المقيت
كلمة (المُقيت) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أقاتَ) ومضارعه...
العربية
المؤلف | سالم العجمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
حسن الظن بالآخرين نعمة عظيمة يُنعِم الله بها على من شاء من عباده، وهي من الخصال الجميلة التي يَنعَم بها السعداء؛ لأنها تنأى بهم عن المنغصات؛ وما ذاك إلا لأن الذي يعامل الناس بسوء الظن تجتمع إليه الأحقاد والضغائن التي تَذْهَب برونق حياته؛ فتشوّش قلبه وتنغِّص سعادته.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحكيمِ في خلقه ورزقه وتدبيره، الحميدِ في خفضه ورفعه وعطائه ومنعه وجميع تقديره، الغفورِ الرحيمِ لمن خشيه واتقاه، شديدِ النكال والعقوبة على من عانده وعصاه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ومختاره ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
أيها المسلمون: فإن الواجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأن يجعل حسن الظن بالآخرين بوابةً يلج من خلالها إلى التعامل معهم، وعنواناً له في معايشته مع المجتمع؛ لأن ذلك يؤدي به بالتالي إلى الراحة النفسيّة والهدوء والسكينة القلبية حين يُفرَّغ قلبه من التشويش الذي يدفعه إليه مراقبة الناس، والتعامل معهم بالظنون الكاذبة.
إن حسن الظن بالآخرين نعمة عظيمة يُنعِم الله بها على من شاء من عباده، وهي من الخصال الجميلة التي يَنعَم بها السعداء؛ لأنها تنأى بهم عن المنغصات؛ وما ذاك إلا لأن الذي يعامل الناس بسوء الظن تجتمع إليه الأحقاد والضغائن التي تَذْهَب برونق حياته؛ فتشوّش قلبه وتنغِّص سعادته.
لذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث؛ ولا تحسَّسوا ولا تجسَّسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا؛ وكونوا عباد الله إخوانًا".
فمن تأمل هذا الحديث العظيم اتضح له جلياً أن سوء الظن والتجسس والتحاسد ونحو ذلك؛ من منغِّصات الأخوة ومن القوادح العظيمة في روابطها؛ ولذلك ختم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وكونوا عباد الله إخوانًا".
وقد حذّر الله من سوء الظن؛ لأنه من المهلكات المُردِيات ومن القوادح في الدين؛ فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)؛ فسوء الظن يقود إلى الإثم لما يترتب عليه من النتائج الفادحة التي تنقل المرء من حيز الظن والوهم النظري إلى التطبيق العملي؛ فيجعل ظنه الكاذب بمنزلة الحقيقة، فيتعامل مع الناس على وفق ما ظنه بهم وإن كانوا بريئين مما تصوره وظنه بهم.
فكم هو جميل أن نجعل حسن الظن أساس التعامل مع الآخرين!! ولذا فقد كان السلف أحرص الناس على هذا الفهم؛ نظراً لما تمتعوا به من حسن الديانة وما تميزوا به من البصيرة الثاقبة التي جلَّت لهم الحقائق وأبعدت عنهم كل وهم؛ قال عبد الوهاب بن الورد: "إن استطعت أنْ لا يدخل أحدٌ من هذا الباب إلا أحسنت الظن به فافعل". وقال عمر بن العزيز: "قال أبي: يا بني: إذا سمعت كلمةً من امرئٍ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملاً من الخير" ولذا فقد كان عمر بن عبد العزيز يقول: "أحسن بصاحبك الظن ما لم يغلبك".
فالمسلم يُحسن الظن ما وجد إلى ذلك سبيلاً؛ ويتلمّس الأعذار لإخوانه تصديقاً لما أبدوا من ظاهر أحوالهم؛ وإراحة لنفسه من حمل الهم والضغائن التي تذهب أنسه وسعادته.
