الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | محمد حسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
أعراض كثيرة: إعراض عن القرآن، إعراض عن قيام الليل بعد رمضان، إعراض عن الذكر والاستغفار، والتسبيح، إطلاق للبصر للنظر إلى ما حرم الله، وكأن الإنسان قد فك من قيود أو عقال، صورة خطيرة من صور الفتور التي تصيب كثيراً من المسلمين الصائمين القائمين بعد رمضان. يا أخي: لو نظرت إلى الفجر الأول من شوال لصدمت، لبكيت –والله- دما بدل الدمع، أين من...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب71- 70].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فحياكم الله جميعا -أيها الإخوة والأخوات-: وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم -جل وعلا- الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته؛ أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفي –صلى الله عليه وسلم- في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله: الفتور: هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم، في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الجليل الكبير المهم في العناصر التالية:
أولاً: الفتور لغةً واصطلاحاً.
ثانياً: أعراض الفتور.
ثالثاً: أسباب الفتور.
رابعاً: العلاج.
وأخيراً: وصية الختام.
فأعيروني القلوب والأسماع، فما أحوجنا جميعاً بلا استثناء إلى هذا الموضوع المهم، والله أسأل أن يجمعنا ممن: (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[الزمر: 18].
أولاً: الفتور لغةً واصطلاحاً.
قال ابن منظور في لسان العرب: فتر يفترُ فتوراً، أي: سكن بعد حدة، لانَ بعد شدة.
والفتور يطلق في اللغة على معنيين:
الأول: الكسل أو التراخي، أو التباطؤ بعد النشاط والجد.
والمعنى الثاني للفتور في اللغة: السكون بعد الحركة، والانقطاع بعد الاستمرار.
ومعنى الفتور اصطلاحاً: داء ومرض خطير، يصيب بعض المسلمين، أو بعض العاملين للإسلام أدناه: الكسل، أو التراخي، أو السكون بعد الحركة، وأعلاه: الانقطاع بعد الاستمرار، هذا هو الفتور لغة واصطلاحاً.
وقد أثنى الله -جل وعلا- على ملائكته، فقال سبحانه: (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء: 20 -19].
(لَا يَفْتُرُونَ) لا يتكاسلون، ولا يتوقفون عن الذكر، والتسبيح، والطاعة، والعبادة، هذه مقدمة مهمة بين يدي الموضوع أحببت أن أقدم بها.
ثانياً: أعراض الفتور:
أعراض كثيرة: إعراض عن القرآن، إعراض عن قيام الليل بعد رمضان، إعراض عن الذكر والاستغفار، والتسبيح، إطلاق للبصر للنظر إلى ما حرم الله، وكأن الإنسان قد فك من قيود أو عقال، صورة خطيرة من صور الفتور التي تصيب كثيراً من المسلمين الصائمين القائمين بعد رمضان.
يا أخي: لو نظرت إلى الفجر الأول من شوال لصدمت، لبكيت والله دما بدل الدمع، أين من كانوا يملؤون المساجد في الليلة الفائتة؟ في الصبح الفائت، أين ذهبوا؟ هل هذه هي الغاية التي من أجلها صُمت؟ ما حققت الغاية قط.
كان من المنتظر أن يكون رمضان دافعاً للأمة؛ لتتخلص من هذه الانتكاسة المؤلمة بعد ما انتصرت إرادتها على الشهوات، بعد ما انتصرت إرادتها على الضعف الكامن في النفس، فصامت الشهر كاملاً، وقامت الليل، وتصدقت وأنفقت، واستغفرت وتهجدت، وقامت بالأسحار؛ لتستغفر العزيز الغفار.
كان من المنتظر أن تدفع هذه المدرسة الإيمانية الكبرى؛ أفراد الأمة إلى الثبات، إلى مزيد من البذل والعطاء، والاستمرار على طاعة الله -سبحانه وتعالى-، لكنك ترى عكس ذلك تماماً عند كثير من المسلمين والمسلمات.
إن دل ذلك فإنما يدل دلالة واضحة على أن كثيراً من الناس يصومون، ويقومون الليل، دون أن يخرجوا من هذه المدرسة الإيمانية الكبرى بالغاية العظمى، التي من أجلها فرض الله الصوم على من وحدوا الله، وآمنوا برسول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
ما هي التقوى؟
التقوى: هي الاسم من اتقى، والمصدر: الاتقاء، وكلاهما مأخوذ من مادة وقى.
والوقاية: هي حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، فأصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية.
فتقوى العبد للرب: أن يجعل العبد بين سخط الله، وغضبه، وعذابه، وقاية تحفظه وتمنعه تلك الوقاية، هي: فعل الطاعات، واجتناب المعاصي، والمداومة على الطاعات، الاستقامة على الطاعة، هذه حقيقة التقوى.
فمن تخلى عن الثوابت الإيمانية الكبيرة التي كان عليها في رمضان، بعد رمضان، ما خرج إطلاقاً من هذه المدرسة بتقوى الله -عز وجل- أبداً.
فتش عن حال الإيمان في قلبك الآن، هل ازداد الإيمان في قلبك بعد رمضان؟ هل ازداد خشوع قلبك لله بعد رمضان؟ صمت ثلاثين يوماً، وقمت ثلاثين ليلة، كيف حال الإيمان في قلبك بعد هذه الأيام والليالي؟ هل ازددت قرباً من الله -جل جلاله-؟ أم أنك لا زلت على الحال التي دخلت بها هذه المدرسة الإيمانية الكبرى؟ أم أنك ما زلت على حالك من إطلاق البصر فيما حرم الله؟ أم أنك ما زلت على حالك الأول من هجر القرآن، ومن هجر لقيام الليل، ومن هجر للصدقة والاستغفار؟!
فتش عن حال الإيمان في قلبك بعد رمضان، إن كنت ممن ازددت قرباً، فهذه علامة قبول توبتك من الله، وإن كنت ممن عدت إلى حالتك الأولى قبل رمضان، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وابك على نفسك دماً بدل الدمع، ولا زال في العمر فسحة، فجدد التوبة والأوبة، وأعلم بأن الله لا يمل حتى تمل.
لا أريد أن أطيل النفس في الأعراض، فكلنا يعرف أعراض الفتور، وأنا لا أتحدث الآن عن الفتور الذي يصيب بعض المسلمين بعد رمضان، وإنما أتحدث عنه وعن الفتور بصفة عامة الذي يصيب بعض العاملين للإسلام، من آن لآخر.
والسؤال الخطير والمهم: ما هي أهم أسباب الفتور؟
هذا هو عنصرنا الثالث، ومحورنا الرئيسي في هذا اللقاء المهم: أسباب الفتور.
أخطر الأسباب عندي: ضعف الإيمان بالله -جل وعلا-:
محال -يا أخي-: أن تتذوق طعم الإيمان، وحلاوة الإيمان، وأن يضيء قلبك بنور الإيمان.
محال بعد هذا أن نتخلى عن مواد الإيمان، ألا هي الطاعة، فضعف الإيمان في القلب من أخطر أسباب الفتور، من أخطر أسباب التراخي والتكاسل والتباطؤ، ومن أخطر أسباب الإعراض والانقطاع عن الطاعة، وعدم الاستمرار عليها.
فالإيمان حصن الأمان، وهدايتك للطاعات، بتوفيق رب الأرض والسماوات، ثمرة حلوة للإيمان.
أكررها، أكررها وانتبه لها: هدايتك للطاعات، بتوفيق رب الأرض والسماوات، ثمرة حلوة للإيمان.
خذ الدليل على هذا التأصيل الجليل، قال جل وعلا: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11].
فهداية القلب ثمرة للإيمان، ولو هدى الله قلبك استقامت جوارحك كلها على الطاعة؛ لأن القلب هو الملك، والجوارح جنود الملك ورعاياه، فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا؛ كما قال ربنا -جل وعلا-: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 89-88].
وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير أن النذير البشير –صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"[أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه (52)، ومسلم في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (1599/107)، وأحمد في المسند (4/270، 269)].
وقال أبو هريرة: "القلب ملك الأعضاء، والجوارح جنوده ورعاياه، فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا".
فالإيمان حصن الأمان، فإن قترت، وتكاسلت، وتباطأت، وتوقفت، وانقطعت عن العمل.
ففتش عن حال وحقيقة الإيمان في قلبك، إيمانك يحتاج إلى تجديد، إيمانك يحتاج إلى تقوية، ونحن ندين الله أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فإن تباطأت وتكاسلت، وانقطعت عن الطاعة، ففتش عن حال الإيمان في قلبك.
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر -أي العلم-، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن، فسل الله أن يمن عليك بقلب، فإنه لا قلب لك".
فهل تحمل قلباً؟ هل تحمل في صدرك قلباً حقيقياً؟ فتش عن قلبك الآن.
