الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لم يكن ترويجهم هدفاً لذاته، بل كان وسيلة لتجديد الهمة، مع تصحيح النية، لعمل أفضل، وإنتاج أكمل. لذا لم يكن ترويجهم لمجرد تضيع الأوقات، وإمضاء الساعات دون مردود بناء، يقوي الجسم، وينمي العقل والذكاء. كان الصحابة يروحون عن أنفسهم، ولا يقصرون في شيء من حق الله -تعالى-، وإذا جد الجد كانوا هم الرجال، كما...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنعم على العباد، ويسر أسباب السعادة، أحمده سبحانه وأشكره على نعمة التوفيق والهداية.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حذر العباد من الضلال والغواية، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، نصر الله فكتب له السيادة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم إلى يوم القيامة.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: إن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فبعد العناء والتعب والجهد والنصب، تميل النفوس إلى التجديد والتنويع، واللهو المباح والترويح؛ دفعاً للكآبة، ورفعاً للسآمة، ليعود الطالب إلى مقاعد الدراسة بهمة وقادة، والموظف إلى عمله بعزيمة وثابة، ذلك أن القلوب إذا سئمت عميت.
والإجازة؛ تجديد لنشاط العامل وحركته، وصفاء لذهنه، وترويض لجسمه، حتى لا يصاب بالخمول والركود، فيصبح جسداً هامداً، وعقلاً غائباً، وإحساساً ذاهباً، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "إن لبدنك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا".
وهذا له مدلول دقيق، ومعرفة بطبيعة النفوس عميقة.
الإسلام دين السماحة واليسر، يساير فطرة الإنسان، فحين شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الحبشة يلعبون، قال: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة" [رواه أحمد].
فبعض الناس لا يرى في الحياة إلا الجد المرهق، والعمل المتواصل، وآخرن يرونها فرصة للمتعة المطلقة، والشهوة المتحررة، وتأتي النصوص الشرعية، فيصلا لا يشق لها غبار، فيشعر بعدها هؤلاء وهؤلاء أن هذا الدين وسط، وأن التوازن في حياة المسلم مطلوب: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 77].
راعى الإسلام الإنسان عقلاً له تفكيره، وجسماً له مطالبه، ونفساً لها أشواقها.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا"[رواه البخاري ومسلم].
وفي رواية: "كان يتخولنا أن نتحول من حالة إلى حالة".
لأن السآمة والملل يفضيان إلى النفور والضجر، يقول علي -رضي الله عنه-: "إن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم".
ويقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إني لأستجم قلبي باللهو المباح ليكون أقوى لي على الحق ".
وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "تحدثوا بكتاب الله، وتجالسوا عليه، وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال".
ويقول صلى الله عليه وسلم لحنظلة: "يا حنظلة ساعة وساعة"[رواه مسلم].
وقال علي -رضي الله عنه-: "روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلب إذا أكره عمي".
وبعد قراءة أقوالهم، واستقراء لأحوالهم وأفعالهم، يحدد لنا سلف الأمة ضوابط اللهو المباح والترويح.
هاهم يروحون عن أنفسهم، فلا يتجاوز أحدهم حدود الشرع المطهر، بعيداً عن المحرمات، أو المكروهات.
لم يكن ترويجهم هدفاً لذاته، بل كان وسيلة لتجديد الهمة، مع تصحيح النية، لعمل أفضل، وإنتاج أكمل.
لذا لم يكن ترويجهم لمجرد تضيع الأوقات، وإمضاء الساعات دون مردود بناء، يقوي الجسم، وينمي العقل والذكاء.
كان الصحابة يروحون عن أنفسهم، ولا يقصرون في شيء من حق الله -تعالى-، وإذا جد الجد كانوا هم الرجال، كما ثبت من فعلهم: أنهم كانوا يتبارحون -أي يترامون- بالبطيخ، فإذا جد الجد كانوا هم الرجال.
وكما قال الأوزاعي عن بلال بن سعد -رحمهما الله تعالى-: "أدركت أقواماً يشتدون بين الأغراض، يضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا".
وهكذا كانوا رضوان الله عليهم، كما قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "فرساناً بالنهار، رهباناً بالليل".
وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: " كان القوم يضحكون والإيمان في قلوبهم أرسى من الجبال"
ترويحهم وضحكهم، لا يضعف إيمانهم، ولا يفسد أخلاقهم، لا يتعدى وقت الترويح على أوقات الصلاة، وذكر الله، وصلة الرحم، وقراءة القرآن: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النــور: 37].
إجازة في طاعة الله ليس فيها امرأة تتبرج، أو شهوة تتهيج، أو نزعة إلى الشر تتأجج، كانوا يروحون عن أنفسهم بعيداً عن سهر في ليل طويل، وسمر فارغ هزيل، يخل بحقوق كثيرة، ومنها: حق الجسم، وحق الأهل، وفوق ذلك حق الله -تبارك وتعالى-.
نرى من خلال قراءة سير الصحابة والسلف الكرام، عدم الإفراط في استهلاك المباح من لهو وترويح، لعلمهم بأن المهمة الكبرى للإنسان هي عبادة الله، ولأن الوقت ثمين، ومن منهج الإسلام: منع الإفراط في كل شيء، حتى ولو كان في الصوم والصلاة والجهاد، فكيف باللهو والترويح، حتى لا تضيع الحقوق الأخرى؟
وفي هذا يقول المصطفى -رضي الله عنه- لأحد أصحابه: "صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقا" [رواه البخاري].
الصيد -كما تعلمون- مباح في الأصل، وقد يفرط فيه البعض فيهدر أوقاته، ويهلك أيامه يتتبعه من مكان إلى مكان مطارداً باحثاً، ولاهثاً غافلاً، هنا نهي الإسلام عن هذا الإفراط حفاظاً على وقت المسلم الغالي، ليكون في طاعة مديدة، ومتوازنا لأداء حقوق كثيرة.
فقال صلى الله عليه وسلم: "من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل" [رواه أحمد].
هذا فيمن يفرط في اللهو المباح، والترويح عن النفس، فكيف بمن يصرف أوقاته الثمينة، وساعات عمره الغالية، في أنماط ترويجه محرمة، ينتهك محارم الله، ويتجاوز مناهيه؟ كيف بمن يقدم حضور حقل أو فرح على فريضة من فرائض الله؟ كيف بمن يلهو ويمزح ويضحك ويمرح بالسخرية من أحكام الله أو الاستهزاء بعباد الله يتمضمض بأعراضهم، ويسخر من أحوالهم وهكذا يقضي الإجازة، أليس هذا نكراناً لنعم الله، وجريمة تنذر بالشؤم، وتوجب سخط الإله؟
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يداعب أصحابه، حتى تعجب الصحابة من مداعبته لهم، وقالوا: يارسول الله إنك تداعبنا؟ قال: "إني لا أقول إلا حقا" [رواه الترمذي].
إخوة الإسلام: الإجازة نعمة، وإذا لم تستثمر في ترويج مباح وعمل مفيد، يستغرق المساء والصباح، فإن هذا الفراغ الرهيب يعد مشكلة تقلق كل أب لبيب، فهو كما قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: "إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل".
فكم سهرة عابرة أسقطت فتى في المخدرات، وجلسة غامضة وقع البريء بها في المهلكات.
الفراغ جرثومة فساد تنتشر وتستفحل في مجتمعات الشباب، فتحطم الجسد، وتقتل الروح، الفراغ لص خابث، وقاطع عائث، وسارق خارب أفسد أناساً، ودمر قلوباً، وسبب ضياعا.
ونبه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى غفلة الألوف عما وهبوا من نعمة العافية والوقت، فقال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" [رواه البخاري].
كيف نجد في حياة المسلمين فراغاً، ونحن نرى الأمم كل الأمم تركض اليوم في ميادين الحضارة والتنمية، تسابق الزمن وتتحدى الصعاب، وتجتاز العقبات، وكل أمة قد استجمعت قواها، وألهبت طاقتها، واستنهضت عزم شبابها تبتغي اللحاق بالركب والتقدم.
إن من أولى أولوياتك -أيها الأب الكريم-: توفير محاضن، وبرامج نافعة، تعود على ابنك بالفائدة تملأ الفراغ، وتحفظ فلذة كبدك من الضياع.
هنيئاً لك أيها الأب وهنيئاً لابنك: بجليس في أخلاقه وسلوكه صالح كحامل المسك للعباد نافع.
وكتاب مفيد، يقرأ فيه النافع والجديد، وعمل يستهلك طاقته، ويحفظ له، مستقبلاً كرامته.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6]
وقال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" [رواه البخاري].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70 - 71].
أخي المسلم: إن الإجازة جزء من عمرك وحياتك، نرصد فيها الأعمال، وتسجل الأقوال، واعلم أنك موقوف للحساب بين يدي ذي العزة والجلال، فإن الدنيا دار اختبار وبلاء، كل ذلك يجعل للحياة قيمة أعلى، ومعان أسمى، من أن يحصر الإنسان همه في دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، أو منصب يطلبه، أو رفاهية ينشدها، أو مال يجمعه، حتى إذا انتهى راح يطلب المغريات الكاذبة.
كلا، ليس الأمر كذلك، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
ومن الأمور التي تساعد على استثمار الإجازة: قراءة القرآن، فإذا أخذت قسطك من النوم والراحة، وتنعمت بأنواع الطعام، وحققت شيئاً من السعادة، فلا تنس غذاء قلبك، بقراءة القرآن، طلباً للحسنى وزيادة، لا تبخل على كتاب الله بساعة من أربع وعشرين ساعة.
زيارة بيت الله الحرام للصلاة فيه، وأداء عمرة، فما أعظمها وأجلها من فرصة زيارة مسجد المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، قراءة سيرة رسولنا الكريم -عليه الصلاة والسلام-، وسيرة الصحاب والتابعين، انظروا إلى العالم الجليل عبد الله من المبارك: كان يمكث في بيته بعد عمله وتجارته قارئاً لتراث السلف، فإذا ما سئل ألا تستوحش؟ أجاب: "كيف استوحش وأنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه".
زيارة الأرحام والأقارب، زيارة العلماء والصالحين، ففي صحيح مسلم: "أن رجلا زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله -عز وجل-، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه".
تفقد الأيتام والأرامل والمحتاجين، وسد خلتهم، وتحسبن أحوالهم.
سئلت عائشة -رضي الله عنها-: ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعمل في بيته؟ قال: "يخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجل في بيته" [رواه البخاري].
وفي رواية: قالت: "ما يصنع أحدكم في بيته، يخصف النعل، ويرقع الثوب ويخيط" [رواه البخاري].
وفي رواية أخرى: "كان بشراً من البشر يفلى ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه" [رواه الترمذي].
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى، ومعلم البشرية الخير.