البحث

عبارات مقترحة:

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

العزيز

كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...

شهر المحرم ودلالة الهجرة النبوية

العربية

المؤلف الرهواني محمد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات السيرة النبوية -
عناصر الخطبة
  1. فضائل شهر المحرم .
  2. دروس وعبر من أحداث الهجرة .
  3. كيفية الهجرة اليوم .

اقتباس

لقد استقبلت الأمة الإسلامية أول يوم من أيام شهر المحرم، وهو أول يوم من أيام السنة الهجرية، وهو اليوم الذي يذكرنا بهجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، ويستوقفنا للتأمل والنظر، ويستدعي منا قدرًا من التبصر والتذكر لما يحمله من دلالات عظيمة ومعان وعبر جليلة. فبَعد ثلاثة عشر عامًا من تبليغ رسالة ربه والدعوة إليه، لم يجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قريش، سوى الإيذاءَ الشديد..

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

لقد استقبلت الأمة الإسلامية أول يوم من أيام شهر المحرم، وهو أول يوم من أيام السنة الهجرية، وهو اليوم الذي يذكرنا بهجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، ويستوقفنا للتأمل والنظر، ويستدعي منا قدرًا من التبصر والتذكر لما يحمله من دلالات عظيمة ومعان وعبر جليلة.

فبَعد ثلاثة عشر عامًا من تبليغ رسالة ربه والدعوة إليه، لم يجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قريش، سوى الإيذاءَ الشديد، والرفض لدعوته، بل بلغ الأمر إلى محاولة قتله -صلى الله عليه وسلم-، حيث اجتمع كبراؤهم في دار الندوة وتشاوروا في أمره، فاقترحوا أن يأخذوا من كلِّ قبيلة شابًا جَلْدًا ثم يُعطى كلَّ واحد سيفًا، ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يستطيع بنو عبد مناف أن يحاربوا تلك القبائل جميعا، ومن ثم يرضون بالدية.

فأعلم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بمكرهم، قال ربنا: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، فأذن الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة.

تروي عائشة -رضي الله عنها- فتقول: فبينما نحن يوما في بيتنا في منتصف النهار، إذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الباب متقنَّع، فقال أبو بكر: "والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ جلل"، فدخل عليه السلام، وقال لأبي بكر: "أخرجْ مَن عندك"، فقال: "إنما هم أهلُك بأبي أنت وأمي"، فقال: "قد أُذن لي بالخروج"، فقال أبو بكر: "الصحبة يا رسول الله"؟ قال له: "نعم".. تقول عائشة: "فبكى أبي من الفرح".

فلما أظلم الليل، والمشركون مجتمعون كما تواعدوا على باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرصدونه متى نام فينقضوا عليه، نام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ليخرج -صلى الله عليه وسلم- من بيته وقد أعمى الله أبصار القوم، فجعل ينشر على رؤوسهم التراب ويقرأ قول الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [يس: 9].

ثم توجه -صلى الله عليه وسلم- ومعه أبو بكر إلى جبل ثور، فجدَّ المشركون في طلبهما، وسعوا بكل وسيلة ليُدركوهما.

ولكن الله يحفظ نبيه ويرعاه، حتى إن القوم لَيأتون ويقفون على باب الغار الذي كان فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه فلا يرونهما.

يقول أبو بكر رضي الله عنه: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا".

فأجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- جواب الواثق بربه المتيقن بمعيته، قال: "يا أبا بكر: لا تحزن، إن الله معنا، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما؟".

وينقل الوحي هذه اللقطةَ الرائعة التي يتجلّى فيها معنى الإيمان يقينًا وثباتًا: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40].

ولما سكن الطلب عنهما، وبعد ثلاث ليالٍ خرجا من الغار متَّجهَين إلى المدينة على طريق الساحل، فلحقهما سراقة بن مالك على فرس له، فالتفت أبو بكر فقال: "يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحزن، إن الله معنا". فكان سراقة كلما دنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر تغوص يدا فرسه في الأرض، فينزل ويزجُر فرسه فتنهض، وذلك مرتين أو ثلاثة، فعلم وقتها أن أمر رسول الله سيظهر، فطلب من الرسول الأمان وعرض عليه الزاد والمتاع فأمَّنه -صلى الله عليه وسلم- وقال له: "لا حاجة لي في ذلك، ولكن أخفِ عنا"، فرجَع سراقة، وجعل لا يلقى أحدًا من الطلب إلا ردّه.

فسبحان الله! رجل ينطلق على فرسه طالبًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ليظفرَ بهما، لكنه عاد ناصرًا مُعينًا مُدافعًا، وهكذا كل من جعل يقينه في الله فلن يضره أحدٌ إلا بإذن الله.

ولما سمع أهل المدينة بقدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هبَّوا للقائه، ومعهم السلاح تعظيمًا وإجلالاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإيذانًا باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه رضي الله عنهم، فتلقوه فرحين مستبشرين.. يقول أبو بكر رضي الله عنه: "خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد".

فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وكل قبيلةٍ من الأنصار تُنازع الأخرى زِمام ناقته، وكلا يقول عندنا يا رسول الله في العدد والعدة والمِنعة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "دعوها فإنها مأمورة، وإنما أنزل حيث أنزلني الله عزَّ وجل". فلمَّا أتت ناقته إلى مكان برَكت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذا إن شاء اللهُ المنزل"، وكان هذا المنزل لغلامَيْن يتيمين، فاشتراه منهما ليتخذ مكانه مسجدا.

فكان أول عمل قام به -صلى الله عليه وسلم- هو بناء المسجد، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار.

معاشر عمار بيت الله: هذا فصل مختصر من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

الملاحظ عباد الله، أن التاريخ الهجري لم يرتبط بميلاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مع أن ميلاده كان ميلاد الحق ومشرقَ النور، ولم يرتبط بمبعثه -صلى الله عليه وسلم-، مع أن مبعثه كان بعثًا للتوحيد الصحيح ومنبعًا للحق الصريح، ولم يرتبط بوفاته -صلى الله عليه وسلم- رغم أن وفاته كانت عبرةً وعظةً وذكرى للمؤمنين.

فرغم عظم هذه الأيام وأهميتها، لم يؤرخ المسلمون بها.

ورضي الله عن الفاروق عمر، إذ جعل مُنطلق التاريخ الإسلامي مرتبطًا بحدث الهجرة النبوية، ليلتقي الحدث العظيم ألا وهو الهجرة في حجمها وأبعادها، بشهر عظيم في قدره وثوابه، ألا وهو المحرم.

أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْم:" أَنَّ أَبَا مُوسَى كَتَبَ إِلَى عُمَر: إِنَّهُ يَأْتِينَا مِنْك كُتُب لَيْسَ لَهَا تَارِيخ، فَجَمَعَ عُمَر النَّاس، فَقَالَ بَعْضهمْ: أَرِّخْ بِالْمَبْعَثِ، وَبَعْضهمْ أَرِّخْ بِالْهِجْرَةِ، فَقَالَ عُمَر: الْهِجْرَة فَرَّقَتْ بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل فَأَرِّخُوا بِهَا، فَلَمَّا اِتَّفَقُوا، قَالَ بَعْضهمْ: اِبْدَءُوا بِرَمَضَان، فَقَالَ عُمَر: بَلْ بِالْمُحَرَّمِ فَإِنَّهُ مُنْصَرَف النَّاس مِنْ حَجّهمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ".

فالصحابة حين أرّخوا، اعتمدوا سنة الهجرة كبداية، ولم يعتمدوا الشهر أو اليوم الذي هاجر فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما يظن أكثر الناس اليوم، وإنما جعلوا شهر المحرم، بداية للسنة الهجرية لأنه يأتي بعد انتهاء أعظم موسم تعبدي الذي هو الحج.

أقول: لعل من الحكم أن سيدنا عمر، الذي جعل التاريخ الهجري مرتبطا بحركة إيجابية، حركة هادفة مُنطلقها الإخلاص، وغايتها الخير والنفع والرحمة والعطاء.

أراد أن يُذكّر بضرورة السلوك وبضرورة الحركة وبضرورة التحسن وبضرورة التعامل مع الهجرة على أساس دائم، وكأن سيدنا عمر أراد منا أن نذكر ونتذكر الهجرة وأن نُسقطها على أنفسنا في كل يوم في كل حركاتنا وفي كل سلوكياتنا، وأن نجعلها هجرة دائمة مستمرة ملازمة لحياتنا عن كل ما نهى عنه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

أن نجعلها هجرة دائمة مستمرة من الذنوب والسيئات.

هجرة من الشهوات والشبهات.

هجرة من مجالس المنكرات.

أن نجعلها هجرة دائمة مستمرة من السيئ في الفعل والقول، إلى الحسن والأحسن في الفعل والقول.

هجرة من صورة الإيمان إلى حقيقته، من الإيمان التقليدي الذي ورثناه عن آباءنا وأجدادنا إلى الإيمان الحقيقي الذي ينبع من قلوبنا ووجداننا وعقولنا.

هجرة من الذنوب إلى التوبة النصوح.

هجرة من الكذب إلى الصدق.

هجرة من الجهل إلى العلم.

هجرة من العناية بالجسد إلى العناية بالروح.

أن نجعلها هجرة دائمة مستمرة من الكسل والتواكل إلى الجد والاجتهاد في طاعة الله، وخاصة في هذه الأيام التي كثرت فيها الفتن والمحن، قال -صلى الله عليه وسلم-: "العبادةُ في الهرْج - أي زمن الفتن - كهجرةٍ إلي".

هجرة من الخيانة والتقصير في المسؤولية إلى الأمانة وتحمل المسؤولية.

هجرة من الظلم إلى العدل.

أن نجعلها هجرة دائمة مستمرة من التفرقة والتنازع إلى التعاون والاتحاد والاعتصام.

فنحن نصلي الجمعة، ونصلي الجماعة، والجماعة تعني تعاونا وتآزراً وتضامناً وتباذلاً، والله يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].

فنحن ندعي من أننا ندين بالإسلام، فإن لم يؤثر فينا الإسلام ولم نتأثر به ونصبح به جماعة وإخواناً فلا قيمة لنا.

وختاما.. أن نجعل حياتنا كلَّها هجرةً إلى الله ورسوله.

هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- باتباع سنته، والاقتداءِ بسيرته.