ثانياً: بإيجاز شديد: ضعف الإرادة والهمة، قال ابن القيم -لله دره-:"اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله -تعالى- بقلبه وهمته، لا ببدنه، فالتقوى في الحقيقة تقوى القلب، لا تقوى الجوارح".
قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
قال تعالى: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) [الحج: 37].
وأشار النبي –صلى الله عليه وسلم- يوماً إلى صدره الشريف، وقال: "التقوى ها هنا، التقوى ها هنا"[أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (2564/32)، والترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم (1927)، وأحمد في المسند (2/360) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-].
ضعف الإرادة، ضعف الهمة.
ومن يتهيب صعود الجبال | يعش أبد الدهر بين الحفر |
ولم أر في عيوب الناس عيباً | كنقص القادرين على التمام |
وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم | وتأتي على قدر الكرام المكارم |
وتعظم في عين الصغير صغارها | وتصغر في عين العظيم العظائم |
قال جل جلاله: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء: 18-21].
وقال جل وعلا: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ).
اللهم اجعلنا من السابقين.
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ)[الواقعة:10-14].
قال ابن القيم: "فالسابقون في الآخرة إلى الرضوان والجنات، هم السابقون في الدنيا إلى الخيرات والطاعات، فعلى قدر السبق هنا يكون السبق هناك".
ضعف الإرادة والهمة؛ فمن الناس من تنشط همته وتقوى إرادته في جمع المال، بل ربما لا ينام الليل والنهار، ولا يعنيه هل سيجمع المال من الحلال أم من الحرام؟
ومن الناس من تنشط همته، وتقوى إرادته في البحث عن امرأة جميلة حسناء في الحلال أو الحرام سواء.
ومنهم من لا هم له إلا أن يحقق شهرة، ولو بالكذب والباطل.
ومنهم من يحمل هموم أمته ودعوته ودين الله -تبارك وتعالى-.
فضعف الإرادة والهمة من أخطر أسباب الفتور، ومن أخطر أسباب التباطؤ، أو الانقطاع عن العمل لدين الله -تبارك وتعالى-، وسأبين العلاج -إن شاء الله جل وعلا-.
ثالثاً: من أسباب الفتور وهو سبب خطير: الاستهانة بصغائر الذنوب.
يقول الأخ بعد رمضان: لقد صليت القيام في رمضان كاملاً، وصمت ثلاثين يوماً، فيتصور ويزين الشيطان له أنه في يوم العيد صار في فسحة، فيطلق لبصره العنان، وللسانه العنان، ولجوارحه العنان، ثم يزين الشيطان له أنه واقع في صغائر الذنوب، فيستهين بصغائر الذنوب، وإن كنا نعتقد أن الذنوب وإن كانت من الكبائر، فهي لا شيء في عفو الرحمن -تبارك وتعالى-، شتان شتان بين هذا وذاك!.
فنحن لا نُكَفِّر بالكبائر، أقصد أننا كأهل السنة لا نكفر أحداً بكبائر الذنوب، وإنما نعتقد اعتقاداً جازماً أنه مهما ارتكب الإنسان من الكبائر، فتاب إلى الله، فنزع واستغفر، وجدد الأوبة والتوبة، وندم على ما مضى، فالله -سبحانه وتعالى- يغفر له، بل ربما يبدل الله سيئاته حسنات، قال جل وعلا: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) [الفرقان:70].
لكنني أؤكد على قضية الاستهانة بالذنب وإن صغر، هذا أمر خطير، وأمر كبير، لا تستهن بالذنب قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه"[صحيح، أخرجه أحمد في المسند (1/402)، والطبراني في الأوسط (2529) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (10/189) وقال: "رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجالهما رجال الصحيح غير عمران بن داود القطان وقد وثق"].
ماذا في مسلسل أجلس معه بعد القيام؟ ماذا في جلسة أجلسها على مقهى من المقاهي؟ ماذا لو دخلت غرفة من الغرف للدردشة مع فتاة شرقية أو غربية؟
ماذا لو جلست في مكان أجلس فيه على ناصية شارع من الشوارع والطرقات؟
لأنظر إلى هذه، وإلى تلك، ماذا لو قلت هذه الكلمة، ماذا لو صنعت كذا وكذا...، فيحقر الذنب وهو يراه صغيراً!.
وهذا عند الله -ورب الكعبة- كبير: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه".
ولله در عبد الله بن المبارك، إذ يقول:
رأيت الذنوب تميت القلوب | وقد يورث الذل إدمانها |
وترك الذنوب حياة القلوب | وخير لنفسك عصيانها |
خل الذنوب صغيرها | وكبيرها فهو التقى |
خل الذنوب: ابتعد عنها.
