البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | يوسف بن جمعة سلامة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
أيها المسلمون: لقد كرم الإسلام جميع أبنائه بدون تمييز لجنس، أو لون، وأوجب رعاية أفراد المجتمع والإحسان إليهم، وبين أن لكل فرد دوره في المجتمع، وفي مقدمتهم ذوي الاحتياجات الخاصة، فهم جزء هام من مكونات المجتمع، ولهم دور بارز في رفعته والنهوض به كغيرهم من الشرائح. بل وقد يتفوقون على غيرهم في كثير من الأحيان، حيث نبغ عدد كبير منهم، فتولوا رئاسة الجامعات والمعاهد العلمية، وألفوا المجلدات خدمة لدين الله؛ فمنهم على سبيل المثال: الإمام محمد بن عيسى الترمذي صاحب كتاب السنن، وهو من أشهر علماء الحديث، وكان ضريراً. وكذلك الإمام ...
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: يقول الله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة: 2].
بمناسبة اليوم العالمي لذوي الإحتياجات الخاصة يحتم علينا معرفة نظرة الإسلام حتى يكون المسلم على بينة من أمور دينه، فقد أرشد الإسلام أبناءه إلى ضرورة العناية بالضعفاء، وذوي الاحتياجات الخاصة الذين أصيبت أجسامهم وحواسهم بأمراض مزمنة، وأصبحوا يعيشون أوضاعاً صعبة نتيجة لذلك.
ولا شك أن التسميات السلبية مثل المعوقون، والمتخلفون عقلياً تترك أثراً سلبياً.
ولكن التسميات الإيجابية مثل ذوو الاحتياجات الخاصة، تعطي انطباعاً جيداً لهم في المجتمع، فالإسلام حثنا على مناداة الإنسان بأحب الأسماء إليه.
إن ديننا الإسلامي الحنيف لا ينظر إلى هؤلاء على أنهم عبء على المجتمع، فكل واحد من هؤلاء هو مواطن صالح يستطيع أن يخدم دينه ووطنه، كباقي أبناء المجتمع، ذلك أنه مما ينبغي أن يدركه الناس أن المعاق في ابتلاء شاء الله أن يبتلى به الناس.
والإسلام يحث أبناءه على الصبر في مواجهة متاعب الحياة ومصائبها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
ويقول أيضاً: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة" يريد عينيه.
أيها المسلمون: لقد اهتمت أحكام الشريعة الإسلامية بالضعفاء، وذوي الاحتياجات الخاصة اهتماماً عظيماً يرقى إلى أعظم درجات الاهتمام وأسماها، حيث إن النصوص الشرعية تحث أبناء المجتمع الإسلامي على وجوب رعايتهم، والوقوف بجانبهم ليحيوا حياة كريمة، فقد طالب القرآن الكريم المسلمين بكف الأذى المعنوي عن المعوق؛ كما ورد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ) [الحجرات: 11].
وبين عليه الصلاة والسلام فضل هذه الشريحة الضعيفة، فقال: "هل تنصرون، وترزقون إلا بضعفائكم".
يعني أن النصر والرزق يأتيان من الله ببركة هؤلاء.
ووضع الإسلام قاعدة تدفع عنهم المشقة والحرج، فقال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)[البقرة: 286].
أيها المسلمون: لقد كرم الإسلام جميع أبنائه بدون تمييز لجنس، أو لون، وأوجب رعاية أفراد المجتمع والإحسان إليهم، وبين أن لكل فرد دوره في المجتمع، وفي مقدمتهم ذوي الاحتياجات الخاصة، فهم جزء هام من مكونات المجتمع، ولهم دور بارز في رفعته والنهوض به كغيرهم من الشرائح.
بل وقد يتفوقون على غيرهم في كثير من الأحيان، حيث نبغ عدد كبير منهم، فتولوا رئاسة الجامعات والمعاهد العلمية، وألفوا المجلدات خدمة لدين الله؛ فمنهم على سبيل المثال: الإمام محمد بن عيسى الترمذي صاحب كتاب السنن، وهو من أشهر علماء الحديث، وكان ضريراً.
وكذلك الإمام الأعمش شيخ المحدثين، كان أعمش العينيين.
والإمام قالون أحد أشهر أئمة القراءات كان رجلاً أصم لا يسمع.
وعطاء بن أبي رباح الفقيه المعروف الذي كان ينادي عنه في موسم الحج: "لا يفتى الناس إلا عطاء بن أبي رباح" حيث حدّث أحد خلفاء بني أميه أبناءه عنه، قائلاً: يا أبنائي تعلموا العلم فو الله ما ذللت عند أحد إلا هذا، عطاء بن أبي رباح كان رجلاً يصفه الذين ترجموا له بأنه كان أسوداً، أفطساً، أعرجاً، أشلاً.
وكذلك ابن الأثير صاحب الأصول كان مصاباً بمرض في ركبته ولم يستطع الأطباء معالجته، فقال لهم: دعوني إنني لما أصبت بهذه العاهة ألفت جامع الأصول، ويتكون من أحد عشر مجلداً.
وكذلك النهاية في غريب الحديث، ويتكون من أربع مجلدات.
لقد كتب رحمه الله هذه المراجع العلمية، وهو مقعد لا يستطيع القيام.
وكذلك سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي كان الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية -رحمه الله-، فقد كان فاقداً للبصر، إلا أنه كان علماً من أعلام الشريعة، وإماماً من الأئمة المجتهدين.
وغير هؤلاء كثير -رحمة الله عليهم جميعاً-.
أيها المسلمون: لقد استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- بحكمته من دمج هذه الشريحة الهامة دمجاً كاملاً في المجتمع الإيماني، حيث كلفهم بأعمال جليلة، كما قام هؤلاء بجهد كبير في خدمة الدعوة الإسلامية، ونضرب لذلك أمثلة؛ منها:
الصحابي عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله عنه- فقد كان من الصحابة الأجلاء -رضي الله عنهم أجمعين- وكان أعمى وقد ذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليجلس معه، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم لانشغاله بدعوة صناديد قريش وسادتها، لعل الله يشرح صدورهم، فجاء عتاب الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام- في آيات تتلى إلى يوم القيامة: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى)[عبس:1-2].
وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكرم ابن أم مكتوم في تعامله دائماً، فإذا ما رآه كان صلى الله عليه وسلم يستقبله، قائلاً: "أهلا بمن عاتبني فيه ربي".
كما وولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن أم مكتوم على المدينة في بعض الغزوات، فهو يتولى الخلافة نيابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وذلك دليل على تفعيل دور المعوق، ومدى الثقة بهم، واحترام هذه الفئة الخاصة من المجتمع الإسلامي.
كما وجعله مؤذنا له، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: "إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن ام مكتوم".
ومن هذه الأمثلة المشرقة أيضاً: الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فقد كان من السابقين الأولين في الدخول في الدين الإسلامي الحنيف، وهو غلام معلَّم، كما قال له الرسول -عليه الصلاة والسلام-.
وكان رضي الله عنه أول من جهر بالقرآن الكريم بمكة.
وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يسمع القرآن الكريم منه.
وكان يحسب من أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لما روي عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كثرة دخولهم ولزومهم له".
وكان عبد الله -رضي الله عنه- من أشد ذوي الإعاقات في المجتمع، إعاقات بدنية، حيث كان رضي الله عنه قصيراً جداً بالنسبة للقياس الجسدي، ولكنه كان عملاقاً في مقياس العطاء والعمل، ويؤيد ذلك ما جاء في كتب السيرة: أن ابن مسعود صعد شجرة ليأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيء منها، فنظر أصحابه -رضي الله عنهم- إلى دقة ساقيه فضحكوا منها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما تضحكون لَرِجْلُ عبد الله يوم القيامة في الميزان أثقل من جبل أحد".
لقد تمكن ذلك الصحابي الصغير جسداً أن يصبح عملاقاً، وأن يحكم العراق.
وهكذا كان عبد الله بن مسعود، حيث استطاع وهو في إعاقته أن يتبوأ مواقع متقدمة في الحياة، ولم يذكر أحد في سيرته أنه من ذوي الإعاقات؛ لأن الأمة نظرت إلى علمه وعطائه وفضله، كيف لا وهو أحد أساتذة القرآن الكريم في عهد النبوة وما بعدها؟!.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله...
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: وفي ميدان الجهاد ضرب هؤلاء الرجال من ذوي الاحتياجات الخاصة أروع الأمثلة في التضحية والفداء، وفي مقدمة هؤلاء الصحابي الجليل عمرو بن الجموح أحد الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- وكان أعرج، فلما جاءت غزوة أحد، ورأى أبناءه يتجهزون للقاء العدو، نظر إليهم وهم يتوهجون شوقاً إلى نيل الشهادة والفوز بمرضاة الله، فأثار الموقف حميته، وعزم على المشاركة في المعركة، لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم، فهو شيخ كبير طاعن في السن، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج، فقالوا له: يا أبانا إن الله عذرك، فعلام تكلف نفسك ما أعفاك الله منه؟!.
فغضب الشيخ من قولهم أشد الغضب، وانطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكوهم فقال: يا رسول الله، إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير، وهم يتذرعون بأني أعرج، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، فقال الرسول -عليه الصلاة والسلام- لأبنائه: "دعوه، لعل الله -عز وجل- يرزقه الشهادة".
فخلوا عنه إذعاناً لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسقط رضي الله عنه شهيداً في غزوة أحد، إنه رجل صدق الله، فأكرمه الله بالشهادة.
أيها المسلمون: إن شعبنا الفلسطيني المرابط يحتضن عشرات الآلاف من ذوي الاحتياجات الخاصة "الجرحى والمعاقين" جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.
وما استعمال قوات الاحتلال الإسرائيلي لقنابل الفوسفور الأبيض في حربها الأخيرة الإجرامية على قطاع غزة عنا ببعيد، حيث تسببت في حروق كثيفة، وتشوهات كبيرة.
كما أصيب الكثير من أبناء شعبنا الفلسطيني بإعاقات دائمة.
هذه الشريحة الغالية بحاجة ماسة إلى علاج دائم، ومراكز للتأهيل، ليشقوا طريقهم في الحياة، وليساهموا في بناء هذا الوطن العزيز، فلا بد من توفير الأعمال المناسبة لهم، فالتعاون على الخير سبيل هذه الأمة منذ أشرقت شمس الإسلام، ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.
لقد حث الإسلام على ضرورة العناية بذوي الاحتياجات الخاصة؛ لأن كل واحد منهم فرد في المجتمع له حقوقه وعليه واجباته، لذلك أصبح من الأهمية إمكان تأهيله، لاستعادة قدراته البدنية، وتكيفه النفسي والاجتماعي، بما يتناسب ونوع الإعاقة التي يعاني منها، كي يحيا الحياة الكريمة ذات المستوى اللائق بكرامته كإنسان، بحيث يستطيع أن يشارك في عملية التنمية، تنمية مجتمعة ووطنه.
وبهذه المناسبة فإننا نوجه مناشدة لأصحاب القرار، بضرورة تطبيق قانون المعاق الفلسطيني، ليتمكنوا من تلبية احتياجاتهم الضرورية، وليحيوا حياة كريمة، ولنعمل سوياً على إقامة مصانع للأطراف لتأهيل هؤلاء الإخوة الكرام.
وكذلك إقامة المشاريع الإنتاجية الخاصة بهم، وضرورة دمجهم في المؤسسات والجمعيات،، فما زال حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتردد على مسامعنا: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم".
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.