البحث

عبارات مقترحة:

السلام

كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

وعجلت إليك رب لترضى

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
  1. الشوق إلى لقاء الله .
  2. شوق الأنبياء إلى الله .
  3. شوق السلف إلى لقاء الله .
  4. من صفات المشتاقين .
  5. علامة الشوق إلى الله .
  6. مراتب المشتاقين إلى رب العالمين .
  7. شوق أهل الجنة. .

اقتباس

إن الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه، بحيث لا يقر قراره حتى يظفر به ويحصل له؛ فكأنه لهيب ينشأ في أوساط الحشا سببه الفرقة، فإذا وقع اللقاء أطفأ ذلك اللهيب, فلا محبوب عنده في الحقيقة إلا الله -سبحانه وتعالى-, ولا مستحق للمحبة التامة أحداً سواه...

الخطبة الأولى:

إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102], وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

أوصي نفسي وإياكم -عباد الله- بتقوى الله والاستعداد ليوم العرض على الله.

عباد الله: حديثنا اليوم عن أمر عجيب, يقطّع الأكباد, ويهيج ويلهب القلوب, للقاء المحبوب, ويحركه ويسافر به نحو علام الغيوب, ويُولد فيه الاستقامة وحب العبادة؛ ليشاهد جمال المحبوب وجلاله وعظمته.

إنه رأس مال السالكين، ومفتاح أبواب السعادة للطالبين، ولا تخلو منه قلوب العارفين. إنه المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون، وإليها يشخص العاملون, وهو الحياة التي من حُرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات.

إنه أمر كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يدعوا ربه أن يرزقه إياه, إنه السير إلى الله والشوق إلى لقائه. فقد ثبت من حديث عمار بن ياسر -رضي الله عنه- قال كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: "اللهم أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَـى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَـى لِقَائِكَ، فِي غَيْـرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ" [صحيح سنن النسائي (1237).]. وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في صلاته من حديث قيس بن عباد -رضي الله عنه-: "وأسألك الرضا بالقضاء وبرد العيش بعد الموت, ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك…" [صحيح النسائي (1305)].

ولما خيّره ربه بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عند الله اختار لقاء الله, ثم خرج على أصحابه فقال لهم: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ الله". فبكى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلما حضرته الوفاة حقق هذا الشوق والحنين فقال: "بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى" [صحيح الترمذي -(3660)].

بل كان أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام- يسألون ربهم هذا الأمر ويذكرونه ويحبونه, ففي أخبار داود - السلام-: "إن الله تعالى قال: يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني, وجليس لمن جالسني, ومؤنس لمن أنس بذكري, وصاحب لمن صاحبني, ومختار لمن اختارني, ومطيع لمن أطاعني, ما أحبني عبد أعلم ذلك يقيناً من قلبه؛ إلا قبلته لنفسي وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي, من طلبني بالحق وجدني, ومن طلب غيري لم يجدني, فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها, وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم, فإني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي وموسى نجيي ومحمد صفيي, وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي".

ويقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- لكعب الأحبار: "أخبرني عن أخص آية - يعني في التوراة- فقال: يقول الله تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقاً". قال: ومكتوب إلى جانبها: "من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني". فقال أبو الدرداء: "أشهد إني لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا".

وأوحى الله تعالى إلى داود: "يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم؛ لماتوا شوقاً إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي. يا داود هذه إرادتي في المدبرين فكيف إرادتي في المقبلين علي, يا داود أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني, وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني, وأجلّ ما يكون عندي إذا رجع إلي".

أيها الناس: إن الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه، بحيث لا يقر قراره حتى يظفر به ويحصل له؛ فكأنه لهيب ينشأ في أوساط الحشا سببه الفرقة، فإذا وقع اللقاء أطفأ ذلك اللهيب, فلا محبوب عنده في الحقيقة إلا الله -سبحانه وتعالى-, ولا مستحق للمحبة التامة أحداً سواه.

يقول الله -سبحانه وتعالى- عن نبيه يعقوب -عليه السلام-: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86 ] وقال عن موسى -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84 ] قال بعض السلف: معناه شوقاً إليك. وقال عن نوح: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ) [القمر: 10]،وقال عن يونس: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقال عن زكريا: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً) [مريم: 4 ]. وقال عن خليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [ الشعراء: 82-83].

فكل دعاء أنبياء الله ورسل الله -عليهم الصلاة والسلام أجمعين رجوع لله! وطلب لله! وشوق لله! ونظر لله! واكتفاء بالله! وتعلق بالله! ويقين بالله! وشهود لله! وحب لله!. وهذا السؤال منهم الذي يعبر عن شوقهم إلى الله وتلهفهم إليه هو عبادة, لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-: "الدعاء هو العبادة" [صحيح الترغيب –(1627)]. ويقول البراء بن عازب -رضي الله عنه-: "والشوق روح الدعاء ومحركه، ومائه وحقيقته، فمشتاق لما عنده الله ومثوبة الله، ومشتاق لله ووجه الله، وكل بيد الله ورحمة الله".

إن الشوق إلى الله لذة لا يتلذذ بها إلا من عاش مع الله, وتلذذ بمعاني هذه الحياة مع الله!! وأصبح لا يجري في قلبه غير الله, يعيش حياة الملوك من عرف الله حتى لو كان لا يجد مأكله ومشربه وملبسه, حتى لو كان لا يجد ما يظله من لفح الشمس فظله ذاك الحب الذي خالط شغاف قلبه وسرى في عروقه, حتى ولو كان ألم المرض يكسر عظامه ويفتت لحمه فقد خدر ذلك الحب جسده, فلم يعد يشعر بشيء غير الله. يقول الحسن -رحمه الله تعالى-: "والذي نفسي بيده ما أصبح في هذه القرية من مؤمن إلا وقد أصبح مهموماً محزونًا، ففروا إلى ربكم وافزعوا إليه؛ فإنه ليس لمؤمن راحة دون لقائه".

وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يقول: "أحب الموت اشتياقا لربي". ويقول عبد الله بن زكريا: "لو خيرت بين أن أعيش مائة سنة في طاعة الله أو أقبض في يومي هذا أو في ساعتي هذه؛ لاخترت أن أقبض في يومي هذا وساعتي هذه شوقا إلى الله وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإلى الصالحين من عباده". وقال يحيى بن معاذ: "يخرج العارف من الدنيا ولا يقضي وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه, وشوقه إلى ربه". ويقول عبد الواحد بن زيد: "يا إخوتاه ألا تبكون شوقا إلى الله؟ ألا من بكى شوقا إلى سيده لم يحرمه النظر إليه".

وكان أبو عبيدة الخواص يمشي في الأسواق ويقول: "واشوقاه إلى من يراني و لا أراه".  وكان الحارث بن عمير يقول إذا أصبح: "أصبحت ونفسي وقلبي مصر على حبك ومشتاق إلى لقائك, فعجل بذلك قبل أن يأتيني سواد الليل". فإذا أمسى قال مثل ذلك فلم يزل على مثل هذه الحال ستين سنة!.

وتأملوا قصة أبي الدحداح -رضي الله عنه- كيف حرك الشوق قلبه وألبسه حب البذل اشتياقاً للأجر العظيم من الله -سبحانه وتعالى-, فعن عبد الله بن مسعود قال: "لما نزلت هذه الآية: (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) [ الحديد: 11 ] قال أبو الدحداح الأنصاري: وإن الله يريد منا القرض؟ قال النبي –عليه الصلاة والسلام-: "نعم يا أبا الدحداح" قال: "أرني يدك يا رسول الله، قال فناوله رسول الله يده، قال فإني أقرضت ربي حائطي قال: حائطه له ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها. قال فجاء أبو الدحداح فنادي يا أم الدحداح! قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط فإني أقرضته ربي -عز وجل-. [صححه الألباني مشكلة الفقر (120)].

وفي معركة بدر صاح النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه وقال لهم: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض, والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة". فألقى عمير بن الحمام تمرات كانت في يده,: وقال والله إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات فقاتل حتى قتل.

ولما حضرت بلالَ بنَ أبي رباحٍ الوفاةُ وغشيته سكرات الموت, قالت امرأته: واكرباه، فقال لها بلال: بل وافرحاه، غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه.

فهؤلاء قوم ائتمروا بأمر الله وساروا على نهج الله فاشتاقوا للقاء الله والشرب من حوض رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-, قلوبهم ساجدة تحت العرش، وأبدانهم تحن وتئن إلى الملأ الأعلى حنين الطيور إلى أوكارها.

حالهم كحال المحب الذي غاب عنه محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بدَّ له منه، فهو آخر خطراته عند منامه، وأولها عند استيقاظه، فإذا استيقظ أحدهم، فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه، والتوجه إليه،، والتملق بين يديه، اشتياقاً إليه وخوفاً من أن يكله إلى نفسه، فيكله إلى ضعة وضعف وعجز، وخطيئة.

ليس في قلوبهم محبوب أعظم ولا أحب من الله -عز وجل-، فمحبته فوق كل محبة، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة: 165]، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ الله لِقَاءَه". فقالت عَائِشَةُ أو بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: "إنا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ" قال: "ليس ذاك، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ, فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إليه مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ الله لِقَاءَهُ، وإن الْكَافِرَ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ أَكْرَهَ إليه مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ الله لِقَاءَهُ" [البخاري(6507)مسلم(2684)]

وفي رواية أخرى يقول: "من أحب لقاء الله -عز وجل- أحب الله تعالى لقاءه، ومن كره لقاء الله تعالى كره الله -عز وجل- لقاءه"، فبكى القوم، فقالوا: يا رسول الله، وأينا لا يكره الموت؟ قال: "لست ذلك أعني، ولكن الله -تبارك وتعالى- قال (فَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ فإذا كان عند ذلك أحب لقاء الله تعالى، والله -عز وجل- للقائه أحب، (وَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَالِينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍفإذا كان كذلك كره لقاء الله تعالى، والله -عز وجل- للقائه أكره".

تأمل -أخي الكريم- قول الله -سبحانه وتعالى- معزياً للمشتاقين ومبشراً لهم بقرب لقائه بهم: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت: 5].

بارك الله ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم قلت ما سمعتم وأستغفر الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله منزل القرآن رحمة للعالمين ومناراً للسالكين وحجة على العباد أجمعين، الحمد لله الذي لا يدوم غيره ولا يرجى إلا خيره ولا يخشى إلا ضيره ولا يعول إلا عليه، الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره، وعلم مورد كل مخلوق ومصدره، واثبت في أم الكتاب ما أراده وسطره، فلا مقدم لما أخره ولا مؤخر لما قدمه، ولا ناصر لمن خذله ولا خاذل لمن نصره، ولا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه، الحمد لله الذي من اشتاق إليه الله اشتاق إليه كل شيء.

والصلاة والسلام على سيد المشتاقين ورسول رب العالمين، نبينا وقائدنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين .

أيها المسلمون: الشوق أثر من آثار معرفة الله ومحبته، والمحبة أعلى منه؛ لأن الشوق عنها يتولد، وعلى قدرها يقوى ويضعف، وعلامة الشوق: السير إلى الله بالعبادة والاستقامة وفطام الجوارح عن الشهوات التي تعيق سيره.

ولا بد من إثارة كوامن شوقك إلى الله -عز وجل- حتى تلين لك الطاعات فتؤديها ذائقًا حلاوتها ولذتها، وأية لذة يمكن أن تحصلها من قيام الليل ومكابدة السهر, ومراوحة الأقدام المتعبة, أو ظمأ الهواجر, أو ألم جوع البطون, إذا لم يكن كل ذلك مبنيًا على معنى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طه: 84 ] ؟!.

إخوة الإيمان: إن في القلوب شعثاً لا يلمه إلا الإقبالُ على الله، وفيها وحشة لا يُزيلها إلا الأنس بالله، ‏وفيها حزن لا يُذهبه إلا السرور بمعرفة الله، وفيها قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه ‏والفرار منه إليه، وفيها نيران حسرات لا يُطفئها إلا الرضا بأمر الله، وفيها فقر ‏وفاقة لا يسدها إلا ذكر الله وصدق الإخلاص له -جل جلاله- ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى) [النجم: 45 - 55].

إن الناس في أشواقهم على ثلاثةِ مراتب:

الأولى: مرتبةُ السابقين: وهم أولئك الذين توجهت أشواقهم إلى معالي الأمور وكرائمها، فامتلأت قلوبهم بالشوق إلى الله وجنته ورسوله وضروب طاعتِهِ.

والثانية: مرتبة العالقين: وهم الذين تنازعتهم الأشواق، فمرةً إلى العليا ومرةً إلى الدنيا، يسمو بهم إيمانهم وتكبو بهم أدرانهم.

والثالثة: مرتبة الغارقين: وهم الذي غرقوا في الدنيا، فما عرفوا شوقاً إلى غيرها، ملأت قلوبهم فسعوا إليها لا يبالون حلالها من حرامِها . وتضخمتْ محبتها حتى لم تبق لمحبة الله مكاناً.

وقد لفت الله تعالى انتباهنا إلى حال مثل هؤلاء في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر: 32].

فكن -يا عبد الله- من أصحاب المرتبة الأولى الذين يشتاقون إلى رؤية وجه الله -عز وجل- في الجنة, فقلوبهم مشتاقة لنيل هذا الشرف العظيم واللذة الكبرى، فهو -سبحانه- أعظم من سجدت الوجوه لعظمته، وبكت العيون حياءً من مراقبته، وتقطعت الأكباد شوقاً إلى لقائه ورؤيته، ثبت عن صهيب الرومي -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا دخل أهل الجنة الجنة, يقول -تبارك وتعالى-: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟ فيُكشفُ الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم". [مسلم(181)].

قَالَ عبد الرحمن بن أبى ليلى: "فما ظنك بهم حين ثقلت موازينهم، وحين طارت صحفهم في أيمانهم، وحين جازوا جسر جهنم فقطعوه، وحين دخلوا الجنة فأعطوا فيها من النعيم والكرامة، فكأن هذا لم يكن شيئاً فيما أُعطوه بالنسبة للنظر إلى وجه الله الكريم، ويوم المزيد في الجنة، يرجع المؤمن بعد لقاءَ الله والنظر إلى وجهه تعالى, وقد ازداد نضرة ونوراً وجمالاً يراه أهله فيبتهجون ويبشرون به، والله تعالى يقول (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22، 23]".

يشتاقون إلى لقاء الله وإلى جنته ورحمته ورؤية أوليائه في الجنة, وخاصة الشوق للقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفردوس الأعلى.

يشتاقون إلى جنة عرضها السموات والأرض, فقدموا في سبيل الوصول إليها كلَّ ما يملكون، هجروا لذيذ النوم والرقاد، وبكوا في لأسحار، وصاموا النهار، وجاهدوا الكفار وكان لكل واحد منهم مع الله جل جلاله أخبار وأسرار.

أيها المسلمون: هذا هو الشوق، فإذا أردت أن تعرف هل أنت من المشتاقين فاعلم أن الشوق إلى لقاء الله تعالى: يستلزم عدم الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها والرضى بها، فالمشتاقون حقاً إلى لقاء الله تعالى المتطلعون إلى الولوج في بحبوحة كرامته، وواسع فضله، والانغماس في جزيل مثوبته يعتبرون الدنيا مجرد محطة استعدادٍ وتزودٍ لذلك اللقاء المحبوب حتى يلقوا الله -سبحانه وتعالى- وهو عنهم راض.

يشكرون ربهم على نعمائه، ويصبرون على قضائه ويعبدونه حتى يأتيهم اليقين، يفرّون من المعاصي فرارهم من وحوش الغاب، ويرجون رحمة ربهم ويدعونه خوفا وطمعا يعيشون مع الناس بأجسادهم وقلوبهم محلقة في علياء ربهم، يعمرون أرضه بذكره وإعلاء كلمته، لا يخافون في الله لومة لائم، لو علم الملوك بحالهم وسعادتهم لقاتلوهم على تلك السعادة بالسيوف.

صارت أسماء ربهم، وصفاته مشهدا لقلوبهم، أَنْسَتْـهم ذكر غيره، وشغلتهم عن حب من سواه، وجذبتهم إلى حبه تعالى وحده لا شريك له.

فيا عبد الله: وطن نفسك على الشوق إلى لقاء الله، والتطلع إلى ما أعده لعباده المؤمنين من الأجر والمثوبة والكرامة، فتفوز في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة، واحذر من لصوص الشوق وقطاع الطريق إلى الله فإنهم العدو الأكبر والخطر الأعظم: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9 ].

قلوب العارفين لها عيون

ترى ما لا يراه الناظرونا

وأجنحة تطير بكل شوق

فتأوي عند رب العالمينا

فانظر إلى قلبك الآن, وابحث فيه: أتجد فيه شوقاً إلى خالقك؟ وحنيناً إلى لقاء مولاك؟ ونزوعاً إلى رؤية وجهه الكريم؟ إن وجدت فافرح وازدد, وإلا فاستدرك.

يقول السباعي -رحمه الله-: "من تعلق قلبه بالدنيا لم يجد لذة الخلوة مع الله، ومن تعلق قلبه باللهو لم يجد لذة الأنس بكلام الله، ومن تعلق قلبه بالجاه لم يجد لذة التواضع بين يدي الله، ومن تعلق قلبه بالمال لم يجد لذة الإقراض لله، ومن تعلق قلبه بالشهوات لم يجد لذة الفهم عن الله، ومن تعلق قلبه بالزوجه والولد لم يجد لذة الجهاد في سبيل الله، ومن كثرت منه الآمال لم يجد في نفسه شوقا إلى الجنة".

فعليك بالاستعداد للرحيل والتهيؤ للقاء الملك الجليل، فإن الله -جل جلاله- يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها.

اللهم لا تحرمنا رؤيتك ورؤية نبيك -صلى الله عليه وسلم- في دار كرامتك وأرضى عَنَّا رِضًا لا تسَخَطَ بَعْدَهُ أبَدًا. وزينا بزينة الإيمان ،واجعلنا هداة مهتدين.