العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وَالْجِوَارُ فِي الإِسْلاَمِ لَهُ حُقُوقٌ وَأَحْكَامٌ، وَمِنْ كَثْرَتِهَا أَفْرَدَهَا بَعْضُ العْلُمَاءِ بِأَبْوَابٍ وَمُصَنَّفَاتٍ، تَجْمَعُ نُصُوصَهَا الْكَثِيرَةَ، وَتُفَصِّلُ أَحْكَامَهَا الْغَزِيرَةَ. وَالْجَارُ هُوَ النَّزِيلُ بِقُرْبِ مَنْزِلِكِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّزِيلِ بَيْنَ الْقَبِيلَةِ فِي جِوَارِهَا. وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ سَبَبٌ لأَدَائِهِ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ بِهِ سَبَبٌ لانْتِهَاكِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْحُقُوقِ لاَ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ أَدَائِهَا إِلاَّ جَهْلُهُمْ بِهَا؛ وَلِذَا كَانَ مِنَ الكِيَاسَةِ وَالْفِطْنَةِ، وَإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ: مَعْرِفَةُ الْحُقُوقِ وَتَعَلُّمُهَا، مِنْ أَجْلِ أَدَائِهَا لأَهْلِهَا.
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ، الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ؛ دَلَّ عِبَادَهُ عَلَى صَالِحِ الأَخْلاَقِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء: 53]، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [فصلت: 34]، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا عَلَّمَنَا وَهَدَانَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَوْلانَا وَأَعْطَانَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ عَظَّمَ حَقَّ الْجَارِ، وَأَكْثَرَ فِيهِ الْمَقَالَ، وَكَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ شَرِيكًا فِي الْمَالِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَحْسَنَ إِلَى جِيرَانِهِ بِمَا لَمْ يُحْسِنْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ، فَسَدَّ خَلَّتَهُمْ، وَوَاسَاهُمْ فِي مِحْنَتِهِمْ، وَعَادَ مَرِيضَهُمْ، وَاتَّبَعَ جَنَائِزَهُمْ، وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُمْ، وَاجْتَهَدَ فِي هُدَاهُمْ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى أَمْرِهِ، وَخُذُوا بِكُلِّ شَرْعِهِ؛ فَإِنَّ شُعَبَ الإيمَانِ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّ مَجَالاَتِ الْعِبَادَةِ وَاسِعَةٌ، فَلَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ مِنْ نَوَافِلِ الصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الذِّكْرِ، بَلْ كُلُّ الْحُقُوقِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْعَلاَقَةِ بَيْنَ النَّاسِ مَحْكُومَةٌ بِالشَّرِيعَةِ وَهِيَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ لاَ تَنْفَكُّ عَنِ الْمُؤْمِنِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كُلِّهَا، فَإِمَّا كَانَتْ لَهُ وَإِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
أَيُّهَا النَّاسُ: بُنِيَ الْفِكْرُ الْغَرْبِيُّ الْحَدِيثُ عَلَى الْفَرْدِيَّةِ، وَأَسَّسَ مَا سُمِّيَ بِحُقُوقِ الإِنْسَانِ، وَهِيَ تُكَرِّسُ الْفَرْدِيَّةَ وَالأَنَانِيَّةَ؛ لأَنَّهَا تَتَحَدَّثُ عَنْ حَقِ الإِنْسَانِ الْفَرْدِ؛ فَلاَ حُقُوقَ فِيهَا لِلْوَالِدَيْنِ وَلاَ الأَرْحَامِ وَلاَ الْجِيرَانِ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِيهَا لِلإِنْسَانِ لِكَوْنِهِ إِنْسَانًا فَقَطْ، بَيْنَمَا جَاءَ الإِسْلاَمُ بِحُقُوقِ الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ، فَالِحُقُوقُ فِي الإِسْلامِ لَيْسَتْ لِلإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلنَّاسِ، وَكُلُّ النَّاسِ لَهُمْ حُقُوقٌ عَلَى الإِنْسَانِ فِي الإِسْلامِ، وَتَزِيدُ هَذِهِ الْحُقُوقُ وَتَعْظُمُ، أَوْ تَنْقُصُ وَتَضْعُفُ بِحَسَبِ قُرْبِ مَنْ لَهُ حَقٌّ أَوْ بُعْدِهِ.
وَالْجِوَارُ فِي الإِسْلاَمِ لَهُ حُقُوقٌ وَأَحْكَامٌ، وَمِنْ كَثْرَتِهَا أَفْرَدَهَا بَعْضُ العْلُمَاءِ بِأَبْوَابٍ وَمُصَنَّفَاتٍ، تَجْمَعُ نُصُوصَهَا الْكَثِيرَةَ، وَتُفَصِّلُ أَحْكَامَهَا الْغَزِيرَةَ. وَالْجَارُ هُوَ النَّزِيلُ بِقُرْبِ مَنْزِلِكِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّزِيلِ بَيْنَ الْقَبِيلَةِ فِي جِوَارِهَا.
وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ سَبَبٌ لأَدَائِهِ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ بِهِ سَبَبٌ لانْتِهَاكِهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْحُقُوقِ لاَ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ أَدَائِهَا إِلاَّ جَهْلُهُمْ بِهَا؛ وَلِذَا كَانَ مِنَ الكِيَاسَةِ وَالْفِطْنَةِ، وَإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ: مَعْرِفَةُ الْحُقُوقِ وَتَعَلُّمُهَا، مِنْ أَجْلِ أَدَائِهَا لأَهْلِهَا.
وَمَعْرِفَةُ مَنْ هُوَ الْجَارُ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ يُعِينُ عَلَى أَدَاءِ حَقِّهِ لَهُ، وَلاَ يَصِحُّ فِي حَدِّ الْجَارِ حَدِيثٌ، وَلَكِنْ جَاءَ فِيهِ آثَارٌ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ بَيْتًا، فَقِيل: أَرْبَعُونَ بَيْتًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَقِيلَ: عَشَرَةُ بُيُوتٍ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَقِيلَ: الْجَارُ الْمُلاَصِقُ، وَقِيلَ: كُلُّ مَنْ جَمَعَهُمْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ فَهُمْ جِيرَانٌ كَثُرُوا أَمْ قَلُّوا، أَوْ مَنْ سَمِعُوا النِّدَاءَ. وَهَذَا التَّبَايُنُ فِي حَدِّ الْجَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْدِيدَهُ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ نَصٍّ صَحِيحٍ صَرِيحٍ فِيهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ مُؤَقّتٌ فِي ذَلِكَ، وَمَرَدُّهُ إِلَى الْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَمَا تَعَارَفَ عَلَيْهِ النَّاسُ أَنَّهُ جَارٌ فَهُوَ جَارٌ، وَالْعِبْرَةُ بِأَكْثَرِهِمْ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ أَحْوَالَ النَّاسِ تَتَغَيَّرُ؛ فَقَدِيمًا كَانَتِ الْحَارَاتُ صَغِيرَةً، وَالْبُيُوتُ مُجْتَمِعَةً، وَيَرَى الْجِيرَانُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَيَجْمَعُهُمْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ، وَفِي الْقُرَى وَالْبُلْدَانِ الصَّغِيرَةِ يَجْمَعُهُمْ سُوقٌ وَاحِدٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْجِوَارُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الصَّغِيرَةِ مِنْهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً) [الأحزاب: 60].
وَالظَّاهِرُ مِنَ النُّصُوصِ أَنَّهُ كُلَّمَا قَرُبَ الْجَارُ مِنْكَ تَأَكَّدَ حَقُّهُ، وَالْبَعِيدَةُ دَارُهُ عَنْكَ أَقَّلُّ حَقًّا مِمَّنْ دَارُهُ قَرِيبَةٌ. وَعِنْدَ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجَةِ جَارَةً لِقُرْبِهَا مِنْ زَوْجِهَا؛ فَهِيَ تُسَاكِنُهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- تَعَالَى: "وَالْجِيرَةُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَلْصَقُ مِنْ بَعْضٍ، أَدْنَاهَا الزَّوْجَةُ". اهـ. وَعَلَيْهِ فَكُلَّمَا كَانَ الْجَارُ أَقْرَبَ بَابًا كَانَ آكَدَ حَقًّا.
وَحُجَّةُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟! قَالَ: "إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الأَقْرَبَ بَابًا يَرَى مَا يَدْخُلُ بَيْتَ جَارِهِ مِنْ هَدِيَّةٍ وَغَيْرِهَا، فَيَتَشَوَّفُ إِلَيْهَا، بِخِلاَفِ الأَبْعَدِ، وَقَدْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُهْدِيَ لِجَمِيعِ جِيرَانِهِ.
وَلِهَذَا التَّقْرِيرِ فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ: وَهِيَ أَنَّ مَنْ يَسْكُنُونَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ غُرْفَةٍ وَاحِدَةٍ كَالطُّلاَّبِ وَالْعُمَّالِ وَنَحْوِهِمْ فَهُمْ جِيرَانٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لاَ بُدَّ أَنْ يُرَاعِيَ حَقَّ مَنْ يُسَاكِنُهُ؛ لأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ مُجَاوَرَةً لَهُ، فَهُوَ أَوْلَى بِحُقُوقِ الْجَارِ. وَيَكُونُ التَّجَاوُرُ بِالْغُرَفِ وَنَحْوِهَا كَمَا يَكُونُ بِالْبُيُوتِ، وَهَذَا مَعْنًى يَغِيبُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَلاَ يَلْتَفِتُ إِلَى حُقُوقِ مَنْ يُسَاكِنُهُ فِي الْبَيْتِ أَوْ فِي الْغُرْفَةِ.
سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَمَّنْ يَطْبُخُ قَدْرًا وَهُوَ فِي دَارِ السَّبِيلِ، وَمَعَهُ فِي الدَّارِ نَحْوُ ثَلاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ نَفْسًا: يَعْنِي أَنَّهُمْ سُكَّانٌ مَعَهُ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: "يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ، وَبِمَنْ يَعُولُ، فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ، أُعْطِيَ الأَقْرَبُ إِلَيْهِ، وَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ كُلَّهُمْ؟! قِيلَ لَهُ: لَعَلَّ الَّذِي هُوَ جَارُهُ يَتَهَاوَنُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ مَوْقِعٌ؟! فَرَأَى أَنَّهُ لا يُبْعَثُ إِلَيْهِ".
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْصُرُ حُقُوقَ الْجِيرَانِ فِي جِوَارِ الدَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْهُومَ الْجِوَارِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ؛ إِذْ تَتَنَاوَلُ حُقُوقُ الْجَارِ الْمُتَجَاوِرِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَجْمَعُهُمْ كَالْبَاعَةِ فِي السُّوقِ، وَأَهْلِ الْمَزَارِعِ وَالْبَسَاتِينِ، وَالاسْتِرَاحَاتِ، وَالْوَظَائِفِ وَالْمَدَارِسِ وَنَحْوِهَا.
وَكَذَلِكَ تَسْرِي حُقُوقُ الْجَارِ عَلَى مَنْ كَانَ جِوَارُهُمْ مُؤَقَّتًا وَلَيْسَ دَائِمًا كَالْمُتَجَاوِرِينَ فِي مَقَاعِدِ الطَّائِرَةِ أَوِ الْحَافِلَةِ أَوِ الْقِطَارِ أَوِ الْبَاخِرَةِ فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ.
وَهَذَا الْعُمُومُ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ النُّصُوصِ وَمِنْ كَلاَمِ الْعَرَبِ فِي الْجَارِ، وَإِنْ كَانَ جَارُ الدَّارِ هُوَ الأَصْلَ، وَهُوَ الأَوْلَى بِالْحُقُوقِ؛ لِطُولِ الْجِوَارِ فِي الْغَالِبِ.
وَفَائِدَةُ الْعِلْمِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ: أَنْ يَحْتَسِبَ الْعَبْدُ فِي أَدَاءِ حُقُوقِ الْجَارِ لِكُلِّ مَنْ جَاوَرَهُ، فَيَنَالَ فَضْلَ إِكْرَامِ الْجَارِ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَيَحْذَرَ مِنْ أَذِيَّتِهِ؛ خَوْفًا مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ عَمِلَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَاحْتَسَبُوا لَحَازُوا أَجْرًا كَبِيرًا، وَلَحَسُنَتْ أَخْلاقُهُمْ وَمُعَامَلاتُهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَلُّوا فِيهِ.
وَحُقُوقُ الْجَارِ تُبْذَلُ لَهُ وَيَسْتَحِقُّهَا بِوَصْفِ الْجِوَارِ فَقَطْ، أَيْ: بِكَوْنِهِ جَارًا، لاَ بِوَصْفٍ آخَرَ يَلْزَمُ مَعَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ النُّصُوصِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَاسْمُ الْجَارِ يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ، وَالصَّدِيقَ وَالْعَدُوَّ، وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ، وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَالْقَرِيبَ وَالأَجْنَبِيَّ، وَالأَقْرَبَ دَارًا وَالأَبْعَدَ، وَلَهُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَأَعْلاهَا مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الأُوَلُ كُلُّهَا -يُرِيدُ الصِّفَاتِ الحَسَنَةَ- ثُمَّ أَكْثَرُهَا، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى الْوَاحِدِ. وَعَكْسُهُ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الأُخْرَى كَذَلِكَ -أَي: الصِّفَاتُ السَّيِّئَةُ- فَيُعْطَى كُلٌّ حَقَّهُ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَقَدْ تَتَعَارَضُ صِفَتَانِ فَأَكْثَرُ فَيُرَجِّحُ أَوْ يُسَاوِي". اهـ.
وَهَذَا كَلامٌ مَتِينٌ يُرَتِّبُ حُقُوقَ الْجِيرَانِ بِحَسَبِ مَا فِيهِمْ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَمَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ كُلُّ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ يَبْقَى لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ لاَ يُبْخَسُ لِقُبْحِ صِفَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَارُ ذُو الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ أَوْلَى بِالْحُقُوقِ مِنْهُ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا لَنَا وَمَا عَلَيْنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمْنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ يُؤَدِّي الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَدُّوا الْحُقُوقَ الَّتِي عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ التَّقَاضِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فِي كِتَابٍ (لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَنْ قَرَأَ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي الْجَارِ عَلِمَ مَنْزِلَتَهُ فِي شَرْعِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ لَهُ حُقُوقًا لاَ بُدَّ أَنْ يُوَفَّاهَا، وَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى حَقَّ الْجَارِ بِحَقِّهِ سُبْحَانَهُ مَعَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْقَرَابَةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ بَيَانًا فِي عِظَمِ حَقِّ الْجَارِ عِنْدَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) [النساء:36].
وَالْجَارُ ذُو الْقُرْبَى: هُوَ مَنْ لَهُ بِهِ قَرَابَةٌ، فَلَهُ حَقُّ الرَّحِمِ وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَالْجَارُ الْجُنُبُ: مَنْ لاَ قَرَابَةَ لَهُ بِهِ فَلَهُ حَقُّ الْجِوَارِ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَهْلِي أُرِيدُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِذَا أَنَا بِهِ قَائِمٌ، وَإِذَا رَجُلٌ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُمَا حَاجَةً، فَجَلَسْتُ، فَوَاللهِ لَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: لَقَدْ قَامَ بِكَ هَذَا الرَّجُلُ، حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَكَ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، قَالَ: "أَتَدْرِي مَنْ هَذَا؟!"، قُلْتُ: لاَ، قَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ سَلَّمْتَ عَلَيْهِ لَرَدَّ عَلَيْكَ السَّلاَمَ".
فَتَأَمَّلُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَكَيْفَ أَنَّ الْجَارَ قَرِيبٌ مِنْ جَارِهِ حَتَّى كَادَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَثَتِهِ مِنْ شِدَّةِ قُرْبِهِ مِنْهُ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ أَطَالَ الْقِيَامَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوصِيهِ بِالْجَارِ حَتَّى أَشْفَقَ الصَّحَابِيُّ عَلَيْهِ مِنْ طُولِ قِيَامِهِ! أَبَعْدَ هَذَا يُقَصِّرُ النَّاسُ فِي حُقُوقِ جِيرَانِهِمْ؟!
قَالَ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَإِنَّمَا جَاءَ الْحَدِيثُ فِي هَذَا الأُسْلُوبِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حِفْظِ حُقُوقِ الْجَارِ، وَعَدَمِ الإِسَاءَةِ إِلَيْهِ؛ حَيْثُ أَنْزَلَهُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْزِلَةَ الْوَارِثِ؛ تَعْظِيمًا لِحَقِّهِ، وَوُجُوبِ الإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ الإِسْاَءَةِ إِلَيْهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الأَذَى".
وَلَنْ يَنَالَ عَبْدٌ كَمَالَ الإِيمَانِ إِلاَّ بِإِكْرَامِ الْجَارِ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ...". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ". قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "مَنِ الْتَزَمَ شَرَائِعَ الإِسْلامِ لَزِمَهُ إِكْرَامُ جَارِهِ".
وَالإِكْرَامُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ لَمْ يُعَيَّنْ بِشَيْءٍ، بَلْ جَاءَ مُطْلَقًا، وَكُلُّ شَيْءٍ يَأْتِي مُطْلَقاً فِي الشَّرِيعَةِ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، فَمَا عُدَّ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ إِكْرَامٌ فَهُوَ إِكْرَامٌ، وَمَا عُدَّ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ لَيْسَ إِكْرَامًا فَلَيْسَ بِإِكْرَامٍ. وَهَذَا يَفْتَحُ مَجَالاً وَاسِعًا لإِكْرَامِ الْجَارِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَفَضْلُ اللهِ تَعَالَى وَاسِعٌ.
كُلُّ مَا سَبَقَ يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْعِنَايَةِ بِالْجِيرَانِ، وَأَدَاءِ حُقُوقِهِمْ، وَاجْتِنَابِ أَيِّ أَذًى لَهُمْ، فَمَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ مَعَ اسْتِكْمَالِهِ شَعَائِرَ الإِسْلاَمِ رُجِيَ لَهُ كَمَالُ الإِيمَانِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا...