الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | حسين بن علي بن محفوظ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
معشر المؤمنين: إذا أحسن الزوجُ معاشرةَ زوجتِه، ورفقَ بها، ولم يقصِّرْ في حقوقها فلا عليه، ولا يضيرُه أن يقولَ الناسُ فيه ما يقولون، مثل قولهم: "فلان زوجته تتحكم فيه أو تركب عليه" ونحو ذلك من العبارات. فنَظرُ الناس إلى الأمورِ كثيرًا ما يخالفُ الشرع، وليس على نظرهم المُعْتَمَدُ في تمييزِ الحق من الباطل، والصحيحِ من عدمه، فليقولوا عنه ما شاءوا ما دام أنه قد التزم وصيةَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، واجتهد في أداءِ الحقوق. لكن ينبغي أن لا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي رفع بالأخلاق الأمم، وفرّجَ بالتقوى كلَّ غم وهم، والصلاةُ والسلام على أخيرِ الناس في الحل والحرم.
وأشهد أن لا إله إلا الله عظيمُ النعم، مبيدُ النقم، والداعي إلى معالي الأخلاقِ والهمم.
وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، أحسنُ من وطئ الثرى، ومشى على قدم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الفوز بالنعم.
معشر المؤمنين: روى الترمذي في سننه وابنُ ماجة والدارميُّ وابنُ حبان من حديث عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"[والحديث صححه الألباني].
وفي رواية الطبراني: "خِيَارُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ"[الطبراني].
وفي رواية لابن ماجة: "خياركم خياركم لنسائهم".
قال البيهقي: يعْنَى أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ مُعَاشَرَةَ أَهْلِهِ؛ فَهُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ، فَمُرَادُه: أَنَّ حَسَن الْعِشْرَة مَعَ الْأَهْل مِنْ جُمْلَة الْأَشْيَاء الْمَطْلُوبَة فِي الدِّين، فَالْمُتَّصِف بِهِ مِنْ جُمْلَة الْخِيَار مِنْ هَذِهِ الْجِهَة، وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهِ يُوَفَّق لِسَائِرِ الصَّالِحَات حَتَّى يَصِير خَيْرًا عَلَى الْإِطْلَاق.
وقد كان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم: أنّه جميلُ العشرة، دائمُ البشر، يداعبُ أهله، ويتلطّفُ بهم، ويوسّعُ عليهم في النّفقة، ويضاحكُ نساءه، حتّى أنّه كان يسابق عائشةَ أمّ المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- يتودّد إليها بذلك، قالت: "سابقني رسولُ اللّه -صلى الله عليه وسلم- فسبقته، وذلك قبل أن أحملَ اللّحم، ثمّ سابقتْه بعدما حملتُ اللّحم فسبَقني، فقال: "هذه بتلك" وَتَدَافَعَا فِي خُرُوجِهِمَا مِنْ الْمَنْزِلِ مَرّةً.
وكان إذا صلّى العشاءَ يدخل منزلَه يسمرُ مع أهله قليلاً قبل أن ينام، وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعَ أَزْوَاجِهِ حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ وَحُسْنَ الْخُلُقِ عملاً بقول الله -تعالى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 19].
بل كَانَ يُسَرّبُ إلَى عَائِشَة بَنَاتَ الْأَنْصَارِ يَلْعَبْنَ مَعَهَا، وَكَانَ إذَا هَوِيَتْ شَيْئًا لَا مَحْذُورَ فِيهِ تَابَعَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَتْ إذَا شَرِبَتْ مِنْ الْإِنَاءِ أَخَذَهُ فَوَضَعَ فَمَهُ فِي مَوْضِعِ فَمِهَا وَشَرِبَ، وَكَانَ إذَا تَعَرّقَتْ عَرْقًا -وَهُوَ الْعَظْمُ الّذِي عَلَيْهِ لَحْمٌ- أَخَذَهُ فَوَضَعَ فَمَهُ مَوْضِعَ فَمِهَا، وَكَانَ يَتّكِئُ فِي حِجْرِهَا وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا، وَرُبّمَا كَانَتْ حَائِضًا.
وَكَانَ عليه الصلاة والسلام: يَأْمُرُهَا وَهِيَ حَائِضٌ فَتَتّزِرُ ثُمّ يُبَاشِرُهَا، وَكَانَ يُقَبّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ مِنْ لُطْفِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ مَعَ أَهْلِهِ أَنّهُ يُمَكّنُهَا مِنْ اللّعِبِ وَيُرِيهَا الْحَبَشَةَ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي مَسْجِدِهِ، وَهِيَ مُتّكِئَةٌ عَلَى مَنْكِبَيْهِ تَنْظُرُ، وَكَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ.
وَكَانَ صلى الله عليه وسلم: إذَا صَلّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فَدَنَا مِنْهُنّ وَاسْتَقْرَأَ أَحْوَالَهُنّ، فَإِذَا جَاءَ اللّيْلُ انْقَلَبَ إلَى بَيْتِ صَاحِبَةِ النّوْبَةِ فَخَصّهَا بِاللّيْلِ، تقَولُ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: "كَانَ لَا يُفَضّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي مُكْثِهِ عِنْدَهُنّ فِي الْقَسْمِ، وَقَلّ يَوْمٌ إلّا كَانَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتّى يَبْلُغَ الّتِي هُوَ فِي نَوْبَتِهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا".
أيها الإخوة المسلمون: وثبت عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فلا يُؤْذِ جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ من ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ في الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لم يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا"[متفق عليه].
قال النووي -رحمه الله تعالى-: "فيه الحثُّ على الرفقِ بالنساء، والإحسانُ إليهن، والصبرُ على عوجِ أخلاقِهن، واحتمالُ ضعفِ عقولهن، وكراهةُ طلاقهن بلا سبب، وأنه لا مطمعَ في استقامتهن".
وقال المناوي -رحمه الله تعالى-: "وفيه ندبُ المداراة لاستمالةِ النفوس، وتألفِ القلوب، وسياسةِ النساء بأخذ العفو عنهن، والصبرِ عليهن، وأن من رام تقويمَهن فاتهُ النفعُ بهن، مع أنه لا غنىً له عن امرأة يسكن إليها.
وقال صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ"[أخرجه مسلم].
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه لم يضرِبْ في حياته كلها خادمًا ولا أحدًا من أهله "أزواجه" كما صحيح مسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يحلم عليهن، ويصبرُ على ما يبدرُ منهن من أخطاء؛ مراعاةً لطبيعتهن.
أسأل الله -تعالى- أن يحسن أخلاقنا، ويعيننا عل الاقتداء بنبينا حتى نكون من خيار الناس.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
المقدمة والوصية بالتقوى.
عباد الله: انظروا إلى هذه الأخلاق العظيمة والحلم والصبر على ضعف النساء وأخطائهن؛ فعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- في بَيْتِ عَائِشَةَ مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ يَنْتَظِرُونَ طُعَيْمًا قَالَ فَسَبَقَتْهَا -قَالَ عِمْرَانُ أَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ قَالَ حَفْصَةُ- بِصَحْفَةٍ فِيهَا ثَرِيدٌ قَالَ فَوَضَعْتُهَا فَخَرَجَتْ عَائِشَةُ فَأَخَذَتِ الصَّحْفَةَ -قَالَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحْجَبْنَ- قَالَ فَضَرَبَتْ بِهَا فَانْكَسَرَتْ فَأَخَذَهَا نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ قَالَ فَضَمَّهَا -وَقَالَ بِكَفِّهِ يَصِفُ ذَلِكَ عِمْرَانُ- وَقَالَ: "غَارَتْ أُمُّكُمْ".
فَلَمَّا فَرَغَ أَرْسَلَ بِالصَّحْفَةِ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ بِالْمَكْسُورَةِ إِلَى عَائِشَةَ، فَصَارَتْ قَضِيَّةً مَنْ كَسَرَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ [رواه الدار قطني وأصله في البخاري].
معشر المؤمنين: إذا أحسن الزوجُ معاشرةَ زوجتِه، ورفقَ بها، ولم يقصِّرْ في حقوقها فلا عليه، ولا يضيرُه أن يقولَ الناسُ فيه ما يقولون، مثل قولهم: "فلان زوجته تتحكم فيه أو تركب عليه".
ونحو ذلك من العبارات.
فنَظرُ الناس إلى الأمورِ كثيرًا ما يخالفُ الشرع، وليس على نظرهم المُعْتَمَدُ في تمييزِ الحق من الباطل، والصحيحِ من عدمه، فليقولوا عنه ما شاءوا ما دام أنه قد التزم وصيةَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، واجتهد في أداءِ الحقوق.
لكن ينبغي أن لا يبلغَ به التوددُ والإحسانُ إلى الزوجة: أن يتعدى حدودَ الله، ويطيعَها في معصيةِ الله، ويسكتَ عن تقصيرها، أو تجاوزِها لحدود الشريعة، فهذا هو الذي يُعابُ به الزوج، ويدل حقًّا على ضَعفه وقصوره.
والتسلطُ على الزوجة ليس من شيم الرجال الكرام، فضلاً عن أنه يخالف وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه تسلط على جنسٍ ضعيف، شبهه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالأسير في ضعفه، وقلةِ حيلته، فليس من الشجاعةِ التسلطُ عليه وقهرُه وظلمه؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "اسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ" [أخرجه الترمذي، وابن ماجة والنسائي في الكبرى].
والعاني هو: الأسير.
والأسير معلومٌ ضعفُه وعجزه، وعلى الرجل أن يترفَّع عن التسلطِ وقهر هذا الجنس اللطيفِ الضعيف، وخيرُ الحلمِ ما كان مع القدرة، كما أن خيرَ العفو ما كان عند المقدرة.
وعلى العكس من ذلك حالُ بعض الناس اليوم وقبل اليوم، تجدُه مع الناس حسنَ الخلق، لكن مع أهلهِ سيئَ الخلق -والعياذ بالله-: وهذا خلافُ هديِ النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والصواب: أن تكون مع أهلك حسنُ الخلق ومع غيرهم أيضًا لكن هم أولى بحسن الخلق من غيرهم.
ولهذا لما سئلت عائشة: ماذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته؟ قالت: "كان في مهنة أهله".
أي يساعدهم على مُهمات البيت، حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يحلبُ الشاةَ لأهله، ويخصفُ نعلَه، ويرقِّعُ ثوبه.
فمن مِنا اليوم يصنعُ ذلك؟!
مَن منا يساعد أهلَه في المطبخ؟
مَن منا يخيطُ ثيابه؟
من منا يخيطُ حذاءه؟
إنها أخلاقٌ عظيمةٌ لا تصدرُ إلا عن عظيم، فيا تُرى هل نكون نحن من أولئك العظماء؟
فتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم | إن التشبه بالكرام فلاحُ |
وقبل ذلك قول الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].