الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
إن الأمة تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين، ويعيد الوئام إلى المتنازعين؛ إصلاح تسكن به النفوس، وتأتلف به القلوب، إصلاح يقوم به عصبة خيرون، شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نبل الطباع وكريم السجايا. فئات من ذوي الشهامة من الرجال والمقامات العلية من القوم، رجال مصلحون ذو خبرة وعقل وإيمان وصبر...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بفضله اهتدى المهتدون، وبعدله ضلّ الضالون، لا يُسأل عن ما يفعل وهم يسألون، لا رادّ لأمره، ولا معقّب لحكمه، وإذا قضى شيئًا فإنما يقول له كن فيكون. أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أنزهه بها عن ما يقول المبطلون، وأعظمه بها عن ما يقول المشركون. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة في النار.
عباد الله: لقد طبع الله -سبحانه وتعالى- البشر في الحياة بطابع الاختلاف، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118، 119]، كما طبع الكون بكلّ كائناته بهذا الأمر، فأنّى تُدر الوجه ترَ الاختلاف؛ في النّوع والشّكل والوظيفة والدّور... فالزّهور على مدِّ البصر، والثّمر مختلفٌ ألوانه، وكذلك الأمر في الجبال والبحار، وفي الكواكب والنّجوم، وفي أشكال النّاس والحيوان، وكل ما خلق الله الحكيم.
وإذا تأملنا الإنسان أفضل خلق الله، فإنَّنا لا نرى إلا الاختلافَ، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم: 22], فمن حيث الشَّكل، يستحيل أن نرى شخصين طبق الأصل، فلكلٍّ خريطته الوراثيَّة الَّتي تحدِّد مظهره، كما تحدِّد معالم شخصيَّته.
ولهذا، فمن الطَّبيعيّ أن نرى الاختلاف بين البشر في الإمكانات والقدرات، وفي الطَّبائع والأمزجة والآراء وطريقة النَّظر إلى الأمور والأهداف، وفي ميول الأهواء والمصالح... كلٌّ حسب بيئته.
إذاً، نفهم الاختلاف تنوّعاً، ونفهمه غنًى، ونفهمه تكاملاً وتلاقياً وتراكماً، وهذه هي الإيجابيَّة في الاختلاف الَّذي يلوِّن الحياة، ويُخرج المجتمع عن الرَّتابة الّتي ينتجها الرَّأي الواحد، أو الاتّجاه الواحد، وحتَّى المزاج الواحد.
عباد الله: إن المساعي الحثيثة المباركة، والوساطة الحميدة، ومحاولة الإصلاح بين الناس مرغوبة ومؤثرة في تحقيق الآثار والغايات الشريفة، أكثر بكثير من فرض الأمر بالقوة؛ لأن أثر القوة يزول سريعاً، وأثر المسعى الحميد يطول ويبقى لانتزاع ما في الصدور من ضغائن، وسلّ ما في الصدور من سخائم، وتطهير ما في القلوب من غلّ، والاعتماد على التراضي، واحترام جميع الأطراف المتنازعة، وتحقيق التفاهم، وإظهار التسامح والتوادد، والاعتذار من المخطئ أمام من أخطأ عليه، فتصفو النفوس وتلين.
لقد رغَّب الشرع العظيم بالإصلاح بين الناس لهذه المعاني كلها، فقال الله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114]. وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ: "إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ" [أبو داود (4919)، وصححه الألباني].
إن المصلـح -الذي يبذل جهده وماله ويبذل جاهه ليصلح بين المتخاصمين- قلبه من أحسن الناس قلوباً، فنفسه تحب الخير، وتشتاق إليه، يبذل ماله، ووقته، ويقع في حرج مع هـذا ومضض مع الآخر، ويحمل هموم إخوانه ليصلح بينهما.
فكم بيت كاد أن يتهدّم, بسبب خلاف سهل بين الزوج وزوجه, وكاد الطلاق, فإذا بهذا المصلح بكلمة طيبة, ونصيحة غالية, ومال مبذول, يعيد المياه إلى مجاريها, ويصلح بينهما, وكم من قطيعة كادت أن تكون بين أخوين, أو صديقين, أو قريبين, بسبب زلة أو هفوة, وإذا بهذا المصلح يرقّع خرق الفتنة ويصلح بينهما, وكم عصم الله بالمصلحين من دماء وأموال, وفتن شيطانية, كادت أن تشتعل لولا فضل الله ثم المصلحين.
إن ديننا دين عظيم، يتشوّف إلى الصلح، ويسعى له، وينادي إليه، ويحبّب لعباده درجته, وإلى جانب كلِّ هذا الدَّور التَّربويّ الَّذي يقوم به الأنبياء والمصلحون، كان التَّأكيد من الله على ضرورة تدخّلهم المباشر كإطفائيِّين في المجتمع، يعملون على تقريب وجهات النَّظر، ويمنعون تحوّل الاختلاف إلى ضغائن وأحقاد، وهذا ما دعوا إليه، كما جاء عن الله -سبحانه- عندما قال: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) [النّساء: 35].
وهذه المسؤوليّة تحملها العلماء وقاموا بها عندما شكّلوا عبر تاريخهم دور المصلحين بين العشائر والقبائل، وبين أهل الخلافات الاجتماعية والاقتصادية، وسعوا لحلِّ الخلافات العائليَّة، وصاروا مقصداً لكلّ من استعصت عليهم الحلول، وهو الدّور المطلوب استمراره في كلّ زمانٍ ومكانٍ، والعمل على تطويره وتنظيمه من خلال العقلاء والواعين في المجتمع.
عباد الله: إن الأمان والخير مصاحب للأمة ما دام المصلحون قائمين، والساعون لتقريب وجهات النظر مواصلين، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]، أي: ما كان من شأن ربك -أيها الرسول الكريم- أن يهلك أهل قرية من القرى إهلاكًا متلبسًا بظلم منه لها، والحال أن أهلها قوم مصلحون؛ لأن ذلك الإهلاك مع تلك الحال يتنافى مع ما كتبه على نفسه من الرحمة والعدل، وذلك لا يتأتى.
وتأمل في هذا الحديث, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال نبيك -صلى الله عليه وسلم-: " تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس؛ فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا؛ إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء, فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا, أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا" [مسلم (2565)]، فاتق الله عبد الله, واصطلح مع أخيك, وارجع إليه، يغفر الله لكما ويصلح أحوالكما.
ألا ترى يا من تصلح أن إصلاحك بين الناس صدقة تتصدق بها على نفسك، وخيار تجلبه لأهلك، جاء من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "من أصلح بين اثنين أعطـاه الله بكل كلمة عتق رقبة", وقال الأوزاعي: "ما خطوة أحب إلى الله -عز وجل- من خطوة من إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار".
إن الصلح خيرٌ لا شك فيه؛ تهبُّ به على القلوب المتجافية رياحُ الأنس ونسماتُ النَّدى، وصلحٌ تسكنُ به النفوسُ، ويتلاشى به النزاعُ، والصلحُ نهجٌ شرعيٌ يُصانُ به الناسُ، وتُحفظُ به المجتمعات من الخصام والتفككِ، والأسر من التشرذم والتفرق.
بالصلح تُستجلب المودات، وتعمر البيوتات، ويبثُ الأمنُ في الجنبات, ومن ثَمَّ يتفرغُ الرجالُ للأعمالِ الصالحةِ، يتفرغون للبناءِ والإعمار بدلاً من إفناءِ الشهورِ والسنواتِ في المنازعاتِ، والكيدِ في الخصومات، وإراقة الدماءِ، وتبديد الأموال، وإزعاج الأهلِ والسلطاتِ، وقد أمر الله تعالى بإصلاح ذات البين وجعله عنوانَ الإيمان، قال الله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال: 1]، وإذا كان هذا في العائلة، فإن الدَّعوة للمؤمنين في المجتمع العام تدعو إلى استنفار جهودهم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات: 10].
أمّا إذا ما استعر الخلاف، فعلى المجتمع أن يلجأ إلى استعمال القوَّة لفرض الإصلاح، وإلى هذا أشار الله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات: 9]. ويروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"، وعن أنسٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي أيوب: "ألا أدُلُّكَ على تجارةٍ؟" قال: بلى، قال: "صِلْ بينَ الناسِ إذا تفاسَدُوا، وَقَرِّبْ بينهُمْ إذا تباعدوا" [صحيح الترغيب والترهيب(2818)].
