المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
آية قرآنية فيها المقدمة ونتيجتها، آية قرآنية تشكل لنا منهجا أخلاقياً راقيًا، آية قرآنية هي من أعظم ما تم تسطيره في باب الأخلاق الاجتماعية في تاريخ النظريات الأخلاقية والكتب السماوية. دعونا نقف مع هذه الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا -سبحانه وتعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، سائلين الله تعالى العمل بمراد الله فيها. فلماذا هذا الخطاب؟! ولمن؟! وما مقاصده؟!
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
هو القرآن، كتاب الله، فيه كمال الهدي، وأتم النصيحة، وأحسن الإرشاد، وفي هذه الخطبة نقف مع آية قرآنية أخلاقية، آية قرآنية فيها المقدمة ونتيجتها، آية قرآنية تشكل لنا منهجا أخلاقياً راقيًا، آية قرآنية هي من أعظم ما تم تسطيره في باب الأخلاق الاجتماعية في تاريخ النظريات الأخلاقية والكتب السماوية.
أيها المؤمنون: دعونا نقف مع هذه الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا -سبحانه وتعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]، سائلين الله تعالى العمل بمراد الله فيها. فلماذا هذا الخطاب؟! ولمن؟! وما مقاصده؟!
لماذا هذا الخطاب؟! لِيُعلّم الله سبحانه الأمة أنّ الأخلاق الحسنة مطلب شرعي، مطلب إلهي. لماذا هذا الخطاب؟! لأن الله يريد أن يبين للأمة منزلة الأخلاق في شريعتنا الإسلامية، وأن الأخلاق الحسنة ممدوح صاحبها، وأن الأخلاق السيئة مذموم صاحبها.
أيها الإخوة المؤمنون: لنتمعن في الخطاب تارة أخرى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، فأول الآية هو قوله الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ): فأن تكون -أيها المسلم- حسن الخلق، لينًا، هينًا، لطيفًا، اِعْلَم أن هذا كله رحمة من الله بك، وعطاء من الله لك، فمعنى الآية: أي بسبب رحمة الله لك أنت صرت لينًا معهم، فلينك هذا هو من رحمة الله بك، وهو رحمة من رحمات الله. قال ابن كثير: "(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)، أيْ: أيّ شيء جعلك لهم لينًا لولا رحمة الله بك وبهم. وقال: أي: برحمة من الله".
وقال السعدي: "أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألنت لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك".
أيها الإخوة المؤمنون: لا بد لنا من وقفات مع قوله تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، مع هذا المقطع من هذه الآية الإنسانية القرآنية الرائعة، وقفات نحللها ونرى تطبيقها ونفهم واقعنا من خلالها.
الخطاب هنا موجه ابتداءً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم لأمته تباعاً واقتداءً، وقوله: فظًّا: الفظّ: الغليظ، غليظ الكلام، سيئ الكلام، وغليظ القلب: قاسي القلب عليهم، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن كذلك،لم يكن فظًّا بكلامه وتعامله مع الآخرين، بل كان هينًا لينًا لطيفًا إنسانيًا في تعامله مع الآخرين؛ قال ابن كثير: "أي: لو كنت سيِّئَ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفًا لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: إنه رأى صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكتب المتقدمة: أنه ليس بفَظٍّ، ولا غليظ، ولا سَخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح".
وتأمّلوا معي الآية، تأمّلوا معي الخطاب الموجه فيها، لمن هو موجه ابتداءً؟! وما نتيجته فيما لو تحقق؟! تقول الآية: ولو كنت -أيها الرسول- وأنت رسول الله وأنت نبي الله وأنت مَنْ أنت، ولو كنت -يا محمد- فظًا غليظ القلب، وحاشاه أن يكون كذلك، لانفضّوا من حولك، لتركك أصحابك ولقلاك الناس ولتفرقوا من حولك، لأن الناس لا تطيق ذلك الإنسان الخشن في تعامله، الفظ الغليظ، القاسي الطباع، الحِشِر الكِشر. نعم هذه هي النتيجة القرآنية المحسومة لأصحاب الطباع الغليظة والأخلاق الذميمة، إنها التفرق من حوله، إنها ابتعاد الناس عنه، إنها عدم محبة الناس لمجالسته، فكيف بالاستماع إليه أو اتباعه أو التوجه إليه بالسؤال وطلب الهداية.
أيها المؤمنون: هذه الآية القرآنية العظيمة: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، لا بد أن نقيس أنفسنا بها، وأن نخضع أحوالنا السلوكية وتعاملنا مع الآخرين إلى مقتضياتها.
(وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
نعم، ولو كنت -أيها الأب، أيها الوالد- فظًا بلسانك وتعاملك، وغليظًا بقلبك ونفسيتك وعواطفك، لو كنت كذلك لانفضّ أولادك من حولك، لما أطاق أبناؤك مجالستك، ولَفَرّت البنات من حولك، هذه هي النتيجة القرآنية المحسومة؛ لأنهم وجدوا أباً ووالداً لا يقيم للأبوة الرحيمة ولا للوالدية الحانية أيّ اعتبار، بل هو جواظ شديد عنيف، لسانه أحَدّ من يديه، ونفسيته أقسى من قلبه، لا يفيض على أولاده الحنان بل السموم والسباب والغليظ من القول والخشن من المعاملة، فأنى لأولاده أن يَتحَلّقوا حوله ويسهروا معه بأجواء من الودّ والحنان، بل إنك تراهم متفرقين أشتاتًا حيث يرون أباهم قد استقر حاله في البيت.
ولو كنت -أيها الأب- فظًا غليظ القلب لانفض أولادك، وهم قرة عينك، من حولك، ولكن قدوتك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن كذلك، بل كان أباً رحيمًا ووالداً شفوقًا، إذا دخل البيت دخل معه الرفق والحنان واللطف، ومسك الكلام، ولين الجانب، فأسرع إليه الصغير قبل الكبير، فكان -صلى الله عليه وسلم- يقبّل الحسن والحسين ويحملهما ويلاطفهما ويعوذهما، وكان يحنو على ابنته فاطمة المتزوجة ويكرم مجيئها إلى بيته ويحسن معاملتها ويقبلها ويزورها.
فهذا هو الرسول الأب، الرسول الوالد، الذي لم يكن فظًا ولا غليظ القلب، بل كان لينًا رحيم القلب. ففي صحيح مسلم عن عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟! فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ". وفي رواية: "مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ".
(وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
نعم، ولو كنت -أيها الزوج- فَظًّا فَجًّا لسانك سليط، وقلبك غليظ، ونفسك حانقة على زوجتك لانفضت من حولك، ولما جالستك راغبة محبة بل كارهة مجبرَة، ولو كُنتِ كذلك -أيتها الزوجة- خشنة في تعاملك مع زوجك، ردّادة لكلامه، نكاره لمعروفه، لابتعد عنك ولما جالسك ولكره البيت بسببك.
هذه هي النتيجة القرآنية المحسومة للزوج أو للزوجة حينما تنطبع صورته في ذهن الآخر بذلك الفظ الغليظ. ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعامل زوجاته بلطف، وكان داخل بيته يعاشرهن بالمعروف ويعدل معهن ويمازحهن ويؤاكلهن، بل كان يتسابق مع زوجاته خارج البيت، وكان في داخل بيته يكنس البيت ويخيط ثوبه ويحلب لهم الشياة، ويشرب من ذات المكان الذي تشرب منه عائشة أو تأكل منه؛ ففي الحديث الصحيح عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سُئِلْتُ: مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ؟! قَالَتْ: "كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ".
(وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
نعم، ولو كنت -أيها المسؤول وأيها المعلم- فظًا غليظ القلب لانفض الموظفون من حولك، ولابتعد الطلاب عنك، ولما أحبّوا مجالستك إلا مكرهين ومضطرين لكن نفوسهم من الداخل لا تحبك ولا تطيق بقاءك، بل يتمنون مغادرتك، وتلك هي نتيجة محسومة بنص القرآن: (لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قائدًا رفيقًا ومحسنًا، وكريم اللسان، يُحرم الكِبْر، ويرفض المدح المبالغ فيه، ويجالس الناس ويحب الفقراء والمساكين، ويزور المرضى ويعطي كل ذي حق حقه، وكان كثير التبسم لطيف العبارات، يُعلّم الناس الرفق ويدعوهم إلى التواضع والعدل، فأنى لهذا النبي القائد والمسؤول -صلوات الله وسلامه عليه- أن تنفر الناس منه وتنفض من حوله، بل إنها تجتمع عليه وتتسابق إلى صحبته وخدمته؛ ففي صحيح البخاري: "عَنْ جَرِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: مَا حَجَبَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي، وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ إِنِّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: "اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا".
وفي الحديث الصحيح: أن رجلاً أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقام بين يديه، فأخذه من الرعدة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هون عليك ، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد".
ألا فليأخذ كل مسؤول وكل معلم وكل مدير من أخلاق النبوة هذه، ويسلك سبيل نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولا يكن من أولئك الذين ينطبق عليهم وصف الآية الكريمة: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
(وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
اعلموا -أيها المسلمون- أن أحق الناس في تطبيق هذه الآية والعمل بمقتضاها وتحقيق مرادها هم الدعاة إلى الله، لأنهم دعاة إلى هذا الدين، ولأنهم محلّ اقتداء، ولأن مقصودهم هداية الناس، فأنى للناس أن تستجيب لداعية جاف الجنب وحادّ الطباع، وقاسي القلب وخشن اللسان، إن هذا ينفر الناس من دين الله، ويكون سببًا في إفشال الدعوة إلى الله بدلاً من العمل على نجاحها. يقول السعدي: "( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً) أي: سيئ الخلق، (غَلِيظَ الْقَلْبِ)، أي: قاسيه، (لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)؛ لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ. فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين، تجذب الناس إلى دين الله، وترغبهم فيه، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين، وتبغضهم إليه، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول، فكيف بغيره؟! أليس من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، الاقتداء بأخلاقه الكريمة، ومعاملة الناس بما يعاملهم به -صلى الله عليه وسلم-، من اللين وحسن الخلق والتأليف، امتثالاً لأمر الله، وجذبًا لعباد الله لدين الله".
نعم -عباد الله-، إن هذا هو مراد الله من كل واحد منا: أن يكون رفيقًا رحيمًا لا فظًا غليظ القلب، سواء مع أهله أو زوجته أو أقاربه أو جيرانه أو أصدقائه أو تلاميذه أو زملائه بالعمل؛ لأنه إذا لم يكن كذلك بل كان فظًا غليظ القلب فإن نتيجة ذلك محسومة هي انفضاض الناس -سواء الأقارب أم الأباعد- من حولك، وكرههم لمجالسك ومجالستك. وهذا خسران كبير لنا في دنيانا وديننا ودعوتنا وعملنا.
(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا يا رب العالمين.