الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | محمد راتب النابلسي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الربانيَّة حياةُ النفس، الربانية سعادةٌ أبديَّة، الربانية سلامة وسعادة في الدنيا والآخرة. بشكلٍ أو بآخر الناس رجلان: رباني وشهواني، مؤمنٌ وكافر، خيرٌ وشرير، مُنصفٌ وجاحد، مخلصٌ وخائن، مستقيمٌ ومنحرف، هذه الاثنينيَّة، إن لم تكن على أحد الخطين فأنت على الآخر حتماً: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) [القصص: 50].
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين أمناء دعوته وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمنا، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون: يقول الله -جلَّ جلاله- في كتابه العزيز: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران: 79]. كونوا ربَّانيين، وكل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تكن قرينةٌ على خلاف ذلك، يجب أن نكون ربَّانيين.
أيها الإخوة الكرام: من أدق تعريفات الربَّاني: من كان حسن العلاقة بالله، هناك إنسان ربَّاني وهناك إنسان شهواني، الذي يستجيب لغرائزه شهواني، والذي يستجيب لربِّه ربَّاني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24].
الربانيَّة حياةُ النفس، الربانية سعادةٌ أبديَّة، الربانية سلامة وسعادة في الدنيا والآخرة.
يا أيها الإخوة الكرام: بشكلٍ أو بآخر الناس رجلان: رباني وشهواني، مؤمنٌ وكافر، خيرٌ وشرير، مُنصفٌ وجاحد، مخلصٌ وخائن، مستقيمٌ ومنحرف، هذه الاثنينيَّة، إن لم تكن على أحد الخطين فأنت على الآخر حتماً: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) [القصص: 50].
هناك خطَّان لا ثالث لهما، حقق وباطل، ربَّاني وشهواني، مستقيمٌ ومنحرف، صادقٌ وكاذب، محسنٌ ومسيء، خطَّانِ إن لم تكن على أحدهما فأنت على الثاني حتماً، وليس هناك حلٌ وسط، إنسانٌ عرف الله، فاتبع منهجه، وأحسن إلى خلقه، واتصل به، فسعد في الدنيا والآخرة، وإنسانٌ غفل عن ربه، وتفلَّت من منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقي في الدنيا والآخرة ولن تجد رجلاً ثالثاً، هذا هو التقسيم القُرآني، هذا هو التقسيم الواقعي، هذا هو التقسيم الذي من عند خالق البشر.
أيها الإخوة الكرام: الرباني -والحديث عن الربَّاني محور هذه الخطبة- الرباني أولاً هو موحِّد، فالحياة الربانية من مقوِّماتها التوحيد، أو أحد خصائصها الكبرى هي التوحيد، والتوحيد إفراد الله بالعبادة والاستعانة، إياك نعبد وإياك نستعين، وهي الخضوع والحب، واجتناب الشِرك، اجتناب أن يُعبد غير الله؛ بشراً، أو جناً، أو حيواناً كالبقر، أو حجراً، أو شيطاناً، أو وَلياً، حينما يُعبد غير الله، أية جهة تُعبد من دون الله شركٌ وهو مما حُرِّم على الإنسان، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "شر إلهٍ عُبِدَ في الأرض الهوى". (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية: 23].
وأن لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، المشرِّع هو الله، والهدف والقصد هو الله، ونحن رفقاء على الطريق: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) [الفرقان: 27]، مع الرسول، النبي -عليه الصلاة والسلام- رفيق الدرب إلى الله -عزَّ وجل-، الوجهة لله، والإخلاص لله، والحُب لله، والخضوع لله، وأي إنسانٍ يدعوك إلى الله، ويبيِّن لك، ويقرِّبك هو رفيقٌ على دربك إلى الله.
أيها الإخوة الكرام: الذي أفسد الحياة الروحية عند المسلمين ليس هو الإلحاد، الإلحاد دائرته ضيِّقةٌ جداً، الذي أفسد الحياة الروحيَّة هو الشرك: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ: يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلا قَمَرًا وَلا وَثَنًا، وَلَكِنْ أَعْمَالاً لِغَيْرِ اللَّهِ وَشَهْوَةً خَفِيَّةً". من سنن ابن ماجه عن شداد بن أوس.
يا أيها الإخوة الكرام: من آيات التوحيد، المعنى الأول الذي تؤيِّده الآية: أن لا يبتغي الربَّاني غير الله رباً: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام: 164]، لا يبغي المؤمن غير الله ولياً: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام: 14]، لا يبتغي المؤمن غير الله حكماً: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً) [الأنعام: 114]، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء: 65]. يحكِّموك في حياتك، ويحتكموا إلى سُنَّتِكَ بعد مماتك، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) النساء: 65].
الآية الرابعة: أن لا يبتغي غير رضا ربه غايةً: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162].
التوحيد -أيها الإخوة- أحد خصائص الإنسان الربَّاني: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) [آل عمران: 79].
التوحيد أحد مقوِّمات الرباني، أحد خصائص الرباني، وهناك خصيصةٌ ثانية لهذا الإنسان الرباني الذي أثنى الله عليه، بل أمرنا أن نكون مِثاله، الحياة الربانية تقتضي الاتباع لا الابتداع.
يا أيها الإخوة المؤمنون: حياة المؤمن ليست حياةً هلاميةً رجراجةً يشكِّلها الناس بما يشاؤون وكيف يشاؤون، ولكنها حياةٌ منضبطةٌ بأحكام الشرع الإلهي، حياة الناس اليوم رجراجة، زئبقيَّة، أصبحت غازيَّة، الأشياء الجامدة لها شكلٌ وحجمٌ مُعَيَّنان، والأشياء السائلة لها حجمٌ ثابت وشكلٌ مختلف، ولكن الأشياء الغازيَّة حجمها مختلف وشكلها مختلف، ويكاد الإسلام عند التائهين والشاردين، والمنتفعين والمتاجرين يصبح غازاً، يسري في كل شيء، ويتقولب مع كل شيء، ويقبل كل شيء، ويهبط إلى أية مستوى، ويلبِّي أية رغبة ولو كانت خسيسة.
أيها الإخوة الكرام: الحياة الربانية ليست مادةً هلاميَّة، ولا مادةً رجراجة يشكِّلها الناس كما يشاؤون، وكيفما يشاؤون ولكنها حياةٌ منضبطةٌ بأحكام الشرع الإلهي، جوهر هذه الحياة الربانية حُسن الصلة بالله، بذكره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) الأحزاب:41]، شكره: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) إبراهيم 7]، وحُسْنِ الاتصال به، وحسن عبادته، هذه الصلة -أيها الإخوة- مضبوطةٌ بأصلين اثنين: العبادة لله وحده، وأن يُعبد الله بما شرَّع لا وفق أمزجتنا وعقولنا الساذجة.
والإمام الفضيل -رحمه الله تعالى- سُئل عن العمل الصالح فقال: "ما كان خالصاً وصواباً"، قيل: ما خالصٌ، وما صواب؟! قال: "الخالص ما ابتغي به وجه الله، والصواب ما وافق السنة".
شرعيَّة العبادة -أيها الإخوة- لا تُستمد من تحسين العقل، ولا من تزيين الهوى، بل من الوحي وحده، أو من الوحيين الكتاب والسنة وحدهما. يقول -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ". من صحيح البخاري عن السيدة عائشة.
"فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ؛ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ". من سنن ابن ماجه عن العرباض بن سارية.
الربَّاني موحِّد، والرباني مُتَّبِع: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)، يقابل الربَّاني الشهواني.