خل الذنوب صغيرها | وكبيرها فهو التقى |
وأصنع كماشٍ فوق أرض | الشوك يحذر ما رأى |
لا تحقرن صغيرة | إن الجبال من الحصى |
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا | تقل خلوت ولكن قل على رقيب |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة | ولا أن ما تخفيه عنه يغيب |
قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [المجادلة:7].
فكل شيء تفعله مسطر عليك في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى، وكل صغير وكبير مستطر، قال تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة: 8-7].
فالاستهانة بصغائر الذنوب من أخطر الأسباب التي تصيب القلب بالفتور؛ لأن للذنوب أثراً على القلب.
قال ابن عباس: "إن الطاعة نوراً في الوجه، إي والله إن الطاعة نوراً في الوجه، ونوراً في القلب، ونوراً في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية سواداً في الوجه، وظلمة في القلب والقبر، ووهناً في البدن، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق".
قال جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم:96].
أي: محبة ومكانة في قلوب عباده المؤمنين، اللهم اجعل لنا في قلوب المؤمنين وداً.
رابعاً: بإيجاز شديد جداً من أخطر أسباب الفتور: التخلي عن العمل لدين العزيز الغفور، العمل للدين يدفع الإنسان دفعاً للطاعة، ويثبت الله -سبحانه وتعالى- من يحمل هم الدين في قلبه، تراه حتى وهو على فراش نومه يحمل هم الدين، وربما تنحدر الدموع مدراراً على وجنتيه، وامرأته إلى جواره، ولا تشعر به يفكر في واقع الأمة، في الدماء التي تنزف، في الفلوجة، في الدماء التي تسفك على أرض فلسطين، في الدماء التي تسفك على أرض الشيشان، أو في أفغانستان.
فالدعوة إلى الله، ودين الله، وواقع الأمة همه في الليل والنهار، شغله في النوم واليقظة، ذكره في السر والعلانية، هذا الشعور الذي يحرك وجدانه، ويحرك جوارحه، في كل ساعات النهار، بل والليل؛ ليعمل لله -سبحانه-.
فتراه مذكراً لله تارة، تراه متململاً بين يدي الله كتململ العصفور المبلل بماء المطر تارة، تراه مذكراً للآخرين من زملاء العمل في الوظيفة تارة، تراه مذكراً لامرأته، تراه حريصاً على مجالس العلم، تراه حريصاً على إسعاد الفقراء والمساكين، تراه حريصاً على تكثير سواد المسلمين في محاضرة عامة، تراه حريصاً على لصق إعلان لخطبة أو لمحاضرة، المهم أن قضية الدين تملأ قلبه، وتحرك عليه وجدانه، وهي التي تشغل باله، وعقله، وجوارحه في الليل والنهار.
من أعظم الأسباب التي يثبت بها الله عبده على الطيبات والصالحات: أن يعمل لدين الله -تبارك وتعالى-، قال الله -جل وعلا-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) [العنكبوت:69].
والجهاد مراتب: جهاد النفس مراتب، أن تجاهد النفس؛ لتتعلم الحق هذا جهاد، وأن تجاهد النفس؛ لتعمل بالحق، وأن تجاهد النفس؛ لتبلغ الحق لأهل الأرض بحق، وأن تصبر بعد ذلك على الأذى؛ لأنك لو عملت بالحق، وبلغت الحق للناس، لابد أن تتعرض للأذى، فيجب عليك أن تصبر، قال جل جلاله: (وَالْعَصْر * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1- 2].
لابد لمن تواصى بالحق أن يستعد للمحن والفتن والابتلاءات، لأنها طبيعة الطريق، فيجب عليه أن يجاهد نفسه في تصبيرها على الحق.
جهاد الدعوة، جهاد الكلمة، جهاد البذل، صور عديدة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
خامساً: من أسباب الفتور الغفلة عن سنن الله في الكون.
