السيد
كلمة (السيد) في اللغة صيغة مبالغة من السيادة أو السُّؤْدَد،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحكمة وتعليل أفعال الله |
أيها الإخوة: يقول بعض المحقِّقين: دارُ الآخرة إمّا دار نعيمٍ مَحضٍ لا يشوبه ألم، وهذا للموحِّدين الطائعين، وإمّا دار عذابٍ مَحضٍ لا شوبه رَاحةٌ، وهذا للمشركين، وأما هذه الدار الفانِية فممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها مِن النعيم يذكِّر بنعيمِ الجنّة، وما فيها من الألم يذكِّر بألم النار.
أمّا بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أيّها الإخوة: في اختِلافِ اللَّيل والنّهار عِبرٌ، وفي تَقلُّبِ الزَّمان مدَّكر، في تلوُّن الزمان من شتاءٍ وصَيف ما يبهر المتعقّلين، ويُنبِّه المتذكّرين، ويجذِب أفئدةَ الصّادقين إلى الدّلالات الواضِحَة والبراهين البيِّنَة على عَظَمَة الخالق وبديعِ خلقه وعلى وحدانيَّتِه وقدرته سبحانه؛ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190 ،191].
أيها الإخوة: في تقلُّبِ الزَّمان مِن وَصفٍ إلى وَصفٍ وتحوُّلٍ مِن حال إلى حالٍ ما يجعل ذوِي البصائر النيِّرَة والعقول النافذة في نَظَر وتفكُّر واعتبارٍ وتدبُّر في عظمةِ الباري وسَعَة سُلطانه ونُفوذِ مَشيئَتِه وعمومِ عِلمه وقدرته وشمول مُلكِه، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ)[النور:44].
في هَذا التقلُّبِ وذلك التحوُّل بِنظامٍ دقيقٍ دلالةٌ تسوقُنا إلى شُكر الله جلّ وعلا على آلائِه وحَمدِه على نعمائه، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62].
في زَمَن الحَرِّ يتذكَّر المؤمِن شِدَّةَ حرِّ النّار غيرِ المتَناهي أبَدَ الآبدين ودَهرَ الدّاهرين، فيُقبِل حينئذٍ بكلِّيتِه على العزيز الغفَّار ويَفِرّ من سَخَط الجبَّار، (وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81].
المؤمِنونَ الموقِنون بوَعدِ الله ووعيدِه خَائفون وَجِلون من عذابِ السَّموم، عامِلون مسارِعون بما يقرِّبهم للربِّ الرحيم، عاملون بطاعته تارِكون لمعصيَتَه، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:25-28].
أيها الإخوة: يقول بعض المحقِّقين: دارُ الآخرة إمّا دار نعيمٍ مَحضٍ لا يشوبه ألم، وهذا للموحِّدين الطائعين، وإمّا دار عذابٍ مَحضٍ لا يشوبه رَاحةٌ، وهذا للمشركين، وأما هذه الدار الفانِية فممزوجة بالنعيم والألم، فما فيها مِن النعيم يذكِّر بنعيمِ الجنّة، وما فيها من الألم يذكِّر بألم النار.
وإنَّ ممّا يُذكّر بالنّار المعَدَّة لمن أشرك بالله جلّ وعلا وكفَر ولمن عصَى رُسُلَه وتجبَّر ما جَعَله الله في هذه الدّارِ من شدّةِ الحرّ وشِدّة البرد، فحرُّ الدنيا يذكِّر بحَرِّ جهنَّمَ وسمومها، وبردُها يذكِّر بزَمهَرِيرِها، قال تعالى في صِفَة الجنّة: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا) [الإنسان: 13]، فنفى عنهم شِدّةَ الحرّ والبردِ.
قال قتادة رحمه الله: "عَلِم الله أنّ شدَّةَ الحر تؤذي، وشدّة البرد تؤذي، فوقاهم أذاهما جميعًا".
وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ شدّةَ الحرِّ من فَيْح جهنّم" متفق عليه.
وهذا التذكُّر يدعو أولي الأبصارِ إلى الطاعةِ، والإقبال على الله جلّ وعلا، ويَحدُو أهل التعقّل للاستعداد بالأعمَال الصالحة... فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ".
أيها الإخوة: في الزّمَان وتقلُّبه دلائلُ، وفي تحوُّلِه بصائرُ، قال ابنُ رجب رحمه الله: "واختلافُ أحوالِ الدّنيا من حرٍّ وبَرد وليلٍ ونهار وغَيرِ ذَلك يَدلّ على انقِضائِها وزَوالها" انتهى.
فالسَّعيدُ من اغتَنَمها فيما يُقرِّبه مِن خالِقِه، ويباعِدُه مِن سَخَط إلهِهِ وربِّه، قال أحد العُبّاد الزّهَّاد وَهوَ يَتَحدَّث عن تفَكُّر المؤمنين في تقلُّب اللّيل والنهار ومجيءِ الشِّتاء والصيفِ: "فو الله، ما زالَ المؤمِنون يتفكّرون فيما خلق لهم ربُّهم حتى أيقَنَت قلوبهم حتى كأنما عبدوا الله عن رؤيتِه، وما رأى العارفون شيئًا من الدنيا إلاّ تذكّروا بِه مَا وَعَد الله به مِن جِنسه في الآخرة".
وكان عمر يقول: "أَكثِروا ذِكرَ النّار؛ فإنَّ حَرَّها شَديد، وإنَّ قعرَها بَعيد، وإنَّ مَقامِعَها حَديد".
وكان بَعضُ السَّلف إذا رجَع من الجُمُعة في حرِّ الظهيرةِ يذكر انصرافَ الناسِ مِن موقف الحسابِ إلى الجنّة أو النار، فإنَّ السَّاعةَ تقوم يومَ الجمُعة، ولا يَنتَصِف ذلك النهار حتى يَقيل أهلُ الجنّة في الجنّة وأهلُ النّار في النار، ثم تلا: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان:24].
ومِن مَواقفِ العِبرِ في زَمنِ الحرِّ تذكُّر حرِّ الشَّمس في الموقِفِ العظيم، فإنَّ الشمسَ تَدنو من رءوسِ العِباد يومَ القيامَةِ ويُزاد في حَرِّها.
جعلني الله وإياكم ووالدينا ممن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ إنه جواد كريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: نشهد هذه الأيام تغيرات في الجو من بين حر شديد ورياح قوية حارة، وسُحب ربما أمطر بعضها، وغبار يجلل الفضاء لا تسبقه رياح.. صنوف من الأحوال الجوية، ربما قلنا وقال بعض أهل الفلك: ليس هذا وقتها، كما هي نواميس الكون المعتادة، ويقال في مثل هذا الموقف الكثير..
وما أرجو التفطن له أولاً: أن نعلم أن الله تعالى بيده مقاليد الكون يصرّفه كيف يشاء وهو أحكم الحاكمين، وأن ما يكون من تغير في هذا الكون إنما هو بعلمه وتقديره، وقد أمر عباده بالاعتبار بها فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة:164]، وأن نوجّه أُسرنا ومن تحت أيدينا، للاعتبار بها والاتعاظ كما أراده الله منها.
ثانيا: أن نذكي في نفوسنا استشعار نعم الله علينا التي نتقلب بها صباح مساء حتى أضحت جزءًا من حياتنا ربما غفلنا عنها فلم نحمد الله عليها، ورَسُولُنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا". رواه مسلم.
حري بنا أن نحمد الله على النعم عمومًا، وعند تجددها عندما ندخل من حر إلى برد.. ونتصور حالنا لو انقطعت الكهرباء في هذا الحر الشديد..
ثالثًا: ربما تأوّه وتفوّه بعضنا عند شدة الحر بكلام لا يليق وأظهر الضجر بالكلام والفعل المنافي للصبر. وكل هذا لا يحسن بالمسلم..
إن علينا أن نعلم أن هذا من الابتلاء، وأن هذا من اللأواء التي يجب أن نصبر عليها..
وقد أرشدنا ربنا إلى السلوك السليم في مثل هذا الموقف، فقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة 155-157]، قال الشيخ السعدي معلقًا على هذه الآيات: أما مَن وفَّقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط، قولاً وفعلاً، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه؛ لأنها صارت طريقاً لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أي: بشَّرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.
فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ)، وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما.. ثم قال: عند (أُولَئِكَ) الموصوفون بالصبر المذكور (عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي: ثناء وتنويه بحالهم (وَرَحْمَةٌ) عظيمة، ومن رحمته إياهم أن وفَّقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع، عِلْمهم بأنهم لله، وأنهم إليه راجعون، وعملوا به وهو هنا صبرهم لله...
ودلت هذه الآية، على أن مَن لم يصبر فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله، والعقوبة، والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين، وأعظم عناء الجازعين، فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، لتخف وتسهل، إذا وقعت، وبيان ما تقابل به، إذا وقعت، وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر وهو الاسترجاع، وما للصابر من الأجر، ويُعلم حالُ غير الصابر، بضد حالِ الصابر.. وأن هذا الابتلاء والامتحان، سُنة الله التي قد خلت، ولن تجد لسنة الله تبديلاً..
ثم إن علينا أن نرشد في استهلاك الكهرباء، ونقتصر فيه على قدر الحاجة لما فيه من النفع بخفة الأحمال، واستمرار التيار بالوصول إلينا، إن شاء الله، ولما فيه من الاقتصاد الذي أُمرنا فيه.