يا أيها الإخوة الكرام: خصيصةٌ ثالثة من خصائص الرجل الرباني: الاستمرار، العبادة عنده ليست وَمَضات، وليست نَوْبَات، وليست مواسم، أرأيت إلى بعض المسلمين يعبدونه في رمضان، فإذا خرجوا من رمضان عادوا إلى ما كانوا عليه:
رمضان ولىَّ هاتها يا ساقي
العبادة مستمرَّة، نعم هناك عبادة العمر وهي الحج كإلزام، أما كنفل: "إذا أصححت لعبدي جسمه، ووسَّعت عليه في المعيشة، فأتت عليه خمسة أعوامٍ لم يفد إليَّ لمحروم"، أما كإلزام عبادة العمر: "مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". من مسند أحمد عن أبي هريرة.
وهناك عبادةٌ في كل عام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، شِحْنَةٌ تكفيك سنة، وهناك عبادةٌ في كل أسبوع وهي خطبة الجمعة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ).
قال المفسرون: "ذِكر الله الخطبة". فاسعوا إلى المسجد مبكرين كي تستمعوا إلى الخطبة؛ لأن خطبة الجمعة هي العبادة التعليميَّة الوحيدة، وهناك عبادةٌ يوميَّةٌ هي الصلوات الخمس، كل صلاةٍ تُشحن بها إلى الصلاة التي بعدها، ولكن هناك عبادةً مستمرَّة؛ أن تذكر الله ذكراً كثيرًا: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)، و(الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ).
بالذكر والدعاء، فالخاصَّة الثالثة من خصائص الرباني أنه مستمرٌ في عباداته، مع أن هناك عبادة العمر، وهناك عبادة العام، وهناك عبادة الشهر، والأسبوع، واليوم، لكنه بالذِكر والدعاء يعبُد الله دائماً.
يا أيها الإخوة الأكارم: ومن خصيصة الرباني، إحدى خصائصه الكبرى أن منهجه يتَّسم باليُسر والسَعَة.
يا أيها الإخوة الكرام: حياة الرباني الروحيَّة على الرغم من امتدادها، وشمولها، واستمرارها حياةٌ سهلةٌ ميسَّرة، لا تكلِّف الإنسان شططاً، ولا تُرهقه عُسراً، وهو غير مكلفٍ إلا بما في وسعه، ولا مطالبٍ إلا بما يستطيع، ولكن هذا الوسع وتلك الاستطاعة حدَّدها ربنا -جلَّ جلاله- في قرآنه الكريم، وحدَّدها النبي -عليه الصلاة والسلام- في سنته المطهَّرة، لا يحدد الوسع الإنسان، يحدِّد الوسع خالق الإنسان: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
يا أيها الإخوة الكرام: منهج الإسلام منهجٌ يتَّسع للنماذج البشريَّة كلها، لكن النموذج الأول ظالمٌ لنفسه، والثاني ناجي، ولكن الثالث متفوِّق.
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).
قال بعض العلماء: هناك من يكتفي بأداء الفرائض وقد يقصِّر فيها، وهناك من يَدَعُ المحرَّمات وقد يقع فيها، هذا هو الظالم لنفسه، وهناك من يلتزم أداء الفرائض ولا يقصِّر، ويمتنع عن المحرَّمات ولا يقع فهو المقتصد، وهناك من لا يكتفي بترك المحرَّمات النَيِّرات الواضحات، بل يدع الشُبهات استبراءً لدينه وعرضه، ثم يدع المكروهات، ثم يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، قد يدع الحلال الذي قد يجرُّه إلى الحرام، هذه مرتبة عالية جداً.
هناك من يدع المحرَّمات، هناك من يتَّقي الشبهات، هناك من يدع المكروهات، هناك من يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، هناك من يفعل النوافل: "مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ". من صحيح البخاري عن أبي هريرة.
لذلك الفرائض تقرِّب إلى الله، والنوافل تدخلك في مرتبة الحُب مع الله.
قصَّةٌ دقيقةٌ جداً تبيِّن عظمة الإسلام؛ صحابيان وقعا في أسر مسيلمة الكذَّاب، فقال هذا الكذَّاب لأحدهما: أتشهد أني رسول الله؟! قال: ما سمعت شيئاً. فأمر بقتله، وقُتِل، قال للثاني: أتشهد أني رسول الله؟! فشهد له أنه رسول الله.
ماذا كان تعليق النبي -عليه الصلاة والسلام- على هذين الحدثين؟! قال -عليه الصلاة والسلام-: "أما الأول فقد أعزَّ دين الله فأعزَّه الله"، ماذا تتوقَّعون أن يقول عن الثاني؟! قال: "وأما الثاني فقد قَبِل رخصة الله"، أي أنه أخذ الرخصة، ولا شيء عليه.
أيها الإخوة الكرام: هذا الدين دين يُسر لا دين عسر، دينٌ واقعي، دينٌ يتفق مع الفطرة، حتَّى إن الحياة الروحيَّة تتسع للعُصاة المذنبين: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ).
هل انتبهتم إلى كلمة: (قُلْ يَا عِبَادِيَ)؟! هؤلاء الذين عصوا ربَّهم، وأسرفوا على أنفسهم في المعصية، خاطبهم الله -عزَّ وجل- ونسبهم إلى ذاته العَليَّة نسبة تشريفٍ وتعظيم، أنه أنت عبدي لمَ تعصيني؟! (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً). من لنا غير الله؟!
يا أيها الإخوة الكرام: الرباني لا ييأس، والرباني لا يقنط، والرباني لا يتراجع، والرباني واثقٌ بالله، هو قد يذنب لكنه سريع التوبة، سريع الأوبة، يكفِّر عن سيئاته بحسنات: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).
أيها الإخوة الكرام: ومن خصائص هذا الرباني: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)، التوازن والاعتدال، فهذا المنهج العظيم لا يقبل التنطُّع ولا الغلو، الإسلام فيه كلية معرفيَّة، وكلية سلوكيَّة، وكليَّة جماليَّة، ولابدَّ من أن تتحرَّك على هذه الخطوط الثلاثة كي تتفوَّق، فإذا اكتفيت بواحدةٍ تطرَّفت، وكنت مُغالياً في الدين: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)، فهذا المنهج القويم لا يقبل التنطُّع ولا الغلو، هذا التنطع والغلو فيه ظلمٌ للنفس، وظلمٌ للآخرين، فقد بلغ النبي -صلى الله عليه وسلَّم- أن نفراً من أصحابه أرادوا أن يتقرَبوا إلى الله بترك الزواج، أو ترك العمل، أو ترك الأشياء المباحة، فجمعهم النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". من صحيح البخاري عن أنس بن مالك.
يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ -أي لضيفك- عَلَيْكَ حَقًّا". من صحيح البخاري عن عمرو بن العاص.
التوازن والاعتدال، ديننا دين الفطرة، دين الواقع، دين الإنسان بكل جوانبه؛ بجانبه المادي، وجانبه العقلي، وجانبه النفسي، وجانبه الروحي: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ).
أيها الإخوة الكرام: من خصائص هذا الإنسان الرباني أن منهجه مُمتدٌ وشامل، المسلم الصادق لا يعيش حياته متناقضاً مع ذاته، ساعة له لنفسه، وساعة لربه، هذا النموذج المتناقض لا وجود له في الإسلام، ساعة يعبُد الله فيها، وساعة ينتهك حرمات الله فيها، لا، المنهج الإسلامي منهج الإنسان الرباني منهجٌ ممتدٌ وشامل، فحياة المسلم الرباني ممتدةٌ، وعميقةٌ، ونافذةٌ، وشاملة في خلوته وفي جلوته، في بيته وفي الطريق، في عمله وعِلمه، في سفره وإقامته، في نومه ويقظته: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، لذلك شُرِعَ الذكر والدعاء صباح مساء، في الدخول والخروج، في الأكل والشرب، في النوم واليقظة، في السفر والأوبة، وحتى عند الشهوة: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)، حتى في أعماله الدنيويَّة المَحْضَة؛ فحرفتك وعملك إن كانت في الأصل مشروعة، وسلكت بها الطُرق المشروعة، وابتغيت بها كفاية نفسك وأهلك وخدمة المسلمين، ولم تشغلك عن فريضةٍ، ولا عن واجبٍ، ولا عن طلب علمٍ، ولا عن عملٍ صالح، انقلبت حرفتك إلى عبادة.
أيها الإخوة الكرام: "إِنَّ اللّهَ يُحِبُ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عمَلاً أَنْ يُتْقِنَه". من الجامع الصغير عن السيدة عائشة. وفي رواية: "أن يحسنه".
"إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ". من صحيح مسلم عن شداد بن أوس، و(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ). يتاجرون ويبيعون ويشترون، ولكن هذه التجارة لا تلهيهم عن ذكر الله وإقام الصلاة.
أيها الإخوة الكرام: الأعمال الدنيوية المَحْضَة يمكن أن تنقلب إلى عبادات، والعبادات غير الخالصة يمكن أن تنقلب إلى آثام، في اللقمة التي تضعها في فم زوجتك هي لك صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، والأرض كلها مسجد، والأعمال كلها قُربات، هذه حياة المؤمن الرباني.
يا أيها الإخوة الكرام: بقيت حياة المؤمن متنوِّعة، فهناك عبادةٌ قوليَّة كالذكر والتلاوة، وهناك عبادةٌ عمليَّة كأداء الصلوات الخمس، وهناك عبادة تركٍ وامتناع كالصيام، وهناك عبادةٌ ماليَّةٌ كالزكاة، وهناك عبادةٌ ماليَّة وبدنيَّة كالحج، وهناك فرائض إلزاميَّة، وهناك نوافل تطوعيَّة، والمؤمن بعد أن أنقذه الله من الشِرْكِ الجَلِيِّ والخَفي، وأنقذه الله من الكبائر، ثم أنقذه من صغائر المحرَّمات، ثم أعانه على ترك الشبهات، ثم ترك المكروهات التنزيهيَّة، ثم اتقى بعض الحلال خوفاً من أن ينقله إلى الحرام، ثم خلَّى نفسه من الأغيار، وحلاَّها بالقرب من الواحد القهَّار.
أيها الإخوة الكرام: الرباني عبادته متنوِّعة؛ فاللسان يعبد الله بذكره والدعوة إليه، واليد تعبد الله بكتابة العلم وإنفاق المال، والرِّجل تعبد الله بأنها تسوقك إلى المساجد والأعمال الصالحة، والعقل يعبد الله حينما يتفكَّر في خلق السماوات والأرض، والقلب يعبده بالإخلاص.
يا أيها الإخوة الكرام: هناك الفرائض، وهناك النوافل، وهناك فرائض الكفاية، وهناك الفرائض العينيَّة، وهناك الفرائض العينية الجماعيَّة كالجهاد في سبيل الله.
يا أيها الإخوة الكرام: إذا قلنا الجهاد، هناك جهاد النفس والهوى وهو في المرتبة الأولى، فالمهزوم أمام نفسه لا يمكن أن يقف أمام عدوٍ متغَطرس، ولا أمام غاصبٍ محتل، لابدَّ من أن تجاهد نفسك وهواك. ثم هناك الجهاد الدَعَوِيّ وهو جهادٌ كبير، كما قال الله -عزَّ وجل-: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً).
ثم هناك الجهاد القتالي وهو ذروة سنام الإسلام؛ فقيهٌ محدثٌ مجاهد أرسل رسالةً إلى أخيه العابد الزاهد فقال:
يـا عابد الحرمين لو أبصرتنا | لعلمت أنك في العبادة تلعبُ |
من كان يخضب خدَّه بدموعه | فنحورنا بدمائنا تتـخضَّبُ |
معنى ذلك: الإنسان له هويَّة، فالغني مثلاً لا يُقبل منه أن يصوم الاثنين والخميس، وأن يقرأ الأوراد، عبادته الأولى إنفاق المال، والعالم عبادته الأولى تعليم العِلم، والطبيب -إذا كان طبيباً- عبادته الأولى معالجة المرضى ولاسيما الفقراء، والقوي عبادته الأولى إنصاف المظلومين، يجب أن تعبد الله بالهويَّة التي أقامك فيها، ثم في الظرف الذي وضعك فيه، ثم في الوقت الذي أظلَّك. بهويَّتك بما أقامك، وبظرفك الذي وضعك فيه، وبالوقت الذي أظلَّك.
أيها الإخوة الكرام: هذا هو الإنسان الرباني، يعبد الله بكل أنواع العبادات؛ من قوليةٍ، إلى فعليةٍ، إلى ماليَّةٍ، سراً وجهراً، وهو يطبِّق منهجه طوال حياته، وفي كل مناحي حياته، وفي كل شؤون حياته، ومتوازنٌ مع توازن المنهج الإلهي، وهذا الرباني -أيها الإخوة- يأخذ الرُخَص التي سمح الله بها، وهو متبعٌ لا مبتدع، وهو موحِّدٌ لا مشرك، هذه خصائص الإنسان الرباني: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ).
فإما أن تكون ربانياً وهذه الخصائص، وإما أن يكون المرءُ شهوانياً فهو شقيٌ في الدنيا والآخرة.
إن لم تكن على طريق الربانية -لا سمح الله ولا قدَّر- فأنت على الطريق الآخر المفضي إلى النار.
أيها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
الخطبة الثانية:
وأشهد أنه لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخُلُق العظيم، اللهمَّ صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام: في مجلَّةٍ علميِّةٍ رصينة صدرت قبل أيام، فيها بحثٌ دقيقٌ جداً، في هذا البحث إشارة إلى أن إحدى الولايات الأمريكيَّة (مِتشجان) محصولها الأول هو الكرز، هؤلاء لا يعرفون الآلام المُعتادة كآلام المفاصل والتهابها.
باحثٌ متعمِّقٌ في بحثه أجرى بحثاً علمياً دقيقاً عن الكرز، فوجد سرَّه في المادة الحمراء التي يتلوَّن بها، هذه المادة الحمراء اسمها "أنثوسيانين"، كل عشرين حبة كرز يساوي من اثني عشر إلى خمسة وعشرين مللي غرام من هذه المادة، قال هذا العالم الباحث: قدرة هذه المادة على تسكين الآلام تُعادل عشرة أمثال قدرة الأسبرين، وأن هذه المادة توقف الآلام بنفس طريقة الأسبرين، فهي تعطِّل عمل الأنزيمات المسبِّبة للالتهابات التي ينتج عنها الإحساس بالأم.
وهذه المادة لها خاصةٌ أخرى، فهي توقف عمل بعض النواتج الثانويَّة الناتجة عن الاستقلاب الهَدْمِيّ، والاستقلاب تحول الغذاء إلى طاقة، في مقتبل العمر الاستقلاب بنائي، بعد الخامسة والثلاثين أو الأربعين الاستقلاب هدمي، عن هذا الاستقلاب الهدمي ينتج مواد تعيق الانتفاع بالغذاء، هذه المادة الحمراء في هذه الفاكهة توقف عمل بعض النواتج الثانوية التي تُخَفِّض كفاءة الاستفادة المثلى من الغذاء، ومفعول هذه المادة الفعَّالة في هذه الفاكهة، يشبه تماماً مفعول الفيتامين (س) وفيتامين (إي)، وعشرون حبة من الكرز تساوي قُرْصَين من الأسبرين دون مضاعفات.
أليس في الغذاء دواء؟! قال بعضهم: "خير الغذاء ما كان دواءً، وخير الدواء ما كان غذاءً".
يا أيها الإخوة الكرام: ربٌ كريم وهو حكيم، وكل شيءٍ من صُنع يديه خيره عميم: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعزُّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت.
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهمَّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا، اللهمَّ إنَّا نسألك من الخير كلِّه، عاجله وآجله، ما نعلمه، وما لا نعلمه يا رب العالمين، ونعوذ بك من الشر كلِّه عاجله وآجله، ما نعلمه وما لا نعلمه يا رب العالمين، اللهمَّ بفضلك ورحمتك أَعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنه على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين...