المنان
المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لقد بلَّغ -صلواتُ الله وسلامُه عليه- البلاغ المبين، وأبان السبيل القويم، والصراط المستقيم، ولم يَدَعْ لقائل مقالا، ولا لمتحذلق مجالاً، أبان دين الله، وأبان حدوده، وأوضح معالمه، على التمام والكمال؛ فالصراط المستقيم هو ما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمَن سلك سبيله، ولزم سنته، واتَّبَع هدْيَهُ، وسار على طريقه، فهو على صراط مستقيم ..
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقواه في السّر والعلن، والغيب والشهادة؛ فإن تقوى الله -جل وعلا- هي خير زاد يُبلِّغ إلى رضوان الله.
ثم اعلموا -رعاكم اللهُ- أنّ نعم الله على عباده كثيرة لا تُحْصَى، وأنَّ أجَلَّ نِعَمه -سبحانه- عليهم هدايته عبادَه المؤمنين إلى دينه القويم، وصراطه المستقيم، فهذه هي النعمة العظمى، والمنة الكبرى، فمَن هدي إليها فقد هدي إلى خير عظيم.
عباد الله: إنّ الهداية إلى الصراط المستقيم باستبانة معالمه، ومعرفة مناراته، والعلم بحدوده، والبعد عن نواقصه ونواقضه، أساسٌ للسعادة والفلاح، والفوز والنجاح، في الدنيا والآخرة، وحاجة العباد إلى الهداية إلى هذا الصراط هي أشد الحاجات، وضرورتُهم إلى معرفته والعلم به وتحقيقه أشدّ الضرّورات.
ولهذا -عباد الله- فإنّ مَنْ مَنَّ الله عليه بدخول هذا الصراط العظيم، ومعرفته دين الله القويم، أن يعرف لله -جل وعلا- نعمته عليه، وأن يشكره -سبحانه وتعالى- عليها، وأن يحقِّق الشكر على وجهه الصحيح، كمالا في العلم، وتماماً في العمل، ومواظبةً على طاعة الله تبارك وتعالى.
عباد الله: ويتأكّد في هذا المقام على كلِّ مسلم يريد لنفسه الخير والسعادة أن يكون اهتمامه بهذا الصراط علما وعملا وتطبيقا أشدّ من اهتمامه بأي أمر آخر؛ فإنه إذا أخلّ بهذا الصراط أو انتقصه أو أخل بشيء من جوانبه نقص حظه من السّعادة بحسب ذلك.
عباد الله: إن الهح -جل وعلا- بعث نبيه الكريم محمّدا -صلى الله عليه وسلم- ليدعو الناس إلى هذا الصراط، وليبين لهم معالمه وحدوه؛ ليحي من حَيَّ عن بيِّنَةٍ، وليهلك من هلك عن بينة، قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحَاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورَاً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى:52-53]، وقال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمَاً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:153].
لقد بلَّغ -صلواتُ الله وسلامُه عليه- البلاغ المبين، وأبان السبيل القويم، والصراط المستقيم، ولم يدعْ لقائل مقالا، ولا لمتحذلق مجالاً، أبان دين الله، وأبان حدوده، وأوضح معالمه، على التمام والكمال؛ فالصراط المستقيم هو ما بيّنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمَن سلك سبيله، ولزم سنته، واتَّبَع هدْيَهُ، وسار على طريقه، فهو على صراط مستقيم.
جاء في تفسير ابن جرير الطبري، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه سئل عن الصراط المستقيم، ما هو؟ فقال -رضي الله عنه-: تركَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أدناه، وطرفه الآخر في الجنة. ومعنى هذا -عباد الله- أن من تعلّم هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولزم طريقه؛ فإنه بذلك يكون ماضياً في صراط مستقيم، وفي طريق قويم، يُفْضِي به إلى جنات النعيم.
عباد الله: ثم إنّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- من كمال نصحه وحسن بيانه لهذا الصراط ضرب الأمثال، وأوضح الإسلام وصراطه أتم إيضاح، وتأملوا في هذا -رعاكم الله- ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه، وغيرهما، عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما، وعلى جَنْبَتَي الصراط سوران، وفي السورين أبواب، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وفي أول الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا ولا تعجوا؛ ومِن فوقِ الصراط داعٍ: يا عبد الله، لا تفتح الباب، فإنك إنْ فتحته تلج".
ثم بيَّن -عليه الصلاة والسلام- هذا المثل العظيم، قال: "أما الصراط فهو الإسلام، وأما السوران، أي: الجداران، فهما حدود الله، وأما الأبواب المفتّحة التي عليها ستور مرخاة فهي محارم الله، وأما الدّاعي الذي يدعو مِن أول الصراط فهو كتاب الله، وأما الداعي الذي يدعو مِن فوق الصراط فهو واعظُ اللهِ في قلب كلّ مسلم".
تأمل -أيها المؤمن- هذا الحديث العظيم، والمثَل الجليل الذي بين فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- مَثَل صراط الله المستقيم؛ فإن مثل صراط الله المستقيم مثل طريق طويل على يمينه وشماله جداران ممتدان بامتداد الطريق.
وفي الجدارين أبواب كثيرة مفتحة عن يمينه وعن شماله، وهذه الأبواب ليس لها أقفال ولا مفاتيح وإنما عليها ستائر فقط، عليها ستائر مرخاة، وهذه الأبواب تفضي لمن دخلها إلى الحرام، وهذه الأبواب لا تحتاج عند دخولها إلى وقت ومعالجة وبذل مشقة، فإنها ليس عليها إلا ستارة، والسِّتارة إذا كانت على الباب لا تكلِّف على الداخل شيئا، فإنه يدفعها بكتفه ويدخل سريعاً.
وفي هذا إشارة -عباد الله- أن الدخول على الحرام له أبواب كثيرة وعديدة عن يمين المرء وعن شماله، وهذه الأبواب دخولها لا يكلف المرء مشقة، ولا يأخذ منه وقتًا، ينحرف يمنة أو ينحرف يسرة فإذا بنفسه خارجَ الصراط؛ ثم إن هذه الأبواب عليها دعاة من شياطين الإنس والجنّ يدعون إليها ليَحْرفوا بمن استجاب لهم إلى الهاوية إلى حيث النار، أعاذنا الله وإياكم منها.
وأثر ابن مسعود المتقدم فيه توضيح وبيان لهذا المقام، فعندما سئل عن صراط الله المستقيم قال: تركنا رسول الله -صلى الهح عليه وسلم- في أدناه، وطرَفُه الآخر في الجنة، وعلى يمنته ويسرته جوادّ -أي طرق-، وعلى هذه الجواد رجالٌ يدعون إلى الدخول إليها، فمَن دخل في شيء منها أفضت به إلى النار، ومَن سَار على الصراط المستقيم أفضى به إلى الجنة.
عباد الله: ويوم القيامة يُنصَب صراط مستقيم على متن جهنم، ويُؤمر الناس بالمرور من فوقه، ويتفاوتون في قوّة مرورهم وضعفه بحسب قوة سيرهم على الصراط في هذه الحياة الدنيا، فمن الناس يوم القيامة من يمر على الصراط كالبرق، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كالركاب الإبل، ومنهم من يمر جريا، ومنهم من يمر مشيا، ومنهم من يمر على الصراط زحفا، ومَن سوى هؤلاء يُكَرْدسُون في نار جهنم؛ لأنهم تعثّروا في سيرهم على الصراط في هذه الحياة الدنيا، وأخذوا عنه ذات اليمين وذات الشمال.
والواجب عل العبد المؤمن أن ينصح لنفسه في السير على هذا الصراط بأن يسير عليه سيرا قويما، لا ينحرف عنه يمينا ولا شمالا، كما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في معنى قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت:30]، قال: هم الذين مضوا على صراط الله المستقيم ولم يَرُوغوا عنه يمينا وشمالا رَوَغَان الثعلب. هكذا الواجب على عبد الله المؤمن.
ثم تأمّل -عبد الله- أهمية القرآن وشدّة الحاجة إليه في المضي على هذا الصراط، فكتاب الله، وهكذا سنةُ رسوله -عليه الصلاة والسلام- فيهما العصمة من الزّلل، والأَمَنَة من الانحراف، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكما ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتابَ الله وسنتي".
وتأمل -أخي المؤمن- في هذا المثل واعظ الله الذي جعله في قلب كل مؤمن، وذلك -أخي- أن المؤمن حسن الإسلام، إذا أخذت به نفسه يمنة أو يسرة وجد في قلبه وَخْزاً وأَلَما، فهو لا يرتاح، ولا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال؛ فيرجع سريعا إلى صراط الله المستقيم، فهذا واعظ الله في قلب كل مؤمن.
إلا أن الإنسان إذا انغمس في الحرام، وتمادى في الباطل، وانهمك في الملذات والمحرمات، تبلد إحساسه، وذهب عنه واعظُه الذي في قلبه، وهذا هو معنى قول الله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14].
أسأل الله -جل وعلا- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يهديني وإياكم إليه صراطا مستقيما، وأن يقينا جميعا من الزّلل، وأن يعيذنا من الخطل، وأن يأخذ بنواصينا إلى الخير، وأن لا يكِلْنَا إلى أنفسنا طرفة عين، إنّ ربي لَسميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وصلى الله وسلم وبارك وأَنْعَم على عبد الله ورسوله ومصطفاه محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الخطبة الثانية:
أما بعدُ: عباد الله: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن السعادة في تقواه.
ثم -عباد الله- إن من بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- لصراط الله المستقيم، وتأكيده على العناية به، وتحذيره من الانحراف عنه ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: خطّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطّا مستقيماً، ثم خط على جنبتى هذا الخط المستقيم خطوطاً عديدة على يمينه ويساره.
ثم قال -عليه الصلاة والسلام- موضِّحا ومبينا، قال: "الخط المستقيم صراط الله، وهذه السبل سبل إلى النار، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، فالواجب على عبد الله المؤمن أن يجاهد نفسه في الثبات على هذا الصراط، والمضي عليه، إلى أن يفضي به إلى الجنة، ولْيَحذر أشد الحذر من الانحراف عنه ذات اليمين أو ذات الشمال.
والانحراف -عباد الله- له مسلكان أو طريقان: إحداهما الشهوة، والآخر الشبهة؛ فالدخول إلى الحرام إما عن تتبع الشهوات، أو الوقوع في الشبهات، فلْيَحْذَرِ العبد من هذين، وليسأل الله تبارك وتعالى أن يثبته على صراطه المستقيم، وليسأله -جل وعلا- ثبات قلبه على الإيمان، وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقول في دعائه: "يا مقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك".
نسأل الله -جل وعلا- لنا ولكم الهداية إلى الصراط، والثبات عليه إلى الممات، وأن يثبتنا جميعا على الصراط الذي ينصب على متن جهنم يوم القيامة، وأن يجعلنا وإياكم من النار من الناجين، وفي الجنة من الداخلين، بمَنِّه وكرمه وجوده وإحسانه؛ فإن ربي -سبحانه- أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين.
وصلوا وسلموا رعاكم على كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عشرا".
اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد...