقتهم.
وهل عدلت يوما رزية هالك | رزية يوم مات فيه محمد |
لكن هل كلهم كذلك فقد وعيه في هذا الشأن أو كاد؟!
اسمعوا إلى موقف الصديق أبي بكر -رضي الله عنه- الذي لم يخلق الله -تعالى- بشرا بعد الأنبياء أفضل ولا أزكى منه، ما إن سمع بالخبر وكان في مسكنه بالسنح حتى جاء مسرعا، فدخل المسجد، ولم يكلم الناس حتى دخل على ابنته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، وتيمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مغشّى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه الشريف، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها.
ثم خرج إلى الناس فلما رأوه، تركوا عمرًا وأقبلوا على الصديق، فخطبهم وقال: "من كان يعبد محمدا -صلى الله عليه وسلم- فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلى قولَ الله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].
قال ابن عباس يصور حال ذهول الناس: "والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها".
قال سعيد بن المسيب: "قال عمر -رضي الله عنه-: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقتلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات"[رواه البخاري].
وللحديث بقية في استخلاص الدروس والعبر من القصص والمواقف التي سقتها، تكون في الجمعة القادمة -إن شاء الله-.