العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
لقد تربى بلال وتعلم في مدرسة النبوة، ورافق النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا، مما كان له الأثر الكبير في شخصيته. ولقد اكتشف النبي -صلى الله عليه وسلم- موهبته ومهارته، وصوته النديّ، فأمره أن يؤذن، فكان أول مؤذن في الإسلام. عباد الله: لم يكن بلالا شخصا عاديا، بل ضرب للأمة صنوفا من أنواع التربية، ومن...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: لا خير في أمة لا سلف لها، ولا سلف يبارك إلا السلف الصالح، الذي ينشأ جيل الأمة على منهجهم.
ومن فضل هذه الأمة: أن جعل لها خير سلف، فكل واحد منهم نبراسا لوحده، يضيئ لها درب الخير، وخير سلف الأمة هو نبيها -صلوات ربي وسلامه عليه-، ومن بعده صحابته الكرام.
وإن من أوائل من أسلم مع النبي -صلى الله عليه وسلم- هو: بلال بن رباح مؤذن رسول الله، سنمر سريعا على جوانب من حياته، لنعرفه ونعرف به أبناءنا، وليتعرف أبناؤنا على سلفهم؛ ليقتفوا أثرهم، هو: بلال بن رباح الحبشي المؤذن، مولى أبي بكر الصديق، اشتراه ثم أعتقه، وكان له خازنًا، ولرسول الله مؤذنًا، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب.
واسم أبيه: رباح، واسم أمه: حمامة.
وقد ولد بعد حادث الفيل بثلاث سنين أو أقل.
وكان رجلاً شديد الأدمة، نحيفًا، طوالاً، له شعر كثير، خفيف العارضين.
كان من السابقين إلى الإسلام!.
وقد رُوي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبا بكر اعتزلا في غار، فبينما هما كذلك إذ مرّ بهما بلال وهو في غنم عبد الله بن جدعان، وبلال مُولَّد من مولدي مكة.
وكان لعبد الله بمكة مائة مملوك مولّد، فلما بعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أمر بهم، فأخرجوا من مكة إلا بلالاً يرعى عليه غنمه تلك.
فأطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه من ذلك الغار، فقال: "يا راعي، هل من لبن؟" فقال بلال: ما لي إلا شاة منها قوتي، فإن شئتما آثرتكما بلبنها اليوم، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "اِيت بها".
فجاء بها، فدعا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بقعبة، فاعتقلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحلب في القعب، حتى ملأه فشرب حتى روي، ثم حلب حتى ملأه فسقى أبا بكر، ثم احتلب حتى ملأه فسقى بلالاً حتى روي، ثم أرسلها وهي أحلب ما كانت، ثم قال صلى الله عليه وسلم-،: "هل لك في الإسلام؟ فإني رسول الله؟" فأسلم، وقال: "اكتم إسلامك".
ففعل وانصرف بغنمه، وبات بها، وقد أضعف لبنها، فقال له أهله: لقد رعيت مرعى طيبًا، فعليك به!.
فعاد إليه ثلاثة أيام يستقيهما، ويتعلم الإسلام، حتى علم المشركون بإسلامه، فقاموا بتعذيبه أشد العذاب!.
وروى البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله قال: "كان عمر يقول: "أبو بكر سيدُنا، وأعتق سيدَنا" يعني بلالاً.
وكان بلال أول من أذَّن للصلاة، وهو مؤذِّن الرسول-صلى الله عليه وسلم-؛ عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "نعم المرء بلال، هو سيد المؤذنين، ولا يتبعه إلا مؤذن، والمؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة".
لقد تربى بلال وتعلم في مدرسة النبوة، ورافق النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا، مما كان له الأثر الكبير في شخصيته.
ولقد اكتشف النبي -صلى الله عليه وسلم- موهبته ومهارته، وصوته النديّ، فأمره أن يؤذن، فكان أول مؤذن في الإسلام.
عباد الله: لم يكن بلالا شخصا عاديا، بل ضرب للأمة صنوفا من أنواع التربية، ومن الصبر والثبات في سبيل الله.
قال عبد الله بن مسعود: "كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد؛ فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، وأُلبسوا أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد".
وكان أميّة بن خلف: يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: "لا يزال على ذلك، حتى يموت، أو يكفر بمحمد" فيقول وهو في ذلك: أحد أحد.
قال عطاء الخراساني: "كنت عند ابن المسيب فذكر بلالا، فقال: كان شحيحا على دينه، وكان يعذب في الله، فلقي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لو كان عندنا شيء، ابتعنا بلالا، فلقي أبو بكر العباس، فقال اشتر لي بلالا، فاشتراه العباس، وبعث به إلى أبي بكر، فأعتقه".
وعن الشعبي قال: كان موالي بلال يضجعونه على بطنه، ويعصرونه، ويقولون: دينك اللات والعزى، فيقول: ربي الله أحد أحد، ولو أعلم كلمة أحفظ لكم منها لقلتها.
فمر أبو بكر بهم، فقالوا: اشتر أخاك في دينك، فاشتراه بأربعين أوقية، فأعتقه، فقالوا: لو أبى إلا أوقية لبعناه، فقال: وأقسم بالله لو أبيتم إلا بكذا وكذا -لشيء كثير- لاشتريته.
وعن ابن سيرين: أن بلالا لما ظهر مواليه على إسلامه مطوه في الشمس، وعذبوه، وجعلوا يقولون: إلهك اللات والعزى، وهو يقول: أحد أحد، فبلغ أبا بكر، فأتاهم، فقال: علام تقتلونه؟ فإنه غير مطيعكم، قالوا: اشتره، فاشتراه بسبع أواق، فأعتقه.
وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "الشركة يا أبا بكر" قال: "قد أعتقته".
فكان صلى الله عليه وسلم يريد مشاركة أبي بكر في أجر عتق بلال -رضي الله عنه-.
اللهم اعتق نفوسنا من رق الذنوب، يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: من كان الله وليه فهو العزيز، فبعد أن اشترى أبوبكر بلالا وأعتقه، لا زال يترقى في العز، ولم يذق ذلا بعد ذله القديم، فقد نجح في البلاء، فكان مقربا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما فرض الأذان كان بلال مؤذنا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى توفي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتمضي الأيام، ويعتقد بلال، ويهاجر إلى المدينة، ويخرج مع المسلمين إلى غزوة بدر، ويرى من بين جموع المشركين أمية ابن خلف، فيهتف بلال قائلاً: "لا نجوت إن نجا".
ويهجم عليه هجوم الأسد الجريح المنتقم، ويمكنه الله منه، فيقتله بيده التي كان يوثقها أمية، ويهتف المسلمون ببدر: "أحد أحد".
فقال فيه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أبياتاً:
هنيئاً زادك الرحمن خيراً | فقد أدركت ثأرك يا بلال! |
وهناك نتمثل قول الله -تعالى-: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128].
وشهد المغازي كلها.
ومن كرامة الله لبلال -رضي الله عنه-: لما فتحت مكة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلالا، فأذن فوق الكعبة، فقال بعض صناديد قريش: انظروا لهذا العبد يصعد الكعبة، فقال بعض من هداه الله منهم: الغبن إن دخل الجنة قبلك.
ولقد بشره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، روى مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لبلال عند صلاة الغداة: "يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة؛ فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة".
قال بلال: "ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورًا تامًّا في ساعة من ليل ولا نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي".
فهذه سنة سنها لنا بلال، وأقره النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتسمى سنة الوضوء، وركعتي الوضوء.
ولما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- اظلمت المدينة في عيني بلال، فما فيها مؤنس، وضاقت عليه الدنيا، فرحل للجهاد.
روى محمد بن نصر المروزي: من طريق الوليد بن مسلم، أخبرني سعيد بن عبد العزيز، وابن جابر وغيرهما: أن بلالا لم يؤذن لأحد بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأراد الجهاد، فأراد أبو بكر منعه، فقال: إن كنت أعتقتني لله، فخل سبيلي.
قال: "فكان بالشام حتى قدم عمر الجابية، فسأل المسلمون عمر: أن يسأل لهم بلالا يؤذن لهم، فسأله، فأذن يوما، فلم يُرَ يوما كان أكثر باكيا من يومئذ، ذكرا منهم للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
بعض كلمات بلال بن رباح:
كان يقول عن نفسه تواضعًا: "إنما أنا حبشي، كنت بالأمس عبدًا".
وعن هند امرأة بلال قالت: "كان بلال إذا أخذ مضجعه، قال: "اللهم تجاوز عن سيئاتي، واعذرني بعلاتي".
وفاة بلال بن رباح:
لما احتضر بلال نادت امرأته: واحزاناه! فقال: "واطرباه! غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبَه".
وقد مات بدمشق سنة عشرين، فدفن عند الباب الصغير في مقبرة دمشق، وهو ابن بضع وستين سنة.
عباد الله: كم في هذه الترجمة من العبر؟!
ومن أروعها: بيان عاقبة الصبر.
ومنها: أن الله يبتلى عباده ثم تكون العاقبة لهم.
ومنها: أنه لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان...