الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | محمد ويلالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المهلكات |
أمَّا مدرسة اليوم، فقد صارت وبالاً -في كثيرٍ من الأحيان- على الأبناء والآباء على حدٍّ سواء، صارت المدرسة ومحيطها مجتمعًا مُصَغَّرًا، تتمازَج فيه العادات القبيحة، وتتلاقح فيه الأفكار المنحرفة، وتتبادَل فيه التجارِب السيِّئة. صارت المدرسة ومحيطها سوقًا يتنافس فيه الفتيان؛ لإبراز أحلامهم البطوليَّة، وحركاتهم العجائبيَّة، وتتنافس فيه الفتيات في اتِّباع أحدثِ صيحات الموضة؛ في اللباس، وطريقة المشي والكلام، والمعاملة، فانشغل الجميع بذاته ومظاهره، فكان...
الخطبة الأولى:
تتهيَّأ الأُسَر هذه الأيام لاستقبال عام دراسي جديد، ويتهيَّأ أبناؤنا لطلب العلم الذي به تتفاضل المجتمعات، وبه تحقِّق الأُمَّة آمالَها في التقدُّم والرُّقي والازدهار؛ قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن يُرِد الله به خيرًا، يفقِّهه في الدين"[مُتفق عليه].
إنَّ العلم لا يَرْسَخ في الذِّهن، ولا تَعِيه البديهة إلاَّ بتقوى الله عز وجل-، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة: 282].
قال القرطبي -رحمه الله-: "وَعْدٌ مِن الله -تعالى- بأنَّ مَن اتَّقاه عَلَّمه؛ أي: يجعل في قلبه نورًا يَفهم به ما يُلْقَى إليه، ومنه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)[الأنفال: 29].
غير أنَّ عموم أبنائنا اليومَ يشتكون من ضَعف ذاكرتهم، وقِلَّة تحصيلهم، وتأخُّر مستوياتهم، لِمَا عليه كثيرٌ منهم من المعاصي التي يرتكبونها صباحَ مساء، والموبقات التي يجترِحونها ليلَ نهار.
لَمَّا جلسَ الإمام الشافعي بين يدي الإمام مالك، أعجبَه ما رأى عليه من مخايل النجابة والذكاء، فقال له: "إنِّي أرى الله قد ألْقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية".
وكان الإمام مالك يقول: "والله ما رأيتُ دواءً للحِفظ مثل تَرْك المعاصي".
إنَّ منارات العِلم في الزمن السابق كانتْ تَشِعُّ من المساجد التي يَقصدها الطلاب بِهِمَّة وإقبال، فيعكفون على الطلب لا يلوون على شيءٍ، يبدؤون غالبًا بحفظ كتاب الله، وكُتب من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما تيسَّر من المتون العلميَّة، ثم يتفرَّغون بعد ذلك لعلمٍ من العلوم، أو مجموعة من العلوم، حتى يتقنوها، فكان منهم العلماء والفقهاء، والحُفَّاظ والعُبَّاد والزُّهَّاد.
أمَّا مدرسة اليوم، فقد صارت وبالاً -في كثيرٍ من الأحيان- على الأبناء والآباء على حدٍّ سواء، صارت المدرسة ومحيطها مجتمعًا مُصَغَّرًا، تتمازَج فيه العادات القبيحة، وتتلاقح فيه الأفكار المنحرفة، وتتبادَل فيه التجارِب السيِّئة.
صارت المدرسة ومحيطها سوقًا يتنافس فيه الفتيان؛ لإبراز أحلامهم البطوليَّة، وحركاتهم العجائبيَّة، وتتنافس فيه الفتيات في اتِّباع أحدثِ صيحات الموضة؛ في اللباس، وطريقة المشي والكلام، والمعاملة، فانشغل الجميع بذاته ومظاهره، فكان التحصيلُ الدراسي آخر ما يُلتفتُ إليه.
صارت المدرسة ومحيطها مَرتعًا لربْط العلاقات بين الجنسين، ومَيدانًا لبيع الخمور، ومتاجرَ متحرِّكة لترويج مُختلف أنواع المخدرات؛ بل هناك شُبَّان من كلا الجنسين لا علاقة لهم بالدراسة، ينشَطون أمام بعض المؤسَّسات، يترصَّدون التلاميذ عند دخولهم للمؤسسة وخروجهم منها؛ ليقدِّموا لهم شروحات حول كيفيَّة استهلاك المخدرات، ويزيِّنون لهم هذا الفِعْل من باب الإحساس بالنشوة، ونسيان المشكلات.
ومن هنا يبدأ ما يُسمَّى بالعنف المدرسي، حيث صرَّح 70% من تلاميذنا بأنَّهم سَبَق أن تعرَّضوا له وَفْق إحصائيَّات لمنظَّمات حقوقيَّة دوليَّة.
لقد تفاقَم هذا العنف في السنوات الأخيرة، فلم يقتصر على محيط المؤسسة التعليميَّة، بل تجاوزه إلى ساحتها وأقسامها، حين ازدادتْ ظاهرة شُرْب السجائر؛ حيث أثبتت بعض الدراسات أنَّ 12% من أطفال المدارس الابتدائية عندنا يُدخِّنون، وتزيد النسبة عن النصف في صفوف تلاميذ الثانوي.
ومن خلال بحث مَيداني لوزارة الصحة نُشِر سنة 2007، تبيَّن أنَّ نسبة المدخنين الذين تتراوح أعمارُهم ما بين 13 و15 سنة، بلغتْ 15، 5 %، فكانت هذه الفئة العُمريَّة أخطر الفئات، كما تبيَّن أنَّ رُبْع الشباب المدخنين بدؤوا تدخين السجائر قبل سنِّ العاشرة.
وتعاظَم الأمر حين انتشرتْ في صفوف تلاميذنا المخدرات، وبخاصة منها تلك المهيجة، التي صارتْ تُباع في شكل حَلْوَى، تُفْقِد صاحبها توازُنه، وتحوِّل التلميذ الهادئ بطبعه إلى وَحْشٍ هائج، مُتعطِّش للانتقام وإثبات الذات، فينتهي الأمر -في الغالب- إلى ارتكاب جرائم مُتعددة مع أفراد جماعته، أو مع المدرسين والإداريين، تتراوح بين السبِّ والشتم والقذْف، والشجار، والعراك، وقد ترتقي إلى الاشتباك بالأيدي، والضرْب والجرح، بل وقد تَصِل إلى القتْل أحيانًا؛ مما دفَعَ إلى تكوين فِرَق أمنيَّة بهدف التصدِّي لهذه الظاهرة.
ويبدأ العنف العدواني عند بعض التلاميذ في شكل سرقات؛ حيث تَعَرَّضَ أكثر من 52 % من الطلاب للسرقة، أو تخريب للتجهيزات المدرسيَّة، أو لسيارات الأساتذة والإداريين، أو السطو وإتلاف الوثائق المدرسية، أو أنماط عَرقلة الدرس.
قالتْ إحدى التلميذات: "في الكثير من الحصص تتوقَّف الدراسة بسبب تلميذ واحد يريد أن يخاصِم الأستاذ، أو يُضحك زملاءَه".
ويقول بعض المدرسين: "نواجه سلوكيَّات شائنة من طرف التلاميذ عند خروجنا من الإعدادية، نسمعُ منهم كلمات بذيئة، ويرشقوننا بالحجارة".
ورَحِم الله مَن استبدل قول شوقي: "قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيلاَ" بقوله: "قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّنْكِيلاَ".
وهذا تلميذ تشاجَر مع آخر، فضربه بمقلمته، فأصابَه في عينه اليمنى ففقأها.
ودخل أحدُ الغرباء إحدى الثانويَّات عبر أسوارها، وحاوَلَ اقتحام قسم بالقوَّة، فلمَّا منعه الأستاذ، أشهر في وجْهه سكِّينًا، ثم تبيَّن أنَّ هذا الشخص أحد تُجَّار بيع المخدرات من ذَوِي السوابق العدلية، اقتحمَ القسم في أثناء الدرس؛ بحثًا عن أحد زبائنه من التلاميذ.
وعند إحدى الثانويات القريبة منا وقعتْ في السنة الماضية جريمة قتْل، راحَ ضحيَّتها طفل لَمَّا يتجاوز 17 سنة، من طرف طفل آخر عُمره 13 سنة، طعنًا بسكين حادَّة في حبل الوريد، إثر لجاج كلامي بين حَيَّينِ من أحياء المدينة، والوقائع من هذا النوع كثيرة، والله المستعان.
الخطبة الثانية:
إنَّ للعنف المدرسي أسبابًا عديدة غير ما ذكر؛ منها: الإحساس بالإحباط، واليأس من المستقبل، واستفحال ظاهرة الطَّرْد أو الانقطاع عن الدراسة، وارتفاع نسبة التَّكْرار السنويَّة المتراوحة في الغالب ما بين 12، 7% بالابتدائي، و18، 9% بالثانوي والإعدادي، والفقرُ الذي لا يقوى التلميذ على مواجهته والصبر عليه، وانتشارُ الجريمة في المجتمع؛ حيث أثبتت الدراسات في بلد مجاوِر تحوُّل 49، 5% من التلاميذ والطلاب إلى العُنف؛ بسبب مشاهد الإجرام والسرقة والقتْل في مجتمعهم، وكذلك ما تُعانيه بعضُ الأُسَر من تفكُّك وخصومات؛ مما يتسبَّب في تحول 36% من التلاميذ والطلاب إلى العنف، وكذلك تأثير وسائل الإعلام السلبي؛ من خلال أفلام الجريمة، ومسلسلات الجنس، ما دام أنَّ 72 % منهم يشاهدون أفلام العنف دون رقابة، ويتلقون أكثرَ من 80 مشهدَ عنفٍ في الساعة.
ولا ننسى السلوك السلبي الذي يلجأ إليه بعض الأساتذة؛ كالسخرية، والتحقير، والاستخفاف بالتلميذ وبمجهوده، وعدم الإنصاف والعَدْل في التعامُل مع جماعة القسم، وتحرُّشِ بعض المدرسين بالتلميذات، وتشير الدراسات إلى أنَّ 53% من المعلمين مارسوا العنف ضد طلابهم، و51% من الطلاب تعرَّضوا للسبِّ والشَّتْم من قِبَل المعلِّمين.
ويبقى السبب الأكبر: إهمال الأسرة تربيةَ أبنائهم، والاجتهاد في تنشئتهم على الأخلاق الحميدة، وتعميق حبِّ القرآن والسُّنة في نفوسهم، ومتابعة سَير دراستهم، ومراقبة رفقائهم، والتفرُّغ لمشكلاتهم، وفقه التعامل معهم.
وعلى المعلِّمين أن يجتهدوا في إنشاء النوادي المدرسيَّة والانخراط فيها؛ مثل: النادي الصحي، والنادي البيئي، ومركز الاستماع الذي يتيح للتلميذ فرصة إخراج مكنوناته، والتعبير عن مشكلاته.
وعلى هيئة الإدارة أن تقدِّمَ في بداية كلِّ مَوسم إلى المعلِّمين لائحة بأسماء التلاميذ أصحاب الحالات الخاصة، الذين يحتاجون إلى عناية مركَّزة؛ تحقيقًا للتكامُل التربوي بين الأُسرة والمدرسة.
وعلى الدولة أن تُكثِّفَ من دوريَّات مراقبة المؤسَّسات ومحيطها، وأن تضْرِبَ على يد كلِّ مَن يُعين على انحراف أبنائنا وبناتنا، وأنْ تُخَصِّص مساعدين اجتماعيين وصِحِّيين؛ للقيام بالدَّعْم النفسي والاجتماعي للتلاميذ، وإحالة الحالات المستعصية إلى الجهات المختصة بوزارة الصحة، وغيرها من التدابير الكفيلة بإنقاذ تعليمنا، والله الموفِّق لكلِّ خيرٍ.