فبعض العاملين للإسلام -وأنا أتحدث بصفة عامة عن الفتور-، بعض العاملين للإسلام يريد لحماسه الفَوَّار، وإخلاصه القوي أن يغير المجتمع في يوم وليلة، يريد أن يغير المجتمع: عقدياً وتعبدياً وأخلاقياً وسلوكياً، وهذا أمر جميل، لكنه يغفل عن سنن الله الكونية، يغفل عن ذلك، ويغفل عن أن الحق - تبارك وتعالى- قد أودع الكون سنناً ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير، وأن الله قد جعل لكل شيء آجلاً، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
فهو يريد أن يحول المجتمع في يوم وليلة إلى مجتمع إسلامي رباني نبوي دون مراعاة لهذه السنن، بطريقة هي إلى الوهم والخيال أقرب منها للحقيقة والواقع، فحين يعجز عن ذلك يصاب بالفتور، بل ربما بالإحباط، بل ربما باليأس والقنوط، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ضاعت الأمة، ضاع الدين، طالما دعونا، الناس لا يستجيبون، قضت الفضائيات على الناس، لقد انشغل الناس بالدنيا عن الدين، لقد ضاع الدين إلى غير رجعة، لقد سيطر الكفر على الأرض كلها، يا شيخ، لا تتعب نفسك، لا تتعب نفسك، أسعد نفسك وأولادك وفقط.
لقد أسمعت لو ناديت حيا | ولكن لا حياة لمن تنادي |
ولو ناراً نفخت بها أضاءت | ولكن أنت تنفخ في رمادي |
هلك الناس، وقد حذر النبي –صلى الله عليه وسلم- من هذه القضية المهزومة الخطيرة؛ كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم، أو فهو أهلكَهم"[أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي من قول: هلك الناس (2623/139)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب (85) رقم (4983)، وأحمد في المسند (2/517، 465)].
أي: هو الذي حكم عليهم بالهلاك، أو هو أشد الناس هلاكاً.
يصاب بالفتور، بل أحيانا باليأس والقنوط، كما هو حال كثير من العاملين الآن للإسلام بصفة عامة، ومن طلبة العلم بصفة خاصة ممن لم يفهموا إلى الآن سنن الله الثابتة في الكون، تلك السنن التي لا تجامل أحداً من الخلق بحال، مهما ادعى لنفسه من مقومات المجاملة أو المحاباة.
سادساً: هجر مجالس العلم، من أخطر أسباب الفتور أن يهجر المسلم مجالس العلم التي تجدد إيمانه وتقوي إرادته، وتنشط همته للعلم، لدين الله -تبارك وتعالى-.
ففي مجالس العلم تحصل من الأجر، والسكينة، والفضل، والعلم بالحلال والحرام، وتجديد الإيمان، ما لا يمكن البتة أن تحصله إن حبست نفسك في مكتبتك الخاصة؛ لتطالع من الكتب ما يسر الله لك أن تطالع.
فاحرص على مجالس العلم، واصطحب امرأتك، واصطحب بناتك وأولادك؛ لتتعلم في مجالس العلم الحلال والحرام؛ ولتتعرف على الحق والباطل.
فمن أعظم الأسباب التي يرفع الله لها همتك، ويقوي بها إرادتك؛ لتعمل لدين الله؛ ولتستمر على الطاعة: أن تكون في مجلس علم، يذكرك فيه عالم هذا المجلس بالله، وبرسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإن من أعظم البيئات التي يتجدد فيها إيمانك بيئة مجالس العلم، قال جل وعلا: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر:28].
قال جل وعلا: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11].
قال جل وعلا: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9].
سابعاً: من أسباب الفتور الخطيرة: عدم الترويح على النفس بالمباح، سبب رهيب قد لا يلتفت إليه كثير من أحبابنا وإخواننا، إذا دخل رمضان قام الليل بطوله، أو جل الليل، وشرع في قراءة القرآن؛ فقرأ في أول ليلة عشرة أجزاء، وهو لم يفعل ذلك، ولم يجاهد نفسه قبل ذلك على فعل ذلك، لكن هناك من إخواننا من أهل الفضل من يختم القرآن بالفعل، في كل ثلاث ليال مرة، وهذا أمر عادي وصار ديدنناً له، وصار ملازما له، لا يشعر في ذلك بثقل على نفسه.
بل صارت هذه سعادة نفسه، لكنني لا أتحدث عن الصنف الكريم، فالحديث ليس لهؤلاء، وإنما الحديث لهذا الذي فتر وانقطع عن هذا الخير، مع أنه لم يمرن نفسه على ذلك البتة، ثم بعد ذلك بعد أيام قليلة جداً، يصاب بفتور قاتل لا يصل إلى حد التراخي فحسب، بل قد يصل إلى حد الانقطاع عن هذا العمل الجليل المبارك.
القصد القصد، الاعتدال الاعتدال، روح عن نفسك بالمباحات، فلا إفراط ولا تفريط، والإفراط يعادل التفريط، والتفريط لا يقل خطراً عن الإفراط.
فإن كثيراً من الناس يقول: ساعة لقلبك، وساعة لربك، يقصد بساعة القلب، أن يطلق العنان في المعاصي.
لا بنص الحديث، ساعة لاعب فيها زوجتك يا أخي، داعب فيها أولادك، انشغل بالمال، انشغل بالتجارة، لا حرج عليك البتة.
بل أؤكد لك لو أنك انشغلت بامرأتك، وانشغلت بأولادك، وانشغلت بتجارتك، إن صححت النية فأنت في هذه اللحظات التي تسري بها عن نفسك، أنت في عبادة لرب البرية، تريد الدليل على ذلك.
خذ الدليل -أيها اللبيب- من قول البشير النذير، في صحيح مسلم [أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة (843)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته (595/142) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-] من حديث أبي ذر: أن ناساً أتوا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور -أي: ذهب أصحاب الأموال بالأجر- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم!.
فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أو ليس الله جعل لكم ما تصدقون به، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة".
اسمع: "وفي بضع أحدكم صدقة" والبضع لغة: هو الجماع أو الفرج ذاته: "وفي بضع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجرا؟!، قال: "أرأيتم لو وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟" قالوا: نعم قال: " ولو وضعها في الحلال فله فيها أجر"[أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006/53)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب صلاة الضحى (1285)، وأحمد في المسند (5/168، 167) من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-].
السبب الثامن: مصاحبة ذوي الهمم الضعيفة، والإرادات الدنية؛ يصيبك بالفتور، تصلي الفرض في جماعة ثم تخرج لتصاحب أو لتجالس رجلاً لا يصلي، فإذا أردت أن تقوم للفرض الآخر، فيقول لك: يا أخي صل هنا يا أخي، يا أخي والله أنا ما بصلي، يا أخي ده أنت في نعمة كبيرة.
تريد أن تخرج مائة جنيه يقول لك: يا أخي، اتق الله ادخر يا أخي، أنت متعرفش إيه اللي يحصل بكرة، تريد أن تذهب إلى التهجد مش صليت التراويح، تريد أن تلبس امرأتك النقاب، أو أن تغطي وجهها، كفاية كده، ده بركة الحمد لله، كفاية أنها مغطية جسدها.
مصاحبة ذوي الهم الضعيفة، والإرادات الدنيئة الدنية، يصيبك بالفتور، وأدناه التباطؤ عن العمل والانقطاع، وأعلاه الانقطاع عن العمل، عن الطاعة.
وهذه أخطر صور الفتور كما أصلت في أول اللقاء، فلا تصاحب إلا أصحاب الهمم العالية، لا تصاحب إلا أصحاب الإرادات القوية، واضرب مع أهل كل عبودية بسهم.
واضرب مع أهل كل عبودية بسهم، بمعنى: اصحب أهل الصلاح، واضرب معهم بسيف، واصحب أهل الإنفاق، واضرب معهم بسهم، واصحب أهل القيام، واضرب معهم بسهم، واصحب أهل الذكر، واضرب معهم بسهم.
وهكذا كلما صحبت أهل الفضل ممن فتح الله لهم أبواب العبودية، نظرت إليهم فاحتقرت عملك، واحتقرت نفسك، واحتقرت جهدك، فأكثرت من العمل، وزدت في الطاعة والعبادة، فإن صحبت الأخيار تنعكس عليك: "والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".
والنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي"[أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس (4832)، والترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في صحبة المؤمن (2395)، والدارمي في كتاب الأطعمة، باب من كره أن يطعم (2057)، وأحمد في المسند (3/83)، وصححه الحاكم في المستدرك (4/128)، ووافقه الذهبي كلهم من حديث أبي سعيد الخدري].
هذه بعض الأسباب على عجالة، بقى أن نتحدث عن العلاج أيضاً في عجالة، وذلك بعد جلسة الاستراحة.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا جميعا ممن: (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:18].
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم، وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة الكرام: بقى أن نتحدث عن العلاج لهذا الداء، فما هو الدواء؟
هذا هو محورنا الثالث أيضاً؛ ألا وهو العلاج في نقاط سريعة، وجرعات سريعة.
أولاً: أنك لن توفق للطاعة إلا بتوفيق الله لك، فالموفق من وفقه الله، والمخذول من خذله الله -نسأل الله أن يوفقنا جميعا لطاعته، إنه ولي ذلك ومولاه-.
روى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في السنن بسند صحيح من حديث أنس أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أراد الله" -انتبه- "إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله"، قيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: "يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه" [صحيح، أخرجه الترمذي في كتاب القدر، باب ما جاء أن الله كتب كتاباً لأهل الجنة وأهل النار (2142) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في المسند (3/120، 106)، وابن حيان في صحيحه في كتاب القدر، باب الأعمال بالخواتم (1821)].
.
اللهم استعملنا يا أرحم الراحمين.
"إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله" قيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: "يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه".
ثانيا: القصد والاعتدال في الطاعات، بلا إفراط أو تفريط، فخير الأمور الوسط؛ روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وابشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة" [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر (39)، والنسائي في كتاب الإيمان باب الدين يسر (5049) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-].
وفي الصحيحين من حديث أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد يوماً، فوجد حبلاً مربوطاً بين ساريتين -أي: بين عمودين-، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "ما هذا"؟ قالوا: حبل لزينب إذا فترت تعلقت به، لا إله إلا الله، أم المؤمنين ربطت الحبل، تقف تصلي، إذا فترت تعبت، أحست بشيء من التكاسل أو التراخي تتعلق بالحبل؛ لتقيم نفسها بين يدي الرب، فماذا قال الحبيب –صلى الله عليه وسلم-؟ قال: "حلوه حلوه" ثم قال: "ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد" [أخرجه البخاري في كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة (1150)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك (784/219)، والنسائي في كتاب قيام الليل، باب الاختلاف على عائشة في إحياء الليل (1642)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في طول القيام في الصلوات (1419) كلهم من حديث عائشة -= - رضي الله عنها -].
انظروا إلى الهدى، انظروا إلى التشريع: "ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد".
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم-، يسألون عن عبادته، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها فقالوا: أين نحن من رسول الله، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: أما أنا أصوم الدهر ولا أفطر أبداً، وقال الثالث: وأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، فلما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- بخبرهم، قال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" [أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (5360)
ثالثاً: التدرج في الطاعة، لكن افهم معنى التدرج، فبعض الناس يظن أن التدرج هو أن يصلي مثلاً الفرائض، وأن يؤجل الصيام حتى يتقن الصلاة، هذا خلل في فهم التدرج، لكن التدرج معناه أن تبدأ بالأسهل فالأسهل، وبالأحب إلى قلبك، أن تبدأ مثلاً قيام الليل إن كنت ممن لا يقومون الليل، أن تبدأ بركعة، أو أن تبدأ بثلاث ركعات، وهكذا وهكذا.. حتى تصلي إحدى عشر ركعة، أو تبدأ بالأحب إلى قلبك.
فتح الله لك باب الدعوة إلى الله، ابدأ بالدعوة إلى الله، فتح الله لك باب الذكر، ابدأ بالذكر، إن فتح الله لك باب الإحسان للفقراء، ابدأ بهذا الباب، افتح هذا الباب؛ ليفتح الله - عز وجل - لك بعده أبواباً أخرى -فضل الله عظيم-: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
لكن لابد من أن تعي التدرج، قالت عائشة -والحديث في البخاري-: "إن أول ما أُنزل من القرآن سورة فيها ذكر للجنة والنار، حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، لا تزنوا، لا تشربوا الخمر، تقول: ولو نزل أول ما نزل: لا تشربوا الخمر، ولا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الخمر، ولا الزنا أبدا"[أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن (4993)].
وهذا ما فهمه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، حين جاءه ولده البار عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز شاب في ريعان شبابه -لم يبلغ السابعة عشرة من عمره-، لما تولى والده الخلافة، وبويع في المسجد، وذهب عمر بن عبد العزيز ليستريح قليلاً، فذهب إليه ولده وقال: يا أبت، يا أبت، ماذا تصنع تنام قبل أن ترد المظالم إلى أهلها، ما لي أراك لا تحمل الناس على الحق؟ ثم قال الولد -بحماس فوار وإخلاص كبير-: والله لا أبالي إن غلت القدور بي وبك في الله -يعني لا أبالي إن وضعت أنا وأنت في قدر يغلي فيه ماء أو زيت-، ما دام عملنا لله.
فقال عمر بن عبد العزيز العالم الفقيه الراشد: "يا بني، لا تعجل إن الله -جل وعلا- ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة واحدة؛ فيدعوا الحق جملة واحدة، فتكون فتنة" -هذا هو الفهم-.
رابعاً: صحبة الأخيار من أصحاب الهمم العالية، وقد ذكرت ذلك بإيجاز شديد، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري أن الحبيب النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير" [أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب في العطار وبيع المسك (1101)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالس الصالحين، ومجانبة قرناء السوء (2628/146) من حديث أبي موسى].
وقال علي بن المديني -إمام الجرح والتعديل-: "لقد أعز الله الدين بأبي بكر يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة".
فإن من الناس ناساً تذكرك وجوههم بالله، ناهيك عن كلماتهم وأفعالهم، وإن من الناس ناساً تذكرك وجوههم بالشيطان، وبالمعاصي، وتستثير كلماتهم شهواتك الكامنة، وتحرك كلماتهم ووجوههم وكلماتهم غرائزك الهاجعة، فإياك أن تصحب هؤلاء، واصحب الأخيار الأطهار الأبرار، ممن يذكرونك بالعزيز الغفار، ويذكرونك بمنهج النبي المختار –صلى الله عليه وسلم-.
سادساً: عمل اليوم والليلة من الأذكار، والصلوات، والقرآن، والذكر، والاستغفار، إلى غير ذلك...
المحافظة على الصلوات في جماعة، المحافظة على الورد اليومي للقرآن، المحافظة على أذكار الصباح والمساء، والذكر المطلق، المحافظة والمداومة على الاستغفار في السحر؛ لتكتب عند الله من المستغفرين بالأسحار، المحافظة على التذلل، والتضرع، والتزلف، والدعاء لرب الأرض والسماء، المحافظة على عمل اليوم والليلة!.
فما تقرب إلى الله -جل وعلا- عبد بأحب مما أفترض الله -تبارك وتعالى– عليه؛ كما في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبد بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" [أخرجه البخاري في كتاب الرقائق باب التواضع].
سابعاً: ذكر الجنة والنار، إن ذكرت الجنة هان عليك كل شيء، وإن ذكرت النار هربت من كل معصية، فأكثر من ذكر الجنة والنار؛ لتعمل من أجل الجنة، ولتفر من أجل النار.
فالفرار نوعان: فرار السعداء، وفرار الأشقياء، فرار السعداء هو الفرار إلى الله بطاعته، وفرار الأشقياء هو الفرار من الله، والإعراض عن طاعته، قال جل وعلا: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) [الذاريات: 50].
ففر إلى الله بالطاعة؛ لتكون من أهل الجنة، وفر إلى الله بالبعد عن المعصية؛ لينجيك الله -جل وعلا- من النار.
ثامناً: فهم السنن الربانية في الكون، حتى لا تصطدم مع أول محنة أو فتنة، فإن تعرضت الأمة إلى أزمة في فلسطين، أو لأزمة في العراق، أو لأزمة في أفغانستان، فلتنظر نظرة أعمق، ونظرة أشمل، ونظرة أوسع إلى واقع الأمة كلها، فالإسلام ما ضاع ولن يضيع، الأمة مرضت لكنها ما ماتت، ولن تموت؛ لأنها الأمة الخاتمة التي شرفها الله بحمل الرسالة الخاتمة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إنما هي جولة من جولات الصراع، ودولة من دولات الحرب بين الحق والباطل، قال جل وعلا: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140].
تاسعاً: المحافظة على مجلس من مجالس العلم؛ لتجدد فيه إيمانك، وليتجدد فيه معرفتك بالله، وبرسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وبالحلال والحرام.
أنفق من وقتك، بل أنفق من مالك، بل أنفق من عرقك وجهدك، لتسافر هنا أو هنالك لعالم رباني، أو لداعية من الدعاة الصادقين ممن يذكرونك برب العالمين، ويقربونك من منهج سيد النبيين –صلى الله عليه وسلم-.
وأخيراً -أيها الأحبة: أكثروا من ذكر الموت، وزورا المقابر من آن لآخر، فإن هذا يذكرنا بالله ويذكرنا بالآخرة، قال صلى الله عليه وسلم؛ كما في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث أنس: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع الله عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له" [أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، باب (30) رقم (3465)].
وأخيراً: وصية الختام:
وهي وصية سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لأبي عمرة سفيان بن عبد الله، وحديثه في صحيح مسلم قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، أو لا أسأل عنه أحداً بعدك؟، فقال له المعلم والمربي صلى الله عليه وسلم: "قل آمنت بالله ثم استقم".
أيها الصائم، أيها القائم، أيها الذاكر، أيها المستغفر في السحر، أيها المتصدق في النهار، أيها التائب المجدد للتوبة، في كل أيام رمضان: "قل: آمنت بالله ثم استقم".
قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) [فصلت: 32- 30].