العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
كلمة البر في القرآن كلمة لها مدلول واسع تشتمل على أنواع الخير والصالح من الأقوال والأعمال، وفي كتاب ربنا -جل وعلا- آية جامعة لأنواع البر كلها بجمل عظيمة وقواعد وأحكام جليلة، بيّنت فيها أصول الدين والتكاليف النفسية والمالية؛ قال الله -جل وعلا-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين.
أمَّا بعد:
فيا أيُّها النَّاسَ: اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عباد الله: كلمة البر في القرآن كلمة لها مدلول واسع تشتمل على أنواع الخير والصالح من الأقوال والأعمال، وفي كتاب ربنا -جل وعلا- آية جامعة لأنواع البر كلها بجمل عظيمة وقواعد وأحكام جليلة، بيّنت فيها أصول الدين والتكاليف النفسية والمالية؛ قال الله -جل وعلا-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ)، قال المفسرون: إن سبب نزول هذه الآية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة كان يصلي نحو بيت المقدس سنة وأشهرًا، ثم إن الله نسخ ذلك وأمره باستقبال بيته الحرام: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).
فعند ذلك غار المنافقون واليهود كما قال الله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فبيّن تعالى أن البر والإيمان ليس خاصًا بجهة معينة، إنما هو امتثال أمر الله، فأية جهة أمرنا الله باستقبالها فهو الحق الذي يجب التقيد به والعمل به، وهذه الآية بيَّنت البر في أصول خمسة جمعت أنواع البر:
الأصل الأول: الإيمان بالله، ويشتمل على خمسة أمور:
الأول: الإيمان بالله، فأعظم البر إيمانك بالله ربًا وخالقًا ومدبرًا، إيمانك به خالقًا ورازقًا، وأنه لا رب غيره ولا خالق سواه، فإن هذا أصل الإيمان والأعمال الصالحة: تؤمن باليوم الآخر بذلك اليوم الذي أخبر الله فيه وعن قيام ذلك اليوم: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، تؤمن بهذا اليوم العظيم، وعدل الله بين عباده في ذلك اليوم العظيم: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) تؤمن بذلك.
وتؤمن بأن ملائكة الرحمن أجسام نورانية خلقهم الله لعبادته: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)، (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)، وكلهم الله بأمور العباد، فهم موكلون بأعمالنا الصالحة والسيئة وأقوالنا، وموكلون بحفظ العباد، وموكلون بشؤون الخلق كلهم؛ قال الله -جل وعلا-: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، وقال: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، وقال: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، فتؤمن بهم أنهم وسطاء بين الله وبين رسوله في تبليغ الشرائع؛ قال الله -جل وعلا-: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)، وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ).
وتؤمن بكتب الله التي أنزلها على الأنبياء قبلنا وذكر منها ما ذكر؛ ولكن القرآن العظيم خاتمها وأجمعها وأشملها، جمع معاني ما سبقها من الكتب: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ).
وتؤمن بأنبياء الله ورسله الذين أرسلهم الله إلى خلقه لهداية الخلق ودعوتهم، وأنهم كلهم دعوا إلى عبادة الله -جل وعلا-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)، إلا أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خاتمهم وسيدهم وأكملهم وأفضلهم -صلوات الله وسلامه عليه- القائل: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ".
ثم تأتي في الأمور المالية قال الله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)، حب المال غريزة في النفوس: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً)، (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)، ولكن هؤلاء مع حبهم لهذا المال إلا أن حب هذا المال لم يحُل بينهم وبين الفضائل والأعمال الصالحة والإنفاق في وجوه الخير، فلهذا قال الله: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)، مع محبته الشديدة للمال؛ لكن تغلب على تلك المحبة بالإيمان واليقين ورجاء ما عند الله من الثواب للمنفقين.
(وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) فبدأ بالقرابة، فإن القريب أحق بمعروف قريبه، إذ إن إعطاء الأقارب يسبب صلة الرحم وارتباط المجتمع، فإن الأسرة وتنظيمها هي اللبنة في بناء المجتمع فتعطي القريب منك، لهذا يقول -صلى الله عليه وسلم-: "صدقتك عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِوي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ"، فتفقُّد أقاربك وسؤالك عنهم وإعطاؤهم ومواساتهم مما يقوي صلة الرحم وارتباط بعضهم ببعض، إذ يشعر القريب أن قريبه الغني يواسيه ويبحث عنه ويضمد جراحه ويسأل عن حاجته، فتزاد القلوب محبة، والنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
كذلك اليتيم فاقد الأب الذي لم يخلِّف أبوه مالاً فإن المجتمع المسلم يحل محل أبيه، فكلهم يشعرونه أنهم أب له، يحسن إليه ويمنحه من الخير؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ"، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى وفرق بينهما، فهذا اليتيم الذي فقد أباه وحنانه وشفقته وإحسانه وجد من إخوانه المسلمين آباءً له يفرحونه ويواسونه ويربونه ويعلمونه ويثقفونه، إذ المجتمع المسلم مرتبط بعضه ببعض، يشفق بعضه على بعض، ويحنو بعضه على بعض، ويرحم بعضه بعضًا: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).
(وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ)، يعطي المسكين، ذلك المسكين الذي لا يجد مالاً يغنيه، ذلك المسكين الذي لا يُعرَف فيعطى، ذلك المسكين يمنعه الحياء من سؤال الناس كما قال -جل وعلا-: (لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً)، وفي الحديث: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس ولا يفطن فيتصدق عليه"، هذا العفيف المتعفف الذي أثقلته الديون والهموم والمصاريف اليومية والتكاليف المعيشية، هذا المسكين هو الذي ينظر إليه، عفيف متعفف، دخله لا يغطي مصاريفه وحاجاته اليومية، يراعي أمور الناس ويخرج بين الناس مخرج الغني الواجد، والله أعلم ما وراء ذلك، فقر وقلة مال وتكاليف عائلية أتعبته، هذا المسكين هو الذي يحق لنا أن نبدأ به وأن نتواصى به، فإن هؤلاء الذين لا يسألون الناس ولا يتعرضون لهم، هؤلاء هم الذين يهتمون بهم ويعطون ما يعينهم على تكاليف هذه الحياة، فإن المؤمن إذا اهتمّ بهذا النوع استطاع بتوفيق الله أن يوطن العلاقة بينه وبين إخوانه المسلمين.
أما السائل الذي يمد يديه شاحذًا فإنه يُعطى؛ لأن الله يقول: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)، لكن هذا السائل إن وجدت عليه علامة الغنى والجد والسعة والقوة والنشاط فإني لا أعينه على كسله، ولا أعينه على باطله، أحثه على العمل وأرشده إلى الاكتساب وأحذره من ذلة السؤال، فإنه ذلة وهوان؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل الناس أموالاً تكثرًا جاء يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم"، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "من سأل الناس تكثرًا فإنه جمر فليأخذه أو ليدعه"، فإذا سألني السائل وأنا أرى إشارة القوة فعليّ أن أنصحه وأوجهه وأحذره من هذه الصفة الذميمة، جاء رجلان للنبي -صلى الله عليه وسلم- يسألانه، فقلّب فيهما النظر، فرآهما جلدين فقال: "إن شئتما أعطيتكما ولا تحل صدقة لغني ولا لذي قوة مكتسب"، أحثّه على العمل وأرشده على التكسب المشروع، وأحذّره من ذلة السؤال الذي لا يفيده بل يزيد ذلاً وخمولاً؛ بل أحثه على العمل وأوجهه، فإن هذا هو المطلوب.
وفك الرقاب من هذا كما قال الله: (وَفِي الرِّقَابِ)، كان في أول الإسلام أبيح الرق لطريقة شرعية واحدة وهي إذا قاتل المسلمون الكفار، فمن قاتل من الكفار وأسر كان رفيقًا، ولكن دين الإسلام شرع إعتاق الأرقاء، فجعل الرق طريقًا واحدًا، وجعل التخلص منه بطرق متعددة لأنه لم يسترق إذلالاً ولكنه عقوبة، فإذا اعتدل واستقام شرع إعتاقه وتخليصه من الرق والهوان.
أيها المسلم: ثم جاءت العبادات الشرعية، فأمر بالصلاة والزكاة؛ قال -جل وعلا-: (وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ)، فإقامة الصلاة من البر، وهي العبادة لله -جل وعلا-، هذه الصلوات الخمس فريضة على المسلم في يومه وليلته خمس مرات، فيها وقوفه بين يدي ربه، وتذللـه لربه وإقباله على ربه، ليس ركوعًا أو سجودًا فقط، ولكنها إقبال على الله بالقلب والروح والجسد، ووقوف بين يدي الله، فهذه القراءة والدعاء والالتجاء كل ذلك مما يقوي الإيمان في القلب: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)، (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ).
وكذلك الصبر في البأساء والضراء وحين البأس، المسلم ذو صبر في ضرائه وسرائه وحين البأس، صابر محتسب في البأساء والضراء، لا ينهزم ولا يضعف ولا يسخط؛ بل يبذل السبب ويصبر على القضاء والقدر وينتظر فرج الله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً).
ثم قال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)، في الإسلام حثٌّ على الوفاء بالعهود والتزامها فإن الوفاء بها مصلحة للأفراد والجماعة؛ بل للأمم والشعوب عمومًا، فإن الناس بلا عهد ولا ميثاق لا يؤمنون على حقوقهم ولا يطمئنون عليها، والوفاء بالعهود من أخلاق الإسلام؛ قال -جل وعلا-: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً)، عهد بينك وبين ربك في طاعتك له وإخلاص الدين له وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، وعهد بينك وبين الخلق في التعامل العام في البيع والشراء والاستئجار وغير ذلك من التعامل المادي.
ثم قال: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ)، انظر -أخي المسلم- فإن هذا الدين دين كمال وشرف، دين حياة وآخرة، دين إصلاح الفردي والمجتمع، دين صدق ووفاء لم يطلب من الإنسان وحده فقط في عبادته؛ بل طالب المسلم بأن يكون عضوًا صالحًا في مجتمعه يعين على الخير كله فقال: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي: هؤلاء الذين أتوا بأنواع البر هم الصادقون المتقون لله، إذ الإيمان أقوال وأعمال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال"، صدقوا في إسلامهم، صدقوا في إيمانهم، صدقوا في التزامهم، صدقوا فطبقوا شرع الله على واقع حياتهم، فكان الإسلام حقًا منهجهم في حياتهم كلها، دين جاء بما يصلح الدنيا والآخرة، دين جاء بما يقوي روابط المجتمع، دين جاء ليبني المجتمع المسلم بناءً متكاملاً، بناءً متراصًا، بناءً صادقًا، دين يدعو إلى الحقيقة والصدق والإخلاص: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا)، صدقوا حيث كان الإيمان والعمل متطابقين، صدقوا حيث طبقوا منهج الله في حياتهم وقبلوا أوامر الله وطبقوا هذه الشريعة وتعاليمها على أنفسهم وعلى المجتمع المسلم، فنالوا بهذا التطبيق الصدق، فصاروا من أهل التقوى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفورٌ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أما بعدُ:
أيُّها الناس: اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله: إن من أنواع البر، البر بالأبوين؛ فإن البر بهما من أعظم أنواع البر؛ قال الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)، سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: من أبر؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أباك". فبر الوالدين عمل صالح، ودليل الإيمان والصدق والتقوى، فبرهما دليل على صدق الإيمان وتقوى الله، وعقوقهما يدل على ضعف الإيمان وقلة التقوى.
ومن أنواع البر أيضًا -أيها المسلم-: البر بالكلمة الطيبة؛ قال الله -جل وعلا-: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)، وقال -جل وعلا-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً).
ومن أنواع البر: حسن الأخلاق والتعامل؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ".
ومن أنواع البر: برك بالناس ولو كانوا غير مسلمين؛ قال الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
والبر من أخلاق الأنبياء -عليهم السلام-؛ أخبر الله عن يحيى أنه قال: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً)، وقال عن عيسى: (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً).
البر -أيها الإخوة- سبب لدخول الجنة؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ، ولا يزال الرَّجُلَ يَصْدُقُ ويتحرى الصدق حَتَّى يكتب عند الله صِدِّيقًا"، والبر سبب للنجاة من النار؛ يقول الله -جل وعلا-: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً)، وقال: (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ).
وليحذر المسلم من أن يقول قولاً ويخالف فعلاً؛ يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما صحّ عنه: "رأيت ليلة أسري بي إلى السماء رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء؟! قالوا: خطباء أمتك يدعون إلى البر ولا يعملونه وهم يتلون الكتاب".
فالحذر الحذر أن تكون الأعمال تخالف الأقوال، أسأل الله السلامة والعافية.
أيها المسلم: دينك دين الإسلام، دين شرف وعز وكرامة، دين جاء بما يسعد البشرية ويقوي روابط أفراد المجتمع، إنما العيب في تقصير الأمة وعدم تطبيقها لهذه الشريعة، وإلا فلو صدقنا الله في إيماننا وفي تعاملنا وطبّقنا منهج كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- لوجد السعادة والهناء والطمأنينة والتحام الصف والقوة واجتماع الكلمة وتآلف القلوب على الخير والتقوى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ)، فلنصدق الله في أقوالنا وفي تصرفاتنا، ولتكن أعمالنا موافقة لشرع الله بإخلاص لا بمجاملة ولا بتظاهر فقط؛ لكن بعلم وعمل وتطبيق على الواقع؛ لأن هذا هو المطلوب منا؛ ولذا قال الله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ)، صدقوا لما طبقوا وعملوا، نسأل الله الثبات على دينه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا -رحمكم الله- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى اللهُ عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائه الراشدين أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليّ، وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التَّابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك وإحسانك يا أرحمَ الراحمين.