فأين الراغبون في هذه التجارة الرابحة؟ وقد أباحَ الإسلامُ استعمالَ الكذبِ في الإصلاح بين الناسِ؛ لأن الكذبَ لا يأتي إلا بشرٍّ؛ ولكن لما كان الإصلاحِ بينَ الناسِ هدفهُ الخير أباحه.
نعم فلقد بلغت العناية بالصلح بين المسلمين إلى أنه رُخِّص فيه بالكذب مع قباحته وشناعته وشدة تحريمه، عن أُم كلثوم -رضي الله عنه-ا أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا" [البخاري(2692)]، أي يبلغ خيرًا. قال العلماء: "المراد هنا أنه يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشر، ولا يكون ذلك كذباً؛ لأن الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به".
إخوة الإسلام: من الحوافزَ التي وضعها الإسلامُ للمصلحينَ بين الناسِ أن من يدفعْ منهمْ من مالهِ في سبيلِ الإصلاحِ؛ أجازَ لهُ الإسلامُ أن يرجع بما دفعهُ من مالٍ فيأخذها من الزكاةِ أو من بيتِ مالِ المسلمينَ ولو كان غنياً. فعن قبيصة بن المخارق -رضي الله عنه- قال: تحملت حمالةً -يعني: غرامة- فأتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسأله فيها، فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها". ثم قال: "يا قبيصة: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصاب فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ثم يمسك، فما سواهن من المسألة فسحت يأكلها صاحبها سحتًا" [مختصر مسلم(568)].
فلنحرص جميعًا على الإصلاح بين الناس، والتقريب بين وجهات النظر، متحملين في ذلك التبعات والنتائج.
نسأل الله أن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وأن يصلحنا ويُصلح بنا، ونسأله سبحانه أن يصلح لنا قلوبنا، ويهدي لنا نفوسنا، ويصلح لنا أحوالنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو على كل شيء قدير، الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه فيجازيهم بعملهم والله بما يعملون بصير، فسبحانه من رب عظيم وإله غفور رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أيها الناس: اتقوا الله ربكم حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، واحرصوا على الإصلاح بين المؤمنين واعلموا أن الإصلاح بين المسلمين فيه أجر عظيم، قال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) [الحجرات: 9].
عباد الله: ومن مجالات الإصلاح المحبوبة في دين الله -عز وجل-:
الإصلاح في نطاق الأسرة وبين الزوجين، قال الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [النساء: 35]. وقال -جل وعلا-: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: 128].
وكذا من مجالات الإصلاح المأجور من يسعى فيها: الإصلاح بين الأفراد، قال الله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) [البقرة: 224]، كأن الحق يقول: "لا أريد أن تجعلوا اليمين عرضة بينكم وبين فعلكم للخير والبر والتقوى، مادام أن المصلحة مرجحة، وأن المنفعة متحققة"، وهذا هو هديه -عليه الصلاة والسلام- فقد ورد من حديث أبي موسى -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير منها" [البخاري(4385)].
إن المصلح الحق هو الذي يعدلُ بين اثنين، ويجمعُ بين متهاجرين، ويقرِّبُ بين مُتظالمين، يقودهم إلى صلح لا يحلُّ حرامًا، ولا يحرِّم حلالاً، ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة" [البخاري (2989)].
ومن الإصلاح الذي يؤجر الساعي فيه: الإصلاح بين أصحاب الحقوق في الوصايا والأوقاف: قال الله تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة: 182].
وقد وعد -سبحانه وتعالى- من أصلح بين الناس إيمانًا واحتسابًا أن يؤتيه أجرًا عظيمًا، فقال تعالى: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].
والإصلاح بين الناس وظيفة المرسلين لا يقوم بها إلا أولئك الذين أطاعوا ربهم، وشرفت نفوسهم وصفت أرواحهم يقومون به؛ لأنهم يحبون الخير والهدوء ويكرهون الشر حتى عند غيرهم من الناس، ويمقتون الخلاف حتى عند غيرهم، ويجدون في إحباط كيد الخائنين.
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلح بنفسه بين المتخاصمين، عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-: أن أهل قباءٍ اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال: "اذهبوا بنا نصلح بينهم" [البخاري (2693)].
وتبقى هذه الشعيرة قائمة، وفي تضميد الجراحات دائمة، ما بقي الخلاف قائم؛ حتى إذا عقل الناس شريعة ربهم، وتربوا على منهج وهدي سيدهم، فإن الحاجة ستقل لهذه الثلة القائمة لجمع الكلمة وتوحيد الصف.
واستمعوا معي لهذه القصة التي وقف لها التاريخ والزمان إجلالاً وإكباراً, فهي تشرق بضيائها على جانب من السبب، هذه القصة كانت في عهد الصديق -رضي الله عنه- حيث استعمل عمر -رضي الله عنه- على قضاء المدينة، فمكث عاماً كاملاً لم يختصم إليهِ اثنانِ، فجاءه عمرُ بعدَ عامٍ كاملٍ يقدمُ استقالتهُ بالمفهومِ الحديثِ ويطلبُ الإعفاءَ من القضاءِ، فسألهُ الصديقُ: "أمِنْ مَشَقَّةٍ تطلبُ الإعفاءَ يا عُمَرُ؟" فردَّ الفاروقُ: "لا يا خليفةَ رسولِ اللهِ, ولكنْ لا حَاَجَةَ لِيْ عِنْدَ قَوْمٍ مؤمنينَ عَرَفَ كُلٌ مِنْهُم مَالَهُ مِنْ حَقٍ؛ فَلَمْ يَطْلُبْ أكثرَ منهُ وما عليه من واجب فم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه وإذا غاب أحدهم تفقدوه وإذا مرض عادوه وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه، دينهم النصيحة وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟!".
أسمعتم -يا عباد الله- هذه ثمرة نشر الدين بين الناس وتمسكهم به، وكان بالإمكان في هذا الزمان التقليص بقدر كبير من القضايا التي تصل للشرط والمحاكم وهذا ليس بأمر عسير.
أيها الإخوة: إن الإصلاح مصدر الطمأنينة والهدوء ومبعث الاستقرار والأمن، وينبوع الألفة والمحبة. ولقد أقضت مضاجع القضاة القضايا، وامتلأت كثيراً من السجون بالبلايا، ناهيك بما في مراكز الشرطة وأسِرَّة المشافي من المآسي. بل إن مشكلات الأمة الكبرى في الصومال وأفغانستان، ومواقع من ديار المسلمين أخرى تحتاج كل الحاجة إلى الصالحين المصلحين.
ألا ينبري خيرون بمساعي حميدة هنا وهناك ليطفئوا نار الفتن وينزعوا فتيل اللهب؟!، فإن التنازع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء، مبدد للثروات، (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46]. بالخصومات والمشاحنات تنتهك حرمات الدين، ويعم الشر القريب والبعيد. ومن أجل ذلك سمى رسول الله فساد ذات البين بالحالقة، فهي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين.
إن الأمة تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين، ويعيد الوئام إلى المتنازعين؛ إصلاح تسكن به النفوس، وتأتلف به القلوب، إصلاح يقوم به عصبة خيرون، شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نبل الطباع وكريم السجايا. فئات من ذوي الشهامة من الرجال والمقامات العلية من القوم، رجال مصلحون ذو خبرة وعقل وإيمان وصبر، يخبرون الناس في أحوالهم ومعاملاتهم، حذاق في معالجة أدوائهم، أهل إحاطة بنفوس المتخاصمين وخواطر المتباغضين والسعي بما يرضي الطرفين.
عباد الله: إن الإصلاح بين الناس يصون المجتمع، يقول الله تعالى: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 114].
عباد الله: إن الإصلاح بين الناس هو فرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللذين فرضهما الله على المسلمين؛ لأن خيرهما يعم الدين والدنيا، ويعود على الفرد والمجتمع، ولأنه مبعث الأمن والاستقرار، ومنبع الألفة والمحبة، ومصدر الطمأنينة والهدوء، وآية الاتحاد والارتباط، ودليل الأخوة الصادقة والإيمان الصحيح قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10].
اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، وأغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.