البحث

عبارات مقترحة:

القادر

كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...

الرفيق

كلمة (الرفيق) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) من الرفق، وهو...

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

كيف النجاة من العقوبات الإلهية وأسبابها؟!

العربية

المؤلف عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. غفلة الكثيرين عن أسباب عقوبات الأمم .
  2. الآيات الكونية رسل إنذار من الله تعالى .
  3. من صور ونماذج عقوبات الأمم .
  4. من أسباب حلول العقوبات على الأمم .
  5. من أسباب دفع العقوبات عن الأمم .

اقتباس

ولا تحسبوا أَنَّ عقوبات الله تقعُ سُدىً، أو أَنَّها ظَواهِر طبيعية عَادية كما يقولهُ المَخْدُوعُونَ ممَّن لُبِّسَ عَليهم بِظَاهِرٍ من العلومِ وهُم عَن الآخرةِ غَافِلون، أَلم يَسمعُوا: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).

الخطبة الأولى:

الحمد لله في الأولى والآخرة، نحمده ونشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، هدى -بإذن ربه- قلوبًا حائرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-.

أيها الإخوة: في هذا الزمن ترى تحوّلاتٍ للأجواءِ ومصائبَ وزلازلَ تُحيطُ بِك وتجعلنا خائفين مِن أن يُصيبنا ما أَصاب القوم، ترى شباباً وفتيات يُجاهرون بسوء أخلاقهم، ولهم أزياءُ وتجمعات وطقوس وحفلات، ترى أصحاب الحق يُهانون ويُتهمون، وأهلُ البَاطِل يَرجفون ويُجاهرون كأنَّهم الحقُّ، ويُفرقون بين الناس والأوطان، أَفلا نخاف إذًا من عقوباتٍ لله المهلكة إِن نحن سكتنا!!

كَثيرٌ مِن النَّاسِ بالأرضِ لاهُونَ سَادِرُون في غَيّهِم ولهوهم، وكأنَّ مَا يحدث من مَصائب وكوارث لا يَعنيهم؟! كيف لا نخاف وهذه عقوبات الله تصيبُ الأُمم حَولنا، مِن فَقدٍ للأَمنِ وفِتَنٍ وغَرقٍ وغَلاءٍ وَوَبَاءٍ وَغيرِ ذَلك من آياتِ الله الكُبرى وعُقُوبَاتِه العُظمَى التي يُخوف بِها عِباده، (يَا عِبَادِ فَاتَّقُون): (فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ).

فلنتحدث عن عقوباتٍ لأُممٍ عَصت وظنت أَنَّها بِمنجَاةٍ حتى فَاجَأها العِقَابُ على حينِ غَفْلَةٍ، وغياب دَورِ المصلحينَ عما يحصل لِنحَذرَ من تلك العقوبات.

عباد الله: آيات اللهِ الكونيةُ العظيمةُ المخيفةِ حين تأتي تُغني عن وَعظِ الواعظين وتَذكيرِ النَّاصحين؛ لأنها رَسولٌ من ربِّ العالمين، تُحذِرُ النَّاسَ مِن غضبِه، وتُنذِرُهُم سَخَطَهُ، نسأل الله السلامة.

وهي تدعو كُلَّ مُؤمنٍ صَادقٍ لوقفةٍ طويلةٍ، يُحاسِبُ فيها نفسه، ويُراجِعُ فيها أَعمَالَهُ، ودوره في الإصلاح، ويُدَقِقُ النَظر فيما بينهُ وبينَ الله تعالى، وبينه وبينَ عِبادِ الله، فليسَ بَيننَا وبين الله نسبٌ حتى تكونَ هذهِ العُقوبات لِمن حَولنا ونَسلَمُ نَحنُ مِنها ما لم نحرص على تطبيق شرعِ اللهِ وتركِ إيذاءِ عبادهِ واجتناب الظلم.

ولا تحسبوا -عباد الله- أَنَّ عقوبات الله تقعُ سُدىً، أو أَنَّها ظَواهِر طبيعية عَادية كما يقولهُ المَخْدُوعُونَ ممَّن لُبِّسَ عَليهم بِظَاهِرٍ من العلومِ وهُم عَن الآخرةِ غَافِلون، أَلم يَسمعُوا: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).

أولم يسمعوا: (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ). فلمن لُبِّس عليهم وغُرَّر بهم نقول: اتقوا الله، اتقوا الله وأسلموا له، ولا تنصبوا العداءَ والحرب بينكم وبين الله -عز وجل- بتصرفاتكم، فَإنَّ الله عزيزٌ ذو انتقام، قَويٌّ عَزيزٌ، فَعّالٌ لما يُريد، شديدُ المِحال، لا يُعجزِهُ شَيءٌ في الأَرضِ ولا في السَماءِ وَهُوَ السَميعُ العليم، فهُو الرَّزَاقُ ذُو القُوةِ المتين: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى).

كم ضرب الله من مَثلٍ في القرآن لعقوباتِ إلهية لشعوبٍ وأممٍ جانبت شرع الله وحاربته: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ). كانت قريةً تَنعمُ بأمنٍ واستقرارٍ، وطُمأنينةٍ ورغدٍ من العيشِ، يأَتيها رِزقُهَا بالصيفِ والشتاءِ، النِعمُ وافرة ولا يَعرفُ أَهلُهَا الجوعَ والخوفَ، فَهُم في أوج لَذاتِهم وسَعَادتهم لكنَّهم ظَنّوا أَنَّ ذلكَ بِسَبَبِ ذَكَائِهم وما حَبَا الله أرضهم من النِّعم، وأنَّهم يستحقون ذلكَ لِفضْلِهم وَمَكانتهِم، فَتَجَرؤُوا عَلى اِنتهاكِ مَحَارِم اللهِ، وتَجاوزِ حُدودِه سبحانه، مغترِّين بِإِمهالِ الله لهم، وَصبرهِ عَلى اِنحرافِهم وظُلمِهِم وَبغيهم، فبدلاً من شكرِ ربَّهم، واعترافهم بِإِحسَانِهِ إِليهم وَتَفضُّلِه عَليهم والتزامِ حُدُودِهُ، ومعَرِفَةِ حُقُوقِهِ، إِذَا بِهم يَتَنَكَرُونَ لِلمُنعمِ العظيمِ، يتجرؤُون في سَفَهٍ وغُرُورٍ على العزيز الحكيم، وسكت هنا صوت الناصحين المصلحين: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).

انتبه -أخي المؤمن- فَرَغدُ العَيشِ، وَسَعة الرزقِ، يتحولُ في طَرفَةِ عَينٍ، وَلمحةِ بَصَرٍ، جُوعاً يَذهبُ بِالعُقُولِ، وَتَتَصَدَعُ لَهُ القُلوبُ وَالأَكبَادُ، وإِذا البُطُونُ الملأى، يَتَضَوَّرُ أَصحَابُهَا جُوعَاً وَيَصطلُونَ حسرةً وَحِرمَاناً، وَإِذَا اَلأمنُ الذي كَانُوا يُفَاخِرُونَ بِهِ الدنيا، وَيَنْسَونَ -في عَجَبٍ وَغُرُورٍ- المتفضلَ بهِ سُبْحَانَهُ، والمنعم بِهِ -جَلَّ جَلاله-، إِذا بِهِ يَنْقَلِبُ رُعباً وهَلَعاً، لا يأمن المرءُ على نَفسِهِ وَعِرضِه فَضلاً عَن مَالِهِ ومُلكِه، فَانْتَشَر المجرمونَ والقتلةَ، يَسفِكُونَ دِمَاءَ النَّاسِ، وينتَهِكُونَ أَعرَاضَهُم، وَيحوزونَ أموالهم، فابتلُوا بالأوبئة المهلكة والزلازل المدمرة، والقُرآن حِينَ يَعرضُ بِوُضُوحٍ وجلاءٍ مآل تِلك القَريَةِ الظَالِمِ أَهلُهَا، فَهُو إِنَّمَا يُخَاطِبُنَا -نَحنُ الحاضِرينَ وغيرنا- حَتى يَرِثَ الله الأَرضَ وَمن عَليهَا، يُحَذِرُّنَا أَن نَقَعَ في ذَاتِ الخَطَأ، الذي وقعوا فيه ومآله، ولقد شاهدنا هذا التحوّل، رأينا الكويت في ليلةٍ تغيّر حالها، رأينا العراق تسلَّط عليها ظلمة وصليبيون، وفقد عندهم الأمن لسنين طويلة، وزلازل تسونامي كيف ضربت شواطئ من أساء، رأينا بلاداً آمنة مطمئنة انقلبت خوفاً وجوعاً يفري الأكباد، وينشر الفوضى في البلاد!! فهل ما رأيناه لم يوجد في التاريخ؟!

لقد ذاقت هَذِهِ الأُمةُ عَبر تَاريخها أَلواناً مِن العُقُوبَاتِ المدمرةِ، التي يَشِيبُ مِن هَولِهَا الولدان، ولولا أَنَّ الذي سطَّرها في كُتُبِهم ونقل لنَا أَخبارهم في مُصنفَاتِهم أئمةُ الإِسلامِ المحققون، لظننا ذلك ضرباً من الخيال والتهويل، نذكره ليس تهويلاً ولكن لَعَلَنا نَتعِظُ ونعتَبر، نلجأ إِلى رَبِنَا، إِذ لا ملجأَ مِن اللهِ إِلا إِليه، وإليكم طرفاً من الأخبار عن مصائب لا نحكم أنَّها عقوباتٍ لكنّها أنذرت الناس وجعلت المؤرخين يحذرون بعدما رأوها.

ذكر ابن الجوزي -رحمه الله- خَبرَ طاعونٍ أصاب مدينةَ البصرةَ العراقية، مات في اليومِ الأَولِ سَبعُونَ أَلفاً، وفي اليوم الثاني، واحد وسبعُونَ أَلفاً، وفي الثَالِثِ تجاوزوا خمسة وَسبعُينَ أَلفاً، وأَصبحَ النَّاسُ في اليوم الرابع مَوتَى إِلا قَليلٌ مِن آحادِ النَّاسِ، قال أبو النفيد -وكان قَد أَدركَ هذا الطَاعُون-: كُنَّا نَطُوفُ بِالقَبَائِل وَندفنُ الموتَى، فلما كَثروا لَم نقو عَلى الدفن، كُنا نَدخلُ الدارَ، وقد مَات أَهلها، فنسد بَابها عَليهم. وفي أَحداثِ سَنةِ تِسعٍ وَأَربعين وأربعمائِةٍ من الهجرةِ.

ذكر ابن كثير -رحمه الله- خَبرَ غَلاءٍ وجوعٍ  أصاب بغداد، بحيث خلت أكثر الدور، وسُدت على أَهلها الأبواب، لموتِهم وفَنائهم، وأَكل الناسُ الجيفَ والميتةَ، من قلِّةِ الطعامِ، ووقع وباءٌ بالأهوازِ وما حولها، حتى أطبق على البلادِ، وكان أكثرُ سببِ ذلكَ الجوع، فكان الناس يأكلونَ الكِلاب، وينبشونَ القبور، وليس للنَّاس شُغلٌ في الليل والنَّهار، إلا غسلُ الأموات ودفنُهم، وذكر في أحداث سنة اثنتين وستين وأربعمائة من الهجرة ما أصاب بلاد مصر، من الغلاءِ الشديدِ، والجوعِ العَظيمِ، حتى أكلوا الجيف والميتة والكِلاب، وكان لا يجسر أحدٌ أن يدفنَ ميتهُ نَهاراً، وإِنَّمَا يَدفنِهُ لَيلاً خفيةً، لئلا يُنْبَشَ قَبْرُهُ فَيُؤْكَل.

أيها المسلمون: إنَّ هذهِ الكوارث المفجعة، ليست ضرباً من الخيال، وليس فيها شيء من التهويل والمبالغة، فالله يقول: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

إنَّ الذي نشأ منذ نُعومةِ أظفارهِ في بحبوحةٍ من العيش، لم يذق مرارةَ الجوعِ طرفةَ عينٍ، وفي أمن من الله وأمان؛ حَريٌّ بهِ أن يعجب مما يسمع، لكن سلوا الآباءَ والأجداد ممن بعضهم معنا الآن الذين اصطلوا بنار الجوعِ والظمأ، دَهراً طَويلاً، كان الخوف يملأ الأرض هنا من قطاعِ الطريقِ والسلبِ، يتضح أنه ليس في الأمر غَرابةً من قريبٍ أو بعيدٍ، فاعتبروا يا أولي الأبصار، اسألوهم عن سنة الجوع عام 1327هـ، حين أَكلوا في نجد هنا جيف الحيوانات، بل سَردوا قِصصاً عن أكل الأطفال، وهربوا من الجوعِ للعراقِ والهندِ وغيرها ممن يأتي أهلها اليوم عندنا للعمل، وكذلك عام 1337هـ سنة الرحمة نهاية الحرب العالمية الأولى، حين انتشر الوباء وكثر الموت، فكانت تُجهز الجنائز وتوضع على الأبواب لعل أحداً يرحم فيأخذها ليصلي عليها من كثرتها.

سلوا الشام حاضرة الإسلام ومنبع الأنهار والمزارع والغذاء والفاكهة عن جوعٍ يمر بأهلها الآن، حتى رأينا من يأكل الحيوان، والأطفال يموتون بالتجمد، وعظام الجلد بارزة من الجوع: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ).

أيها المسلمون: قد تكون تلك عقوبات، وقد تكون فتنًا واختبارًا، لكننا مُطالبونَ بالأسبابِ، وقد ورد بعضها في الكتاب والسنة، فمن أَسبابِ العُقوباتِ المدمرةِ والفواجعِ المعاصي المُهلكةِ، إِقصاء الشريعة عن الحكم والتشريعِ، والله يتوعدُ الأُمَّة إن هي فعلت ذلك بِالخزي والنكال في الحياة الدنيا والآخرة: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

ومن أَسبابِ العُقُوبَاتِ في الدنيا قبل الآخرة: إِشَاعَةُ الفَاحِشة، إظهارها وإعلانها، كم من قناةٍ اليوم تعلن هذه الفاحشة تبث في بيوتنا وفي أوساطنا وفي إعلامنا: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

أليس يُجاهر اليوم بفعل الفواحش، وتصويرها وعرضها؟! رأينا الشذوذ الجنسي المعلن وتجمعاتهم، ومن لم يعرف بها فهو بعافية، لكنه موجود وتقاومه الجهات الرسمية بحمد الله!! قنواتٌ تعرض ما ساء من الأخلاق لا تبالي بالقيم والأخلاق، إخراج للمرأة مِن بَيتها بِشتى الدعاوى الباطلة، وعرض الفَسادِ والفَنِّ الرخيص، بث السُمُومِ والأفكار المستوردة: "وما أعلن قوم الفاحشة، إلا عمتهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم".

من أَسبابِ العُقُوبَاتِ: مَنعُ الزكاة، تلك التي لو قام أَثرياءُ المسلمينَ بِأَدَائِهَا كما يجب لما وجدت فَقيراً ولا مُحتَاجاً، قال -عليه الصلاة والسلام-: "وما منعَ قَومٌ زَكاةَ أَموالِهم إِلا مُنعوا القَطر مِن السَمَاءِ، وَلولا البَهَائِمِ لم يمطروا". رواه ابن ماجه.

