الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | عبد العزيز بن عبد الله السويدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل - الأديان والفرق |
أيها الإخوة: حين التأمل في العلاقة بين اليهود والنصارى؛ لعل أحدنا يتعجب قائلا: ما الذي يدفع النصارى إلى هذا الدعم المستميت للكيان اليهودي؛ سياسيا، واقتصاديا، وعسكريا، وتقنيا، دعما هائلا وأعمى في نفس الوقت؟!. لا شك أن هناك تغيرا جذريا في نوع العلاقة بين اليهود والنصارى أدى إلى أوضاع مغايرة جدا عما كنا نألفه في العلاقة التقليدية بين الطائفتين، فالتاريخ يخبرنا عن علاقة سيئة بين اليهود والنصارى منذ قديم الزمان، بل إن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن من أهم أسباب الوقاية من كيد الأعداء: معرفتهم، والتصور الصحيح لطبيعة الصراع بيننا وبينهم، وهو منهج قرآني معروف، فطالما نبهنا القرآن إلى ما يكنه الأعداء لنا، وما يهدفون إليه، وإلى معالم الصراع معهم؛ ففي بيان مكنونهم؛ قال سبحانه: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) [النساء: 101].
وقال تعالى: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء) [النساء: 89].
وفي بيان طبيعة الصراع: (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ)[النساء: 76].
وتسوقنا الأحداث الأليمة الماضية في غزة إلى ضرورة مراجعة هذا التصور من جديد، وهو مما يحسب ضمن مفاسد تلك الأحداث، فلا أحد يتصور أن مجرد مصالح سياسية، أو توسعية؛ تدفع إلى مثل هذه الوحشية المنقطعة النظير.
أيها الإخوة: حين التأمل في العلاقة بين اليهود والنصارى؛ لعل أحدنا يتعجب قائلا: ما الذي يدفع النصارى إلى هذا الدعم المستميت للكيان اليهودي؛ سياسيا، واقتصاديا، وعسكريا، وتقنيا، دعما هائلا وأعمى في نفس الوقت؟!.
لا شك أن هناك تغيرا جذريا في نوع العلاقة بين اليهود والنصارى أدى إلى أوضاع مغايرة جدا عما كنا نألفه في العلاقة التقليدية بين الطائفتين، فالتاريخ يخبرنا عن علاقة سيئة بين اليهود والنصارى منذ قديم الزمان، بل إن الله -تعالى- قال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ)[البقرة: 113].
نحن نعلم أن اليهود استقبلوا المسيح -عليه السلام- أسوأ استقبال، والمسيح في عقيدة النصارى أحد وجوه الذات الإلهية، هو: ابن الله، والله في نفس الوقت، - تعالى الله عما يقولون.
واتهم اليهود أمه العذراء البتول مريم بالفاحشة، وسعوا لدى أمير القدس الروماني لكي يقتل المسيح -عليه السلام-، بل ويعتقد النصارى أن المسيح -عليه السلام- قد صلب وقتل بالفعل من قبلهم، وإن كنا نحن المسلمين نعتقد اعتقادا جازما أنه لم يصلب ولم يقتل، بل رفعه الله إليه، قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء: 157].
وبسبب اعتقاد الصلب حمل النصارى اليهود هذا الذنب العظيم ليس فقط لمن عاصر المسيح -عليه السلام-، بل لكل يهود الدنيا، حتى صار اليهود يعرفون في التراث المسيحي بالأمة الملعونة، وحتى صار النصارى يتوارثون كراهية اليهود.
حتى أن أسقف القدس النصراني طلب من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عند إجراء الصلح مع المسلمين من الشروط: أن لا يسكن اليهود مدينة القدس بأي حال من الأحوال.
ثم إذ بالأيام تدور وتنقلب المواقف، فنرى اليوم توافقا وإعجابا وحبا عجيبا من النصارى لليهود، واستماتة للدفاع عنهم، بل وتأييدا كنسيا نصرانيا لقتلة المسيح في اعتقاد النصارى، خاصة أولئك اليهود الذين يعيشون في فلسطين.
فما سر هذا التحول العجيب؟!
حتى نفهم -أيها الإخوة- يجب أن نعود إلى التاريخ، ونعيد قراءة بعض الأحداث قراءة متأنية.
لقد عاش اليهود في أوربا كل حياتهم مضطهدين، فالدولة الرومانية الوثنية الاستعمارية اجتاحت القدس سنة 70 للميلاد، ولما قابلت مقاومة من اليهود ارتكبت مذبحة بشعة فيهم على يد القائد الروماني "تيتوس".
ونشير هنا إلى أن كون اليهود أو غيرهم استوطنوا، أو سكنوا في أرض ما، في حقبة من الزمن، لا يعطيهم الحق في تملك الأرض في كل زمان، حتى لو خرجوا منها، أو هاجروا وتركوها؛ لأن عقيدة الإسلام تضيف الأرض للخالق لا للمخلوق، فهو الذي يقضي فيمن يخلف في الأرض عصرا بعد عصر؛ كما جاء في القرآن من قول موسى -عليه السلام-: (اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128].
فالأرض في حقيقة الأمر لله يورثها من يقيم شرع الله عليها، من عباده الصالحين.
المهم أن مأساة قتل اليهود تكررت في سنة 132 م على يد القائد الروماني إيليا هدريان، ثم عندما تنصَّرت الدولة الرومانية سنة 324م بعد تنصُّر قيصرها قسطنطين، تحولت أوروبا كلها إلى النصرانية، وبدأت سلسلة جديدة من الاضطهاد لليهود، ولكن هذه المرة لأسباب عقدية؛ لأن اليهود هم الأمة الملعونة التي قتلت المسيح عيسى ابن مريم في الاعتقاد القديم للنصارى، واستمر هذا الاضطهاد في معظم فترات التاريخ الأوربي القديم، وكان يزيد أحيانا ويفتر أحيانا، لكنه دائما موجود، وكان النصارى خلالها يسمون اليهود بالكفار، وكان اليهود يعانون كثيرا، ويتوارثون المعاناة!.
ثم حدث تطور كبير في هذا الاضطهاد سنة 1290ميلادية حيث أمر ملك إنجلترا ادوارد الأول بطرد كل اليهود الكفار من سائر بريطانيا، وزادت حدة الاضطهاد لأوروبا، وتفاقمت في سنة ثلاثمائة وست وألف ميلادية، عندما أعلن فيليب ملك فرنسا أن على كل يهود فرنسا أن يختاروا بين ثلاث:
إما الخروج النهائي من فرنسا، وإما القتل، وإما التنصر والدخول في دين النصرانية.
وعندها انقسم اليهود إلى فريقين:
توجه أحدهما: إلى الأندلس حيث كان المسلمون يحكمونها، وكانوا أي المسلمين يشتهرون بالعدل والتنزه عن الاضطهاد الديني، والسماح للأقليات المختلفة بممارسه شعائرهم.
أما الفريق اليهودي الآخر: فقد أبطن اليهودية، وتحول إلى النصرانية في ظاهره؛ كما أمرهم بذلك حاخام اليهود في فرنسا، وظل هذا الفريق الخطير متخفيا في رداء النصرانية، بل إن منهم من دخل البلاط الكنسي، وترقى في المناصب الدينية النصرانية، بل سار من أئمة النصارى في فرنسا وأوروبا، وهو يهودي حقير.
وبعد ثلاثمائة سنة، أي في القرن السادس عشر، بعد أن تمكن اليهود من الكنسية الرومانية، قاموا بحركة جريئة جدا تسعى إلى إحداث تغيير استراتيجي خطير على الساحة الأوروبية، بل والعالمية، كانت هذه الحركة تهدف إلى تحريف النصرانية المحرفة أصلا إلى دين جديد يخدم مصالح اليهود، ولكن باسم النصرانية.
ومن هنا كان ظهور مذهب البروتستانت، أي المحتجون، أو المعترضون، فقام القس الأرماني الكاثوليكي المثقف مارتن هانز لوتر متأثرا بالطرح العقلاني الذي عززه في عقله اليهود المستخفون في الكنيسة، قام معارضا صكوك الغفران، ومحتجا على احتكار فهم النصوص الإنجيلية على القساوسة، دون الناس، متأثرا في ذلك بالمسلمين إبان الحروب الصليبية، إذ رأى أن المسلمين يتعاملون مع كتابهم المقدس مباشرة، ولا يتوسط أحد بينهم وبين الله -سبحانه وتعالى-، ونادى بالرجوع إلى النصوص التوراتية القديمة، أي ما يسمى بالعهد القديم، بل عارض الرهبنة، فتزوج وأنجب هذه الاعتراضات قام بها "لوتر" بشعار الإصلاح، وناصره فيها عامة القساوسة اليهود الذين؛ -كما ذكرت آنفا- سيطروا على أكثر من مكان حساس في الكنائس الأوروبية، وأظهر "مارتن لوتر" حبه الجارف لليهود؛ لأنهم قوم المسيح، فألف كتابا بعنوان: "المسيح ولد يهوديا".
ومع أن "لوتر" نفسه لم يكن من أصول يهودية إلا أنه في مطلع دعوته كتب كلاما متعاطفا مع اليهود، إيمانا منه بإمكانية تنصر اليهود، فكان من أقواله على سبيل المثال: "إن روح القدس -يقصد الله -جل وعلا- شاء أن تنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم، وإن اليهود هم أبناء الرب، الضيوف الغرباء، وعلينا نحن النصارى أن نرضي بأن نكون كالكلاب التي تأكل من فتات مائدة أسيادها".
ولم يقل "لوتر" عند حد تعظيم قدر اليهود وتقديسهم، بل جاء مع القساوسة اليهود بفكرتين كان لها الأثر المباشر في سياسة الأوروبيين، بعد ذلك، وخاصة البروتستانت.
الفكرة الأولى: وقد ذكرت طرفا منها باختصار، هي: أن العهد الجديد من الإنجيل تعرض لتحريف شديد، وهذا صحيح، ولذلك يجب نبذه، والاعتماد فقط على العهد القديم الذي لم يحرف، وهذا غير صحيح، فقد حرف هو الآخر تحريفا كبيرا، والعهد القديم هو التوراة المحرفة، وبذلك أصبح الكتاب المقدس عند النصارى الجدد، هو التوراة اليهودية.
وأما الفكرة الثانية التي استحدثوها في الديانة الجديدة، وهي: أنه لكي يعود المسيح -عليه السلام- إلى الدنيا لا بد من إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وبغير هذا الوطن لن يعود المسيح، وبذلك أصبح لزاما على النصارى المحبين للمسيح أن يساعدوا اليهود في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، بل وأصبح ذلك جزءا من العقيدة، لا يمكن التنازل عنه، وأكثر من ذلك أن اليهود أخذوا عن البروتستانت قدسية خاصة جعلتهم يغضون الطرف تماما عن أي خطأ يرتكبونه، بل يعتبر بعضهم مجرد نقض اليهود، هو نقض للرب ذاته.
وهكذا بدأت العلاقة بين اليهود والنصارى الجدد تزدهر بالتدريج، وبدأ هؤلاء النصارى يؤمنون بأن أرض فلسطين، هي الأرض الموعودة لليهود، كما في الكتاب القديم، وأن الواجب الديني يقتضي تحقيق هذا الوعد.
أيها الإخوة: لقد قاومت الكنيسة الكاثوليكية هذه المبادئ، ورفضتها رفضا قاطعا؛ لأنها تعتبر ثورة حقيقية على البابا، والنظام الكاثوليكي، ومن ثم فقد دارت حروب مباشرة بين أتباع البابا، وأتباع "لوتر"، وانقسمت أوروبا نتيجة هذا الصراع إلى طائفتين:
طائفة مؤيدة للبابا الكاثوليكي، وتزعمت هذه الطائفة فرنسا، وهي أكبر دولة كاثوليكية في العالم، وحليفة كبرى لبابا الفاتيكان، وكان معها أيضا أسبانيا وإيطاليا.
وأما الطائفة الثانية، فهي الطائفة التي كانت تعادي البابا قبل ذلك سياسيا وعسكريا، وعلى رأسها: ألمانيا وإنجلترا، وهذه الطائفة تبنت رأي مارتن لوثر، وأخذته عقيدة على أساس أنه الاتجاه المخالف للبابا، وعلى أثر العقيدة الجديدة أعلن هنري الثامن ملك انجلترا في سنة 1538 الانفصال الرسمي عن كنسية روما الكاثوليكية، وتبنَّى بوضوح المذهب البروتستانتي، بل وفتح باب إنجلترا من جديد لدخول اليهود بعد أن كان مغلقًا من أيام إدوارد الأول سنة 1290م.
وهكذا صارت إنجلترا بروتستانتية مؤيدة لليهود بكل قوتها.
ومع أن "مارتن لوثر" في آخر حياته لما يئس من تنصر اليهود، تبرأ من مدحهم، بل كتب كتابًا قبل ان يموت بثلاث سنين بعنوان: "ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم" إلا أن فكره الأول هو الذي انتشر وتجذر في كثير من البلدان الأوربية، وبدأ هذا الفكر يظهر في كتابات وأقوال المفكرين والفلاسفة والعلماء ممن اعتنقوا مذهب البروتستانت، حتى إن إسحاق نيوتن العالم الإنجليزي الشهير الذي عاش إلى بداية القرن الثامن عشر كان يقول في كتابه: "ملاحظات حول نبوءات دانيال ورؤيا القديس يوحنا": يقول اسحاق نيوتن: "إن اليهود سيعودون إلى وطنهم، يعني فلسطين، لا أدري كيف سيتم ذلك؟ ولنترك الزمن يفسِّره".
هكذا تحول النصارى إلى يهود من حيث لا يعلمون.
نسأل الله -تعالى- أن ينصر الإسلام وأهله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فقد تزامنت هذه الأحداث بوجود البروتستانت، وانتشارهم مع اكتشاف أمريكا، ومن ثم فإنه عندما زادت وتيرة الاضطهاد الكاثوليكي للبروتستانت في أوروبا؛ تدافع هؤلاء البروتستانت أصحاب الفكر اليهودي على الهجرة إلى البلاد الجديدة أمريكا.
ومع مرور الوقت صارت نسبة البروتستانت في أمريكا أعلى من نسبة الأسبان الكاثوليك الذين قدموا قبلهم، وبالتالي أصبح نفوذهم أي البروتستانت أقوى، وتأثيرهم أقوى.
وللحديث تتمة -إن شاء الله-.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...