فالمرء خلال فترات حياته لا بدّ وأن يتعرض لمواقف مختلفة من الشدّة والرخاء والسراء والضراء؛ فلابد أن يأخذ لكل جزء منها بنصيب أوفر من حسن التعامل، وأن يغضَّ طرفه عن كثير من الأخطاء التي تحصل في حقه؛ لأن الذي يريد أن يستقصي حقه كاملاً في كل شيءٍ لن تستقيم له حال ولن يحصل على كل ما أراد، فلا بد أن يجعل قلبه مرتاحاً من الظنون التي تقوده إلى الهم، فقد يخطئ أحد الناس في حقك فلا تحمل ما فعله على أسوأ المحامل؛ لأن هذا لن يضرّه بقدر ما يضرك مما يحصل لك من تشويش عقلك وتفرق همك.
وإن أخطأ أحدٌ في حقك وجاء يعتذر فاقبل منه حرصاً منك على راحة قلبك؛ وأن تجعل لصاحبك باباً إلى الرجوع إلى جادة الحق.
فلماذا تجد بعضَنا إن أخطأ أحدٌ في حقه حمله على أسوأ المحامل وظن به أسوأ الظن، وفي كثير من الأحيان يكون الخطأ صغيراً تافهاً لا يستحق كل هذا العنت والعناء، بل وفي أحيان أخرى قد يقع منا في حق الآخرين أعظم من هذا الخطأ وأشد من هذا التقصير.
أليس لو حصل منا ذلك لتمنى أحدُنا أن يجد له أخوه عذراً فيما أخطأ به؛ فكذلك ينبغي للمسلم أن يجعل إخوانه في مثل مكانه فيعاملهم على نحو ذلك؛ قال عمر -رضي الله عنه-: "لا تلُم أخاك على ما وددتَ أن يكون لك العذر في مثله". وقيل للإمام أحمد: "إن هارون بن عبد الله ذهب إلى رجل شتمه ليعتذر إليه، فلم يخرج إليه وأغلق الباب في وجهه؛ فقال: سبحان الله!! أما إنه قد بُغي عليه، وسيُنصر عليه، رجل نقل قدمه وجاء يعتذر ولا يخرج إليه؟!".
هذا؛ وإنّ مِن أعظم سوء الظن السعي إلى تخوين الآخرين وتتبع عوراتهم؛ فإن هذا من أعظم أخلاق السوء، وسبيل إلى فتح باب الرذائل وتفكك المجتمعات، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدتَ تفسدهم".
مثال ذلك ما يفعله بعض الناس من أنه يسأل ابنه عن ذهابه ورجوعه؛ فإذا قال له شيئاً كذَّبه رغم أنه كان صادقاً فيما قال، وهذا من أعظم الأخطاء، وسيقود ذلك الابن بالتالي إلى استمراء الكذب وأن لا يَصْدُق في شيء مع والده، فإذا كان الوالد لا يصدقه على أية حال فكيف يَصْدُق بعد ذلك؟!
وهذا هو المقصود بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفسدتهم أو كدت تفسدهم".
ومن ذلك أن يتخوَّن الرجل امرأته ويتتبع عوراتها؛ فيديم السؤال: أين ذهبتِ؟! إلى أين تذهبين ببناتي؟! مع من تتحدثين في الهاتف؟! وهكذا.
أو أنه يتلمس عورة زوجته بأن يأتي البيت فجأة، أو أن يدخل عليهم قادماً من سفر دون أن يخبرها بقدومه، وهذا كلُّه من تلمّس العثرات، ويُخاف على صاحبه أن تقع عينُه على شيء من السوء.
وهناك فرقٌ شديد بين حسن التربية والخوف على الزوجة والأبناء؛ ومسألة تخوين الأسرة، حتى يقودهم إلى الانحراف وينبههم إلى مساوئ الأخلاق؛ فإن بعض الناس إن رأى في نفسه أنه لا يُوثَق به؛ وأنه مطعون في صدقه وسلامته قاده ذلك إلى العناد.
هذا؛ وإنّ زيادة الحرص -إذا كانت على غير الهدي الرباني- قد تنبه المرأة والأبناء إلى الخيانة، فعلى المرء في مثل هذه الأحوال أن يحسن الظن بأهل بيته وأن يعاملهم بسلامة الصدر نحوهم، مع التوجيه والمراقبة والتحذير مما يكون في المجتمعات من الأخلاق المنحرفة، مع اليقين التام أن عمل المرء إنما هو من باب بذل الأسباب، وأن مرد الأمر بعد ذلك إلى الله؛ كمن يبذر بذراً في أرضٍ؛ فإن شاء الله تعالى أن تُنْبِت أنبتت؛ وإن شاء لم تنبت، فالمرء يعمل بالأسباب ومرد الأمور إلى الله -عز وجل-.