وقد يَستَخِفُّ أَقوامٌ بِهذهِ العُقوبة ويستطرفونها لأنَّهم اعتادوا تدفق المياهِ ووفرتها في بيوتهم، لَكِنَّهم لو قَلَّبوا النَّظَر يمنةً ويسرةً، في البِلادِ التي أَصابها القَحطُ والجفَافُ، ورأوا أهمية المطر لَعَلِمُوا أَنَّهم كانوا واهمين، وعن الصراط ناكبين.

من أَسبابِ العُقُوبَاتِ كذلك: موالاة الكفار والتقربِ إِليهم بِالمودَةِ والمحبةِ نفاقاً، حتى رأينا من يدعو لنصر اليهود على إخوانه المسلمين عياذاً بالله: (بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً).

وقد حدّثنا التَاريخ عن عُقوباتٍ حَصلت لِبعض الأُمم التي والت الكافرين، كما حصل في بلادِ الأَندلس عندما والى أُمراءِ الطوائفِ النصارى، فنفضوا البِسَاطَ مِن تحت أَقدامهم، وألقوا بهم في مزبلةِ التاريخ، وأَصبحت الأندلس بحضارتها وآثارها حسرةً في نفسِ كل مُسلمٍ.

من أسبابِ العُقُوبَاتِ كذلك: تركُ الأَمرِ بِالمعروفِ والنَهي عن المنكر، والذي بتركهِ تَسْتَفحَلُ الفَاحِشَةُ وَتَعُمُ الرَّذِيلة، ويستطيلُ الشر، وتخربُ البِلادُ والعبادُ، وينتشر الفساد؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لـتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم". رواه الترمذي.

كم من كاتب في صحيفة أو قناة، يحارب هذه الشعيرة ويُريد لهذه الفريضة أن تموت ويُتهم رجالها بأنهم يصادرون الحريات!! رغم دعم دولتنا لها وهي من نرى نتاجها.

من أَسبابِ العُقُوبَاتِ كذلك: اِنتشارُ الظُلم في المجتمعات، غِيَابُ العَدلِ فيهِا، فَيَأْكُل القَويُّ الضَعيفَ، ويُحْتَقر العَامل والفقير، وَيتسلطُ صَاحِبُ الجاهِ وَالمكَانَةِ عَلى المسالِم المسكينِ، وَحينَ تَسودُ هَذهِ الأَخلاق الذَمِيمَة، فَقد آن أَوان العُقوبة، واقترب أجلُّها لو كانوا يفقهون، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ النَّاس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".

من أَسبَابِ العُقُوبَاتِ: فُشُوُ الربا وانتِشَارُه، حَيث تَعاطَاهُ الكثير، وأَلِفَهُ الأَكثرون، وقَلَّ لَهُ المُنْكِرُون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)، به ذهابُ بَرَكة المال: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)، ورأينا هذا المحق حصل في عددٍ من البلاد.

من أَسبابِ العُقُوبَاتِ كَذلِك: ظُهُورُ المعَازِفِ وَشُربُ الخمُورِ، وَقد اِنتشر الغِنَاءُ بَينَ النَّاسِ حَتَى عُدَّ أَمراً مَعروفاً، تقام لأجله المسابقات التي ترفع من شأنه، وماذا تقدم لنا؟! تقدم لنا أجيالاً من المغنين وكأنه تميز، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف"، فقال رجلٌ من المسلمين: يا رسول الله: ومتى ذلك؟! قال: "إذا ظهرت القِيانُ وَالمعازِفُ وَشُرِبت الخمُورُ".

من أَسبابِ العُقُوبَاتِ: الإِسرافُ والتبذيرُ في المأكولات والمشروبات والبذخِ في الزِّينَاتِ والحفلاتِ، وكذلك قطع رحم القرابات.

أيها المسلمون: أسباب العقوبات كثيرة، والموضوع متشعبٌ وطويلٌ، لكن في الإشارة ما يغني عن العبارة، وما لا يدركُ كُلُّه لا يترك جله، وقد يقول البعض: هذه دولٌ متطورة، وهي كافرة ومجاهرة، وهي سالمةٌ من العقوبات التي ذكرت، فنقرأ عليه قول الله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).

كما أنهم لم يسلموا من تفككٍ وعواصفٍ وأنواع أخرى من العقوبة: (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعله السفهاء منا، ولا تسلّط علينا الظلمة والطغاة، واكفنا شر العقوبات، وعُمَّنا بالخير والأمن والأعمال الصالحات، أقول ما تسمعون.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

إننا حين نذكر العقوبات إنما لنحذر من أسبابها، ولنحذر -إخوتي- من نظرة اليأس من روح الله والتشاؤم، فإنه -ولله الحمد- في الأمة خير كثير ينبغي ذكره وتشجيعه وإظهاره ليعُمَّ الخير، ويقصر الشر، كم حارب أناسٌ الإسلامَ ودينَ الإسلام وتعاليمَ الإسلام، ونحن -ولله الحمد- نرى الإسلام في ازديادٍ فلله الحمد والمنة، إذا جاء الحج وجاءت العمرة رأيت الناس يفدون إلى هذه البلاد ويفدون إلى كعبة الله المشرفة، عيونهم تدمع، هذا كله من الخير العظيم الموجود في أفئدة هذه الأمة.

وإننا حين نرى الهداية تعم أرجاء الأرض، ونرى عمل الخير والبذل له والوقف والصدقة في قلوب كثير من المحسنين نعلم أننا على خير بإذن الله، حينما نرى فقراء المسلمين -رغم عوزهم، رغم خوفهم- متمسكين بدينهم، متعاطفين معه، يحاربهم الطغاة وهم ينادون: يا الله، ما لنا غيرك يا الله، حينما نرى شباباً يخدمون دينهم وأوطانهم ويضحون بالغالي والنفيس للمحافظة على قيم وتعاليم دينهم ووحدة كلمتهم أوطانهم، بدلاً من السعي للفرقة والتحزب والتخريب الذي يمارسه من لا يدرك هذا المعنى العظيم وهو جمع الكلمة.

ومن الأسباب التي تدفع تلك العقوبات: وجود المصلحين الناصحين الذين ينبغي أن نؤيدهم لا أن نحاربهم، ينبغي أن ندعمهم ونشجعهم.

وكذلك من الأسباب المهمة التي قد ينساها الناس لاسيما وقت النعمة: اللجوءُ إلى الله والتضرع إليه: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ).

اللهم يا واحد يا أحد، يا فرد يا صمد، نسألك -يا الله- أن تجمع كلمتنا على الحق والدين، وأن تنجينا من غضبك وعقوبتك وعذابك، إن عذابك الجدَّ بالكفار مُلحق، اللهم جنبنا الغلاء والبلاء والوباء والظلم والفرقة وشماتة الأعداء، وأدم علينا نعمة الأمن والإيمان، اللهم إنا نستنصرك لإخواننا في الشام وغزة على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم إلى من تكلهم؟! إلى عدوٍّ يتجهمهم؟! أم إلى قريبٍ ملكته أمرهم؟! أم إلى فاقدي الحيلة عن نصرتهم، انصرهم -يا الله- يوم قلّ الناصر، وأعنهم يوم فقد المعين، أنت ربُّ المستضعفين، اجمع كلمة إخواننا في مصر وتونس وليبيا على الحقِّ، وانصر السنة بالعراقِ على الرافضةِ المعتدين، وفي اليمن على الطغاة الحوثيين يا رب العالمين.