البحث

عبارات مقترحة:

الوارث

كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

بين الجحود والاعتراف

العربية

المؤلف عبد العزيز بن عبد الله السويدان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. خطر جحود الحق ورفضه .
  2. ضرورة اجتماع الإقرار بالحق والعمل به .
  3. أقسام الناس في قبول الحق ورفضه .
  4. الأسباب الصادة من قبول الحق .
  5. قصة الطفيل بن عمرو الدوسي وقبوله للحق .

اقتباس

إذا ما عرض عليك الحق -يا مسلم- وكان مراً وأنت تعلم في قرارة نفسك أنه الحق فما هو موقفك؟ هل تعي أنك تبتلى في موقفك من الحق؟ في مدى خضوعك للحق؟ في مدى تسليمك للحق؟ هل تعلمون أن الصلاة والزكاة والصيام والحج لا تنفع الإنسان ما لم يذعن للحق، فيما يتعلق بالعقيدة والمعلوم من الدين بالضرورة؟!

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

إن من أقبح الذنوب التي عرفتها البشرية: الاستكبار على الحق، وحتى لو لم يقترف الإنسان الباطل، فإن إثمه عظيم بمجرد جحوده للحق.

 

وقد جحد الشيطان الحق باستكباره على أمر الله -تعالى- فطرد من رحمة الله إلى أبد الآبدين: (إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 34].

 

إذا ما عرض عليك الحق -يا مسلم- وكان مراً وأنت تعلم في قرارة نفسك أنه الحق فما هو موقفك؟ هل تعي أنك تبتلى في موقفك من الحق؟ في مدى خضوعك للحق؟ في مدى تسليمك للحق؟ هل تعلمون أن الصلاة والزكاة والصيام والحج لا تنفع الإنسان ما لم يذعن للحق، فيما يتعلق بالعقيدة والمعلوم من الدين بالضرورة؟!

 

هناك حديث مشهور في الصحيحين لابن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا زراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".

 

حديث مشهور معروف في الصحيحين، نقل ابن كثير وغيره أنه لما ذكر حديث ابن مسعود هذا لعمرو بن عبيد المعتزلي القدري الذي كان يصلي ويصوم، ولكنه لا يؤمن بالقدر، ولا بعلم الله المسبق للأشياء قبل حدوثها، قال مستكبرا بعلقه ومنطقه: لو سمعت الأعمش -الأعمش هو شيخ المحدثين في سليمان المهران من علماء القرن الأول- يقول: "لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته، ولو سمعته يعني سماعا بأذنه-، ولو سمعته من زيد بن وهب -وهو أيضا من كبار التابعين الذين عاصروا الصحابة-، لو سمعته من زيد بن وهب لما أجبته، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته، ولو سمعته من رسول الله لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت ما على هذا أخذت علينا الميثاق".

 

إن قبول الحق والاعتراف بكونه حقا ولو لم يفعله المسلم خيرا من فعله للحق دون إيمان به وتصديق به!.

 

ولذلك لا ينفع المنافق شهادة ولا صلاة ولا زكاة: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ)[المنافقون: 1].

 

لا تنفعهم تلك الشهادة شيئا: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)[المنافقون: 1].

 

وقال سبحانه: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ) كانوا ينفقون: (إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) [التوبة: 54].

 

فالإسلام ليس سطحيا بلا عمق، ولا جوهريا بلا سطح، بل هو باطن وظاهر، إيمان قلبي وعمل بدني: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) [الرعد: 29].

 

فلا يكفي أن تعمل دون أن تقر وتعترف، ولا أن تقر دون أن تعمل وتطبق، والإقرار كما ذكرنا مهم، بل إن مجرد الإقرار بالحق -كما تقدم- دليل على صحة النفس إيمانيا، دليل على استعدادها للهداية إن لم يكن اليوم فغدا -بإذن الله- ما دام أنها تقر بالحق، فالحمد لله.

 

أحد الدعاة كان ضيفا في بيت رجل ماهر في الرسم يزوره، فامتدت عينه إلى منظر معلق على جدار البيت لطير من الطيور، فأخذ يمعن النظر، ويتأمل في مهارة ذلك الفنان الذي استطاع أن يرسم تلك اللوحة، فقال له صاحب البيت من خلفه وضيفه ينظر إلى اللوحة: أنا أعرف أن رسم ذوات الأرواح حرام وسوف أزيلها -بإذن الله-، فرد عليه الداعية: أنا لم انظر إليها لألومك وإنما لأرى مهارة الرسم، ثم قال بحكمة: "لكن ما دمت تعلم أنها حرام فهنيئا الصلاح قريبا -بإذن الله-".

 

وفعلا ما مر على ذلك الرجل إلا أشهر معدودة، فإذا به يصلح حاله، فلا يجد سروره إلا في طاعة الله، فأزال تلك اللوحة، بل أزال جميع المخلفات الأخرى في بيته.

 

أيها الإخوة: إن الحق عندما يلوح في الأفق أصحابه وأوليائه هم الراشدون، هم العقلاء، هم المؤمنون، أما أعدائه فهم المستكبرون، والجبارون.

 

هل تذكرون المثل؟

 

كان يسيران معا، وفجأة أحدهم وأشار بيده نحو جسم أسود من بعيد يقف على الأرض، وقال لصحابه: انظر إلى ذلك الغراب، فقال الثاني: أي غراب هداك الله، هذه عنزة، واستهجن الأول ضعف بصر صاحبه، وقال: إنه غراب ألا ترى منقاره وذيله، فرد الثاني: أي ذيل؟ وأي منقار؟ ألا ترى قوائمه الأربع، وازداد تهكم الأول على الثاني فما كان من الأول إلا أن رمى حجرا باتجاه ذلك الجسم الذي اختلف عليه فطار في السماء، فقال الأول: ألم أقل لك أنه غراب؟ فرد الثاني: لا تحاول عنزة ولو طارت؟

 

منطق عنز ولو طارت، هو منطق المتكبر على الحق، الذي يصده عن الحق كبرا في صدره؛ كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) عظمة وما هم ببالغيه؛ لأن الله مذله: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [غافر: 56].

 

ذكر ابن القيم: أن المسور بن مخرمة -رضي الله عنه- وهو ابن أخت أبي جهل، قال لخاله أبي جهل قبل أن يسلم المسور، قال له يا خال: هل كنتم تتهمون محمد بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: والله يا ابن أختي كان محمد فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبا قط، فقال يا خال: فما لكم لا تتبعونه؟ قال: يا ابن أختي تنازعنا نحن وابن هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، واجأروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به ولا نصدقه أبدا.

 

إذاً القضية عناد وكبر وجحود؛ كما قال تعالى: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ)[الأنعام: 33].

 

وكما قال جل وعلا: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) [النمل: 14].

 

معاشر المسلمين: إن الكبر خلل إيماني وخلقي وسلوكي، بل إنه عاهة قلبية خطيرة ومهلكة، حتى قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".

 

"لا يدخل الجنة" معناها لا يطلق عليه أنه من أهل الجنة، بل هو من أهل الوعيد.

 

قال شيخ الإسلام: قال من قال في هذا الحديث وغيره أن المنفي هو الدخول المطلق الذي لا يكون معه عذاب لا الدخول المقيد الذي يدخل النار، يعني أولا ثم دخل الجنة، ثم أطلق الحديث فلانا من أهل الجنة كان المفهوم أنه يدخل الجنة ولا يدخل النار أبدا، أي مطلق، فإذا تبين هذا كان معناه أن من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ليس هو من أهل الجنة ولا يدخلها بلا عذاب، بل هو مستحق للعذاب لكبره كما يستحقها غيره من أهل الكبائر، ولكن قد يعذب في النار ما شاء الله ثم يخرجه الله، فإنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد، وهذا كقوله: "لا يدخل الجنة قاطع رحم".

 

والكبر -يا إخوة- الذي منه رفض الحق درجات، فقد يكون الكبر في القلب كبيرا مسيطرا، وقد يكون صغيرا حتى يصل إلى ذرة كما في الحديث، والكبر قليله وكثيره من كبائر الذنوب؛ لأن ذرة منه تمنع صاحبه الجنة.

 

الحاصل أنه درجات؛ فمن الناس من يرفض الحق في شؤون المعاش فحسب، ومنهم من يجرؤ على رفض الحق حتى في شؤون المعاد، حتى في أمور الدين، يؤتى له بالدليل من الكتاب والسنة فيستكبر، يقال له: قال الله -تعالى-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: ولو!.

 

طيب: ما هي أسباب رفض الحق؟

 

يقول الإمام ابن القيم: "الأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة؛ فمنها: الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئا عاداه، وعاد أهله، فإذا انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده، كان المانع من القبول أقوى، فإذا انضاف إلى ذلك إلفه وعاداته ومرباه على ما كان عليه آبائه ومن يحبه ويعظمه قوي المانع، فإذا انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه قوي المانع من القبول جدا، فإذا انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه؛ كما وقع على هرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ازداد المانع من قبول الحق قوة، فإن هرقل عرف الحق وهم بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه، فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبين له الهدى".

 

وبين -رحمه الله- أثر الحسد في رفض الحق قائلا: "ومن أعظم هذه الأسباب: الحسد، فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه، وأوتي ما لم يؤت نظيره، فلا يدعه الحسد أن ينقاد له، ويكون من أتباعه، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد، فإنه لما رآه قد فضل عليه، ورفع فوقه، غص بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة".

 

معاشر الإخوة: فضلا عما تقدم فإن من أسباب رفض الحق: التعصب الأعمى، ورفض الحق خلاف العدل، وقد قال -تعالى- في التعصب الذي يؤدي إلى البخس والظلم ورفض الحق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].

 

وقد قال صلى الله عليه وسلم لصحابته لما جاءه الرجل يتقاضاه دينا كان عليه، فاشتد عليه فانتهره أصحابه، وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟! قال لهم صلى الله عليه وسلم: "هلا مع صاحب الحق كنتم؟!".

 

يعلمهم صلى الله عليه وسلم أن الحق يعلو على الجميع، وأنه يخضع له، وقد أثنى الله -تعالى- على الذين اعترفوا بذنوبهم، حتى لو خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؛ لأن الاعتراف بالحق له قيمته العظمى عند الله -تعالى-، يقول سبحانه: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة: 102.

 

عسى الله أن يتوب عليهم، قال المفسرون: عسى من الله يدل على الوجوب.

 

فالخضوع للحق والاعتراف بالحكم الشرعي، ولو كان فيه فوات شهوة ما، أو هوى، أو كان فيه خلاف لفلسفة ما، أو فيه خلاف لقيم، أو رؤى تحريرية مثلا، الاعتراف بالحكم الشرعي والخضوع له من أوجب الواجبات، والتكبر عليه وجحوده من أقبح الذنوب.

 

أسأل الله -تعالى- أن يشرح صدورنا للحق، إنه سميع مجيب.

 

وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

 

أما بعد:

 

فقد جاء في سير الأعلام وغيره: عن صالح بن كيسان: أن الطفيل بن عمرو الدوسي قال الطفيل: كنت رجلا شاعرا سيدا في قومي، فقدمت مكة، فمشيت إلى رجالات قريش، فقالوا: إنك امرؤ شاعر سيد، وإنا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل أي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فيصيبك ببعض حديثه، فإنما حديثه كالسحر، فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا، فإنه فرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وابنه.

 

يقول: فو الله ما زالوا يحدثونني في شأنه وينهونني أن أسمع منه، حتى قلت: والله لا أدخل المسجد إلا وأنا ساد أذني، قال: فعمدت إلى أذني فحشوتهما كرسفا -قطنا- ثم غدوت إلى المسجد، فإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائما في المسجد، فقمت قريبا منه، وآبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فقلت في نفسي: والله إن هذا للعجز، وإن امرؤ ثبت ما تخفى علي الأمور حسنها وقبيحها، والله لأستمعن منه، فإن كان أمره رشدا أخذت منه، وإلا اجتنبته.

 

فنزعت الكرسفة، فلم أسمع قط كلاما أحسن من كلامه، من كلام تكلم به، فقلت: يا سبحان الله، ما سمعت اليوم لفظا أحسن ولا أفضل ولا أجمل منه، فلما انصرف تبعته فدخلت معه بيته، فقلت: يا محمد، إن قومك جاءوني، فقالوا لي: كذا وكذا، فأخبرته بما قالوا، وقد آبى الله إلا أن أسمعني منك ما تقول، وقد وقع في نفسي أنه حق، فاعرض علي دينك، فعرض عليه الإسلام، فأسلم الطفيل بن عمرو الدوسي.

 

صفات مثل هذه، صفات التجرد والعقلانية والرشد التي اتصف بها الطفيل، والتي جعلته يخضع للحق، نريد أن ننميها في نفوسنا، نريد أن نطهر قلوبنا من شوائب الكبر ورفض الحق.

 

إن الاعتراف بالحق فضيلة، وخلق محمود، بل عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه، عسى الله أن يجعلنا وإياكم ممن يخضع للحق، ويستجيب له.

 

اللهم أصلح قلوبنا، واستر عيوبنا، واغفر ذنوبنا...