وليعلم المسلم أن سوء الظن الذي ينتج عنه مثل هذه الأعمال الدنيئة؛ ما يُلحق الأذى بالمسلمين، وهذا من أعظم الإثم والبهتان، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً).
والمسلم الحق لا يرضى أن يؤذي إخوانه بسوء الظن بهم؛ فكيف بمن كانوا تحت رعايته ويده؛ فهذا من باب أولى وأحرى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين؛ والعاقبة للمتقين؛ وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنَّ الواجب على المسلم أن يظن بإخوانه المسلمين خيراً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ فإن هذا من حق المسلم على أخيه؛ كما أن فيه السعادةَ البالغةَ؛ وإراحة الذهن من الكدّ والتفكير.
تأملوا: لما خاض الناس في حادثة الإفك واتهموا أمَّنا عائشة بالفاحشة؛ وقد تولى كِبْر ذلك رأسُ المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول؛ جاءت أمُّ أيوب لأبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- فقالت: يا أبا أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟! قال: نعم؛ وذلك الكذب؛ أكنت فاعلة ذلك يا أمَّ أيوب؟! قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك.
فأنزل الله بأبي أيوب وصاحبته مادحاً لهم: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)، وتأمل قوله تعالى: (بِأَنفُسِهِمْ)؛ فإنه أنزل المسلم منزلة النفس فلم يقل: بإخوانهم؛ بل قال: (بِأَنفُسِهِمْ)؛ أي: كما أنك ترى أن هذا الفعل والظن لا يليق بك؛ فالواجب عليك أن تقيم إخوانك مقام نفسك فلا تظن بهم إلا خيراً.
كما أن الواجب على المسلم أن يجتنب الحكم على قلوب الناس، بأنهم ما فعلوا كذا وكذا إلا من أجل كذا وكذا، كمن يتهم غيرَه أنه ما تصدّق إلا رياءً؛ أو أنّه ما أصلح بين الناس إلا لأنه يريد العلو في الأرض؛ وما أكرم إلا ليُمدح وهكذا؛ فإن هذا من سوء الطباع، وسيئ الأخلاق، وضعف الدين؛ لأن مرد النيات إلى عالِمها سبحانه، ولا يجوز الحكم على قلوب الناس بإبطال أعمالهم أو اتهامهم بسوءٍ عملاً بالظن الكاذب دون بينة ولا برهان، والعاقل من اشتغل بعيوب نفسه عن تلمّس عورات الناس وتتبُّعِ عثراتهم، واجتهد بإصلاح حاله.
على أنه لربما يؤخذ بالظن في بعض الأحوال إن دلَّت القرائن على سوء عمل صاحبه، ولذلك قال تعالى: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)؛ وهذا يعني أن بعض الظن ليس إثماً، وهو ما دلت عليه قرائن الأحوال، كأن تعرف أن هذا المرء كذاب؛ أو أنه يريد الإيقاع بين المسلمين، وظهر لك جلياً ما يدل على حاله؛ فالواجب أن تحذَر منه، وتخافه على إخوانك؛ مثال ذلك لو أن رجلاً عُرِف عنه أنه يستدين ولا يوفي ما عليه لغرمائه؛ فلو ظننت به ظن السوء فهذا قد قادك إليه قرينة حاله فلا إثم عليك، وهكذا كل من عُلِم من حاله الشر، قال سفيان الثوري: "من العجب أن يُظنَّ بأهل الشر الخير".
وعلى أن المسلم مُطالَب بإحسان الظن فلا يعني ذلك أن يكون غافلاً حتى يتلاعب به اللئام؛ قال عمر -رضي الله عنه-: "لست بخبٍّ ولا الخبُّ يخدعني". أي: لست بالمخادع المفسد؛ ولا يخدعني من كان هذا وصفه.
نسأل الله أن يرزقنا سلامة الصدور، وأن يعيذنا من المهالك والشرور؛ وأن يهدينا لصالح الأعمال والأخلاق.