الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أهل السنة والجماعة |
فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ - عِبَادَ اللَّـهِ - مِنَ اسْتِحْلَالِ المُحَرَّمَاتِ بِالتَّأْوِيلِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ نُهِبَتْ بِالتَّأْوِيلِ، وَاسْتُحِلَّتْ فُرُوجٌ بِالتَّأْوِيلِ، وَاسْتُبِيحَتْ دِمَاءٌ بِالتَّأْوِيلِ، وَالنَّاسُ إِنْ لَمْ يَسْتَوْفُوا حُقُوقَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَخَذُوهَا فِي الْآخِرَةِ، وَالمُنْتَهِكُ لِلْحُرُمَاتِ يُؤَاخَذُ بِانْتِهَاكِهِ لَهَا وَلَوْ كَانَ مُتَأَوِّلًا، وَالنَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَا زَالَ يَقُولُ لِأُسَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عِمْرَانَ:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَاب:70- 71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ نَجَاةِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا؛ ذَلِكَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّـهِ -تَعَالَى- حَرِيٌّ أَنْ يَغْفِرَهُ مَنْ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يُجَاهِرْ بِهِ.
وَأَمَّا حُقُوقُ الْخَلْقِ فَلَا سَلَامَةَ مِنْهَا إِلَّا بِأَدَائِهَا أَوِ التَّحَلُّلِ مِنْ أَصْحَابِهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْحَيَوَانَاتِ الْعَجْمَاءِ فَكَيْفَ إِذَنْ بِحُقُوقِ الْبَشَرِ الْعُقَلَاءِ؟!
وَالْحُقُوقُ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ كَالضَّرْبِ وَالْجَرْحِ وَالْقَتْلِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِرْضِ كَالْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ، وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالمَالِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ وَالْغِشِّ.
وَقَدْ يَسْتَهِينُ الْإِنْسَانُ بِحَقٍّ صَغِيرٍ وَلَكِنَّهُ سَيَحْمِلُهُ وَيُؤَدِّيهِ، وَالصَّغِيرُ مَعَ الصَّغِيرِ يَصِيرُ كَبِيرًا، وَالْقَلِيلُ مَعَ الْقَلِيلِ يُصْبِحُ كَثِيرًا، فَيُوَافِي الْعَبْدُ بِحُقُوقٍ كَثِيرَةٍ عَظِيمَةٍ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ خِلَالَ حَيَاتِهِ مَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا تَبْلُغُ هَذَا المَبْلَغَ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّـهِ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
لِنَتَخَيَّلْ أَنَّنَا نُحَاسَبُ عَنْ عُودِ سِوَاكٍ أَخَذْنَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِنَعْلَمَ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مَهْمَا كَانَتْ يَسِيرَةً سَنُؤَدِّيهَا. وَالْقَضَاءُ يَوْمَ ذَاكَ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ "فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".
وَكُلَّمَا عَظُمَ الْحَقُّ عَظُمَتْ مُطَالَبَةُ الْعِبَادِ بِهِ؛ لِحَاجَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَأَعْظَمُ الْحُقُوقِ بَيْنَ الْعِبَادِ مَا تَعَلَّقَ بِالدِّمَاءِ؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ تَتَعَلَّقُ بِالْأَرْوَاحِ، وَأَغْلَى مَا يَمْلِكُ النَّاسُ أَرْوَاحَهُمْ، فَإِذَا أُزْهِقَتْ أَرْوَاحُهُمْ ذَهَبَتْ دُنْيَاهُمْ كُلُّهَا. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ" (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَلِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الدِّمَاءِ الْحَفِظَ لَا الْإِهْدَارَ، حَتَّى الْكُفَّارُ لَا تُهْدَرُ دِمَاؤُهُمْ فِي الْجِهَادِ إِلَّا إِذَا رَفَضُوا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، وَرَفَضُوا الْخُضُوعَ لَهُ بِعَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي تُؤَمِّنُهُمْ، وَفِي الْجِهَادِ لَا يُبَادَرُونَ بِالْقِتَالِ حَتَّى تَبْلُغَهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا المُسْلِمُ فَالْأَصْلُ فِي دَمِهِ الْعِصْمَةُ، فَلَا يُسْتَحَلُّ إِلَّا بِمَا يُوجِبُ حِلَّهُ؛ وَذَلِكَ عَلَى الْيَقِينِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ وَلَا احْتِمَالَ وَلَا تَأْوِيلَ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ -وَهِيَ حُدُودُ اللَّـهِ تَعَالَى-تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَمَنْ قَاتَلَ المُسْلِمِينَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ، وَجَرَحَ مِنْهُمْ مَنْ جَرَحَ وَهُوَ عَلَى الْكُفْرِ، فَتَمَكَّنَ المُسْلِمُونَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا أَرَادُوا قَتْلَهُ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فَإِنَّهُ يُعْصَمُ دَمُهُ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى سَابِقِ فِعْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّمَا شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ خَوْفًا مِنَ الْقَتْلِ، كَمَا لَا يُقَالُ: إِنَّ الْكُفَّارَ المُحَارِبِينَ إِذَا عَلِمُوا هَذَا الْحُكْمَ فِي الْإِسْلَامِ شَهِدُوا شَهَادَةَ الْحَقِّ عِنْدَ هَزِيمَتِهِمْ لِيَحْقِنُوا دِمَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِظَاهِرِ قَولِهِمْ، وَتُحْقَنُ دِمَاؤُهُمْ، وَسَرَائِرُهُمْ إِلَى اللَّـهِ -تَعَالَى-، مَا لَمْ يَرْتَكِبُوا نَاقِضًا يَنْقُضُ إِيمَانَهُمْ، وَيُوجِبُ رِدَّتَهُمْ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّمَاءَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالتَّأْوِيلِ، وَأَنَّ أَدْنَى شُبْهَةٍ فِيهَا تَمْنَعُ سَفْكَهَا، وَأَنَّ الْخَطَأَ فِي حَقْنِ دِمَاءِ أَلْفِ كَافِرٍ مُحَارِبٍ أَهْوَنُ مِنَ الْخَطَإِ فِي سَفْكِ دَمِ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ، وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ المُحَقِّقِينَ مُجْتَمِعٌ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ المُلَّا عَلِيٌّ القَارِي: "قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إِذَا وُجِدَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَجْهًا تُشِيرُ إِلَى تَكْفِيرِ مُسْلِمٍ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ إِلَى إِبْقَائِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ فَيَنْبَغِي لِلْمُفْتِي وَالْقَاضِي أَنْ يَعْمَلَا بِذَلِكَ الْوَجْهِ" اهـ.
وَدَلِيلُ عَدَمِ اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ بِالتَّأْوِيلِ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ، قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَكَفَّ الأَنْصَارِيُّ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ" قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ. (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأُسَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟".
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ أُسَامَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَدْ أَثْخَنَ فِي المُسْلِمِينَ قَتْلًا وَطَعْنًا وَجَرْحًا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لِمَ قَتَلْتَهُ؟" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، أَوْجَعَ فِي المُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَسَمَّى لَهُ نَفَرًا، وَإِنِّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى السَّيْفَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: "وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" قَالَ: فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ -وَهُوَ مِمَّنْ كَفَّ عَنِ الْفِتَنِ، وَاعْتَزَلَ الْقِتَالَ- قَدِ اسْتَفَادَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَكَانَ يُذَكِّرُ بِهَذَا الْحَدِيثِ كُلَّ مَنْ يَدْعُوهُ لِلْقِتَالِ. قَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّـهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ، يَعْنِي: أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ) [الأنفال: 39]؟ فَقَالَ سَعْدٌ: "قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ".
فَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلِمَ خُطُورَةَ اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ بِالتَّأْوِيلِ؛ فَالصُّورَةُ الظَّاهِرَةُ لِأُسَامَةَ أَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا شَهِدَ الشَّهَادَةَ لِأَجْلِ النَّجَاةِ مِنَ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ مَا قَالَهَا حَتَّى تَمَكَّنَ أُسَامَةُ مِنْهُ، وَرَفَعَ السَّيْفَ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَدَّدَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَ أُسَامَةَ فِيهِ، وَأَلْزَمَهُ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟" وَأَغْلَظَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ" وَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَذَكَّرَهُ بِمَا هُوَ أَشَدُّ وَأَنْكَى وَهُوَ خَلَاصُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ هَذِهِ المُوبِقَةِ "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟!" وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ إِغْلَاظًا وَتَشْدِيدًا فِي الْإِنْكَارِ؛ حَتَّى تَمَنَّى أُسَامَةُ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ يَوْمَئِذٍ.
لَقَدْ أَنْسَاهُ هَذَا الْإِنْكَارُ الْعَظِيمُ فَضْلَ السَّبْقِ لِلْإِسْلَامِ، وَفَضْلَ مَا عَمِلَ مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ قَبْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الَّتِي كَانَتْ شَدِيدَةَ الْأَلَمِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَلَّمَ مِنْهَا أَنْ يَكُفَّ يَدَهُ عَنْ قِتَالِ مَنْ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَفَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ.
وَلَوْ أَنَّ كَافِرًا جَرَحَ مُسْلِمًا فِي المَعْرَكَةِ، وَقَطَعَ مِنْهُ مَا قَطَعَ مِنْ أَعْضَاءٍ، فَتَمَكَّنَ المُسْلِمُ مِنْهُ، فَشَهِدَ الْكَافِرُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَجَبَ عَلَى المُسْلِمِ كَفُّ يَدِهِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ قَدْ صَنَعَ بِهِ مَا صَنَعَ، وَإِلَّا لَصَارَ يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ لَا لِدِينِ اللَّـهِ -تَعَالَى-؛ وَذَلِكَ أَنَّ شَهَادَةَ الْحَقِّ تَعْصِمُ دَمَهُ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى احْتِمَالِ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَهَا لِيَنْجُوَ مِنَ الْقَتْلِ، مَعَ أَنَّهُ احْتِمَالٌ رَاجِحٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَيُؤْخَذُ بِالِاحْتِمَالِ الْأَضْعَفِ؛ تَعْظِيمًا لِشَهَادَةِ الْحَقِّ؛ وَدَرْءًا لِلْقَتْلِ بِالشُّبْهَةِ؛ وَلِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا تُسْتَحَلُّ بِالتَّأْوِيلِ، بَلْ يُطَّرَحُ التَّأْوِيلُ إِلَى الظَّاهِرِ.
وَحُجَّةُ ذَلِكَ حَدِيثُ المِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو الكِنْدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنَ الْكُفَّارِ فَاقْتَتَلْنَا، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لاَذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّـهِ، أَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّـهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ تَقْتُلْهُ" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، إِنَّهُ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ" (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).
فَحَدِيثُ أُسَامَةَ وَحَدِيثُ المِقْدَادِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَصْلَانِ عَظِيمَانِ فِي مَنْعِ اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ بِالتَّأْوِيلِ، وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَيْسَ عُذْرًا صَحِيحًا فِيمَنِ اسْتَبَاحَ دَمًا مَعْصُومًا، وَلَوِ اسْتَبَاحَهُ بِظَنٍّ رَاجِحٍ؛ إِذْ لَا بُدَّ مِنَ الْيَقِينِ فِي ذَلِكَ، وَيُصَارُ إِلَى الظَّنِّ الْأَضْعَفِ إِذَا كَانَ فِيهِ حَقْنٌ لِلدِّمَاءِ.
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَلَقَدْ قَرَّرَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا احْتَمَلَتِ الْكُفْرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ وَجْهًا، ثُمَّ احْتَمَلَتِ الْإِيمَانَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ؛ حُمِلَتْ عَلَى أَحْسَنِ المَحَامِلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ، وَهَذَا مَوْضُوعٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، وَمِنَ التَّدْلِيلِ عَلَيْهِ" اهـ.
نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَعْصِمَنَا مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ، وَأَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَنَا مِنَ الْغِلِّ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَأَلْسِنَتَنَا مِنْ لَوْكِ أَعْرَاضِهِمْ، وَأَيْدِيَنَا مِنَ التَّخَوُّضِ فِي دِمَائِهِمْ، وَبُطُونَنَا مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِهمْ. إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوا حُرُمَاتِهِ، وَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ (تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة: 187].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: التَّأْوِيلُ لِإِفْرَاغِ النُّصُوصِ مِنْ مَعَانِيهَا، وَتَعْطِيلِ أَحْكَامِهَا مَذْمُومٌ، وَهُوَ سَبِيلُ مَنْ يُرِيدُ الْفِتْنَةَ بِإِبَاحَةِ مُحَرَّمٍ أَوْ إِسْقَاطِ وَاجِبٍ، كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران: 7].
فَإِذَا كَانَ التَّأْوِيلُ يُؤَدِّي إِلَى إِبَاحَةِ دَمِ مُسْلِمٍ كَانَ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ؛ لِمَا فِيهِ مِنِ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّـهِ -تَعَالَى- وَأَذِيَّةِ المُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ قَتْلَ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِيهِ أَشَدُّ أَذًى لَهُ وَلِأُسْرَتِهِ، وَفِيهِ إِثَارَةٌ لِلْفِتْنَةِ، وَفِيهِ تَقْوِيَةُ المُجْتَرِئِينَ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ المُتَأَوِّلِينَ: "وَلَوْ عَلِمُوا أَيَّ بَابِ شَرٍّ فَتَحُوا عَلَى الْأُمَّةِ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَأَيَّ بِنَاءٍ لِلْإِسْلَامِ هَدَمُوا بِهَا، وَأَيَّ مَعَاقِلَ وَحُصُونٍ اسْتَبَاحُوهَا؛ لَكَانَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ... فَأَصْلُ خَرَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا إنَّمَا هُوَ مِنَ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ اللهُ وَرَسُولُهُ بِكَلَامِهِ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُرَادُهُ، وَهَلِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ وَهَلْ وَقَعَتْ فِي الْأُمَّةِ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ فَمِنْ بَابِهِ دُخِلَ إلَيْهَا، وَهَلْ أُرِيقَتْ دِمَاءُ المُسْلِمِينَ فِي الْفِتَنِ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ؟ وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ، بَلْ سَائِرُ أَدْيَانِ الرُّسُلِ لَمْ تَزَلْ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ حَتَّى دَخَلَهَا التَّأْوِيلُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ" اهـ.
فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ - عِبَادَ اللَّـهِ - مِنَ اسْتِحْلَالِ المُحَرَّمَاتِ بِالتَّأْوِيلِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ نُهِبَتْ بِالتَّأْوِيلِ، وَاسْتُحِلَّتْ فُرُوجٌ بِالتَّأْوِيلِ، وَاسْتُبِيحَتْ دِمَاءٌ بِالتَّأْوِيلِ، وَالنَّاسُ إِنْ لَمْ يَسْتَوْفُوا حُقُوقَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَخَذُوهَا فِي الْآخِرَةِ، وَالمُنْتَهِكُ لِلْحُرُمَاتِ يُؤَاخَذُ بِانْتِهَاكِهِ لَهَا وَلَوْ كَانَ مُتَأَوِّلًا، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا زَالَ يَقُولُ لِأُسَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...