الحكم
كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...
العربية
المؤلف | الخضر سالم بن حليس اليافعي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
ما كان الله تعالى ليأذن بهلاك قرية أو أمة عمها الظلم وانتشر فيها التخريب وأهلها يمارسون دورهم في إصلاحها، وأهلها مصلحون، جاء التعبير أن أهلها مصلحون، فالمصلحون من أهلها وليس من الخارج، فلا ينتظر من الخارج أن يصلحها ما لم يكن أهلها وسكانها هم المنقذين.
الخطبة الأولى:
عندما يفسد مجتمع ما من المجتمعات، وتنتشر فيه المظالم ويفشو الأذى وتعم الاختلالات، فهو يوشك أن ينحدر في دائرة الهلاك والانتهاء ما لم يقم المصلحون بدورهم في إنقاذه وسرعة انتشاله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود 117].
نعم؛ ما كان الله تعالى ليأذن بهلاك قرية أو أمة عمها الظلم وانتشر فيها التخريب وأهلها يمارسون دورهم في إصلاحها، وأهلها مصلحون، جاء التعبير أن أهلها مصلحون، فالمصلحون من أهلها وليس من الخارج، فلا ينتظر من الخارج أن يصلحها ما لم يكن أهلها وسكانها هم المنقذين.
افقهوا سنة الله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]، ما كان ليهلك بلدًا عم فيها الظلم والأذى رأى من أهلها وثبة نحو إصلاحها وتحمل مسؤوليتهم لانتشالها.
وهذه مهمة الأنبياء التي جاؤوا بها في المجتمعات، علاجُ أزمات المجتمع وتعديلُ اعوجاجه وتخليصُه من أمراضه المختلفة، إصلاح المجتمع المهمة التي أعلنها نبي الله شعيب -عليه الصلاة والسلام-: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود: 88].
لقد رفض الأنبياء -عليهم السلام- الواقعَ السيئ وقيمَه الفاسدة ونظامَه المتهالك وثقافتَه الرديئة، فدعوات الأنبياء، دعوات تنشد صلاحَ المجتمع وتقويمَ اعوجاجه.
الأنبياء جاؤوا ليحرروا الإنسان ويعززوا كرامته، ويخرجوه من أسر الظلم والمستكبرين وأصحاب المصالح الدنيوية، وينقذوا المجتمع من أزماته وأمراضه ومعاناته، سواء كانت مشكلة حكم، أم مشكلة أخلاقية، أم اقتصادية أم غير ذلك.
وقف نبي الله موسى ليقول لأخيه هارون: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف:142].
لقد ولاّه على قومه لكنه طالبه أن يصلح بقدر ما يستطيع، وأن يحذر طريق المفسدين، وما كانت هذه الوصية من موسى لأخيه هارون إلا لخطورة المهمة القيادية وصعوبتها؛ فقد حدثنا الله تعالى عن حقبة من حقب التاريخ عن طغاة ثمود وقياداتهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلالِ والإفساد، وتكذيبِ نبي الله صالح -عليه السلام-: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [النمل:48]، نعم يفسدون ولا يصلحون، هذا فريق مكون من تسعة أفراد مهمته التخريب والتدمير، والفرح بما يجري، والتشهي بأذى الناس، كانوا تسعة لكنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ومع انتشار مسالك الفساد وبراعة قياداته وتفوقهم وفنونهم إلا أن العاقبة في النهاية محسومةٌ للمصلحين: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105]، فالأرض لم تخلق لكي يعبث بها المفسدون، وليست ملكًا لهم، وإنما النتيجة للمصلحين.
كان في القرون الماضية بقايا من أهل الخير، ماذا يعمل هؤلاء في المجتمع؟! يقومون بمهمة الإصلاح، ينهون عن الفساد في الأرض، ينهون عن الشرور والمنكرات: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ) [هود:116].
لقد وجد نماذج من هؤلاء المصلحين لكنهم قليل، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه، وفجاءة نقمته.
المصلحون هم الذين يبحثون عن مصلحة البلاد قبل مصالحهم.
المصلحون لا يرتضون بما يوجد من منكرات وأخطاء في المجتمع، فيسعون جاهدين لإزالتها وتخفيفها. المصلحون يريدون تقليل ومنع الشرور والأذى.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
إن بقية الخير الذي نشاهده ونلمسه في واقعنا، ما هو إلا بفضل الله -عز وجل- ثم بفضل البقية الباقية من المصلحين.
الحال الذي وصلنا إليه اليوم يحتاج إلى تكاتف المصلحين وتعاونهم، يحتاج إلى أن نكون نحن من المصلحين، كلٌّ في موقعه وعمله ومجاله.
إذا اجتهد المفسدون -وهم قلة-، وتعاونوا على التخريب ونشر الأذى والاضطرابات وتأجيج الصراعات والفتن ونشر ثقافة القتل والكراهية، وعملوا ليل نهار على زعزعة الأمن وتدمير ما تبقى من بنية البلد التحتية وخدماتها الأساسية، ونام المصلحون وتكاسلوا وتفرقوا واختلفوا، فإن البلد ستهوي من حفرة إلى أخرى.
المصلح الذي نريد مصلح في قوله؛ فلا داعي لنشر الشائعات والأكاذيب والإرجاف، لا داعي للكلام الجانبي وتبادل الاتهامات وتفسير المقاصد وشخصنة المشكلات، لابد في هذا الظرف من إصلاح القول من القول السديد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الأحزاب:70، 71]، إصلاح القول، القول الآمن الذي يجمع ولا يفرق، القول الذي يبني ولا يهدم، القول الذي يصلح ولا يفسد، القول الناصح الصادق الأمين، القول الذي فيه مصلحة البلد وأمنها واستقرارها، بعيدًا عن المزايدات والمهاترات الإعلامية الرخيصة.
مصلح في فعله: بعيدًا عن المتاجرة بمصالح البلد، والعبث بثرواتها، والارتزاق من أجل نشر الأفعال المقلقة والتصرفات التخريبية والأعمال الإفسادية.
مصلح في عمله: كلٌّ في موقعه، الموظف يصلح ما بين يديه من أعمال، يحقق انضباطًا وظيفيًا بعيدًا عن العبث بالمال العام والتسيب الوظيفي والغياب والإهمال، وهل نصلح بمثل ذلك؟! بالأمس يعلن عن 39 ألف معلم مغترب يتقاضون ما يقرب من ملياري ريال، هل نصلح بهذه الممارسات؟!
البلد اليوم يحتاج إلى المصلحين ومضاعفة دورهم وتعاونهم وتكاملهم، تحتاج إليكم، البلد بحاجة إلى الناصحين الغيورين الذين يعملون من أجل الله وبحثًا عن رضا الله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170].
إن كل عمل إفسادي يهدف إلى زعزعة أمن البلد لا يعد أصحابه من المصلحين، بل هو يتنافى مع مهام المصلحين: (قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) [القصص:19].
فكل من مارس القتل بحق أي شخص كان ليس من المصلحين، وإن ادعى ذلك.
البلد اليوم يعاني غياب الدولة التي نحن مسؤولون جميعًا عن استعادتها وفرض هيبتها، فكونوا محضر خير، وكل واحد منكم يجب أن يتحمل مسؤوليته في إصلاح الأوضاع وترتيبها، بل على جميع الأحزاب والمكونات ومنظمات المجتمع المدني أن تتحرر من العصبية وحالة الاستقطاب التي نعيشها، وأن ننتقل جميعنا إلى ممارسة دور المصلح بعيدًا عن المصالح الشخصية والمشروعات الضيقة.
هناك اليوم من يسعى لنشر ثقافة الكراهية وغرسها بين الناس في الشمال والجنوب، يتعهدها ويسقيها: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق:14].
هناك من ملأ قلبه حقدًا وكراهية وانتقامًا في عالم اليوم الذي أصبح يتحدث عن التسامح والحب والألفة.
هناك من نذر نفسه وقلمه ليؤجج أكثر مما يهدئ، ليوقد أكثر مما يطفئ، ليهدم أكثر مما يبني.
إن ثقافة الكراهية لابد أن تزول من العقول والأنفس، وأن يعمل كل الكتاب وكل المثقفين وكل الدعاة والواعظين على استئصالها: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
علينا أن نتشبّث بكل المعاني الحضارية التي عرفتها مجتمعاتنا منذ مئات السنين، فالكلمة الطيبة صدقة، والمجادلة بالتي هي أحسن والابتسامة جواز مرور للمحبة، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى).