الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
ومنا من يهين نفسه ويحطم قدره عند المحسنين والتجار، ويحاول بكل الطرق والأساليب أن يكسب منهم المودة والفخار، وأن يكون من المقربين عندهم حتى يظفر بالدرهم والدينار، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام, وأعزنا بسيد الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأعلام.
أما بعد:
عباد الله: حديثنا اليوم إليكم عن موضوع هام وخطير في نفس الوقت؛ هام لأن النفوس تحتاج إلى التذكير به، وخطير لأن النفس إذا انزلقت فيه دخلت في دوامة خطرة، وسقطت في مستنقع آسن نتن، إنه موضوع عزة النفس.
إن ديننا الإسلامي الحنيف ربانا على عزة النفوس والاعتزاز بها، والشعور بقدرها، واستشعار منزلتها، وحذرنا من تدنيسها وإهانتها وتمريغ كرامتها وإذلالها، يقول الله -تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء : 70]، ويقول -سبحانه-: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد : 35].
لقد كرم الله النفس البشرية أعظم تكريم، وميزها عن غيرها بكل أنواع التمييز، وجميع وجوه الإكرام التي تشعرها بعزتها، وتميزها عن غيرها من النفوس الأخرى والأجناس المختلفة، فهل استشعر الإنسان عزة نفسه؟ وهل عرف قيمته وفضله عند الله -سبحانه وتعالى-؟.
يجب على كل إنسان أن يفهم ما معنى عزة النفس؟ وما الذي يعنيه هذا المصطلح العظيم؟ هل يعني ذلك أن يتجبر الإنسان بنفسه، ويتغطرس على غيره، ويشعر بأن كل شيء دونه وتحت قدمه؟ كلا!!.
إن عزة النفس معناها: أن يستشعر الإنسان أن قيمته تكمن في طاعته لربه، وإذلاله لخالقه، وعبوديته لسيده؛ لأن العزة لله، والكبرياء له وحده -جل جلاله وعز كماله- ولن يستشعر الإنسان عزة نفسه وقيمتها إلا بالارتباط بالله، والانقياد الكامل له، والعبودية المطلقة لوجهه –الكريم سبحانه-. يقول الله سبحانه وتعالى:(وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يونس : 65]، وقال: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [النساء : 139] ويقول:(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون : 8].
فمن أراد أن يعز نفسه ويكرمها ويشعرها بقيمتها فليتصل بالله، وليكن مع الله، وليكثر من الالتجاء إليه، والتوكل عليه، فإنه لا عزة للنفس إلا بالتمسك بحبله، ولا رفعة ولا سؤدد إلا باستشعار عظمته، ومن أراد أن تدنو نفسه، ويوقعها في السفل والهوان، فليخالف أمر الله، وليشرك غير الله مع الله، ومن فعل ذلك فقد أهان نفسه، وسلب منها عزتها، وأنزلها أرذل المنازل وأسفل الدركات.
إن بعض الناس يظن أن العزة معناها أن يشمخ على الناس ويتعالى عليهم، ويترفع بنفسه فوقهم، ويفخر عليهم بما آتاه الله -سبحانه وتعالى- من مال، أو ملك، أو سلطان، أو علم، بل ربما -والعياذ بالله- يعتز على الناس بمعتقداته الفاسدة وآرائه المخالفة لدين الإسلام ومنهجه، ويرى أن هذا من عزة النفس والاعتداد بها، وهذا تصور مغلوط، ومعنى منحرف للعزة؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- ذم الكفار حينما اعتزوا بعبادة الآلهة فقال: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم 81: 82].
بل هذا هو مذهب أتباع الفراعنة والطواغيت، فسحرة فرعون ظنوا أن العزة بيد فرعون، فألقوا حبالهم وعصيهم (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) [الشعراء : 44].
والمنافقون طلبوا العزة في موالاة الكفار والارتماء في أحضانهم، وظنوا أن هذا من العزة، فرد الله عليهم فقال: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [النساء 138: 139].
بل إن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه الكرام أن يردوا على أبي سُفْيَانَ يوم بدر حين قال: أُعْلُ هُبَلْ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَجِيبُوهُ" قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: قُولُوا: "اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ" قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى، وَلاَ عُزَّى لَكُمْ, فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَجِيبُوهُ" قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ" [البخاري (4043)].
وأمرنا ربنا -جل جلاله- أن نعتز بكلامه، ونعتلي بكتابه الذي أنزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو كتاب عربي مبين أنزله هداية للبشرية، ودستوراً لهذه الأمة المحمدية، ولهذا فإنه يجب على كل مسلم أن يعتز به، وأن يفاخر بكتابه المنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم- يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف : 44].
اليوم -للأسف الشديد- نرى كثيراً من أبناء المسلمين يخجلون من ذكر بعض مبادئ الإسلام ولا يعتزون بها، ويظهرون الخجل من ذكرها، ويتقهقرون ذات اليمين وذات الشمال عند سماعها، ويشعرون بالعار من التصريح بها فضلاً عن الدفاع عنها، وما هذا إلا لأنهم فقدوا معنى العزة بالله، وضيعوا الاعتزاز بدينه، وغابت عنهم العزة بالإسلام وشرائعه العظيمة، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون : 8]. يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالإِسْلاَمِ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ" [الحاكم (207)].
إن المسلم عندما يطلب العزة في الإشادة بالكفار، والانبهار بهم، والاعتزاز بما عندهم من الحق والباطل، ويفاخر بهم دون سواهم، فاعلم أنه قد فقد العزة الحقة، وانعكس عنده ميزان العزة، فلذلك اعتز بغير الإسلام، وظنها العزة وهي الذلة، وكل من طلب العزة في غير دين الله ومنهجه فقد انذلَّ وتذلل، والتبس عليه أمر العزة ومعناها الحقيقي. يقول الله تبارك وتعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر : 10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها المسلمون: ومن الصور الحسنة لعزة النفوس أن يعلي الإنسان نفسه عن الدناءة، ويرفعها عن المذلة والمهانة، ويبعدها عن كل أمر يتطلب الخنوع والانكسار للآخرين، وهذه الصور قد فقدها كثير من الناس في واقعنا -والله المستعان-.
فتجد فينا ومنا من يهين نفسه ويذلها عند أبواب السلاطين، يترجاهم ويتذلل لهم، ويتوسل إليهم بحق وبغير حق، وفي حاجة وفي غير حاجة؛ لأن نفسه الدنيئة قد ألفت الذل لهم، وتعودت على الخنوع عندهم، ورضت بهوانهم وقطراتهم التي يرون أن فيها مصلحة لهم، وتحقيقاً لأطماعهم وغاياتهم، فهذا يداهنه في فتوى، والآخر يمدحه بقصيدة عصماء، والثالث يبرر له أخطاءه الشنعاء، والرابع يلهج بذكره في كل صباح ومساء، وهلم جراً.
وفينا ومنا من يهين نفسه ويحطم قدره عند المحسنين والتجار، ويحاول بكل الطرق والأساليب أن يكسب منهم المودة والفخار، وأن يكون من المقربين عندهم حتى يظفر بالدرهم والدينار، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ" [ البخاري (2887) ].
وفي مجتمعنا من لديه القدرة على كفاية نفسه، وإبعادها عن سؤال الناس والنظر إلى ما في أيديهم، ولكن نفسه الذميمة لا تترك له المجال، فتجده يطلب هذا الشيء من ذلك الشخص، ويسأل ذاك هذا الأمر، ويسأل الناس أموراً بسيطة بإمكانه هو أن يوفرها للناس بدلاً من أن يطلبها منهم، ولكن الذلة والخسة تحول بينه وبين عزة النفس.
ومن الصور المخالفة لعزة النفس أن يذل الإنسان العزيز نفسه عند من هم دونه، كالمدرس الذي يذل نفسه عند طلابه، ويقدم لهم تنازلات تجعلهم يستهينون به ولا يحترمونه، أو الأب حينما يهين نفسه عند أبنائه ويسقط شخصيته أمامهم، فيبقى عندهم مسلوب العزة فاقد الشخصية، وكالزوج الذي ينذل لزوجته ويقتل عزته أمامها، فتكون هي المسيطرة عليه والمتحكمة فيه.
يقول القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني -رحمه الله- وكان عالماً فاضلاً عزيز النفس، فظن بعضهم أنه مترفع بشخصيته أو متكبر بنفسه، فرد عليهم في قصيدة عصماء, يقول فيها:
يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا | رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا |
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ | وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا |
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي | وَلَا كُلُّ مَنْ لَاقَيْتُ أَرْضَاهُ مُنْعِمَا |
إِذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى | وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا |
أُنزِّهُهَا عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَشِينُهَا | مَخَافَةَ أَقْوَالُ الْعِدَا فِيمَ أَوْ لَمَا؟ |
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي | لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا |
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً | إِذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا |
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ | وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا |
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا | مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا |
فالله الله -عباد الله- في عزة النفس، فإنها من أعظم مظاهر الرجولة، ومن أكمل صفات الشهامة، ومن تحلى بعزة النفس فقد ورث العفة والنزاهة، وتدرج في صفات الكمال.
بل إن المجتمع إذا سادت عزة النفس في نفوس أبنائه نمت الفضيلة فيه، وسلم من الشرور والأخطار، وصار معتزاً بالله، واثقاً فيه، معتمداً عليه، طالباً العزة منه، وإذا فقدت عزة النفس من النفوس فإنها ستهان ولن تُكرَم، ولن يُراعى أحد، ولن يحترم أي شيء آخر، وهذا يمكن أن يؤدي إلى الإجرام واللامبالاة بين أفراد المجتمع الواحد، نسأل الله السلامة.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم بديع السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام، نسألك يا ألله يا رحمن بجلالك، ونور وجهك أن تنور بكتابك بصائرنا، وأن تطلق به ألسنتنا، وأن تشرح به صدورنا، وأن تعز به نفوسنا، فإنه لأنه لا يعيننا على العزة بك غيرك ولا يؤتيها لنا إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك.