الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن صالح الدحيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
إذا توجهت لطلب العلم فداوم السير، وإياك والانقطاع، فقليل دائم خير من كثير منقطع، وإياك والكسل، فالجبال لا يصعد إليها مُقعَد، والقمم لا يعتليها ضعيف. إياك واحتقار النفس، والحكم عليها مسبقًا بالفشل، فأنت تملك قدرات عظيمة، لكنّ سوّاف الزمن وأحاديث الغفلة قد أخفتها، فاجتهد واعلم أن كثرة تحريك الماء تزيد في النقاء، وأن ...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله...
رأى رجلٌ مع الإمام أحمد محبرة، فقال له: "يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، ومعك المَحبَرَةُ تحملها؟ فقال: "مع المَحبَرة إلى المقبرة".
وجاء عن محمد بن إسماعيل الصائغ أنه قال: "كنت في إحدى سَفَرَاتي ببغداد، فمرّ بنا أحمد بن حنبل وهو يَعْدُو ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحيي؟! إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟! فقال: "إلى الموت".
عليك سلام الله ما كنت جاهلاً | فقد كنت ذا عقل وكنت حصيفًا |
الإمام أحمد يعدو ونحن لا نعدوا، وإن عدَونا أو غَدونا فإلى الدنيا، وشتان بين غدوٍّ وغدوٍّ، فكل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
سارت مشرِّقة وسِرتُ مغرِّبًا | شتان بين مشرِّق ومغرِّب |
الإمام أحمد لا يعرف وقتًا محدَّدًا للطلب، ولا عمرًا معيَّنًا للتعلّم، فنداوَة حبره تغذّي قبرَه، وهو مع المحبرة إلى المقبرة.
أما نحن فلا نفهم إلا أن فترةَ التعلّم محدودة، ولا نفهِم أولادنا إلا ذاك، فهي "شدّة وتزول" ثم يعلو الكتابَ التّرابُ.
نشأ ناشئ الفتيان فينا يعدّ الأيامَ عدًّا، وينتظر ساعةَ الفراق السعيدة على خلاف ما تكون عليه ساعات الفراق، حتى إذا تمت الأيام، وانتهت الدراسة، ودّع كتابّه، ومزّق أوراقه.
ولربما لفرطِ الفرحة ألقاها أمام المدرسة، أو بين عجلات السيارات، دون أن يراعي لها حرمةً، أو يقدر لها قدرًا!.
وقد رأيت يومًا بعض كتب الدين، وغيرها، وقد تتابعت عليها عجلات السيارات، وهي تستغيث ولا مغيث.
إن مثل هذه التصرفات تدلّ على فراغ روحيّ، وفراغٍ تربويّ، يحتاج إلى مزيد عناية ومعالجة.
إن العلم عبادة، والله لم يجعل لعبادة المؤمن حدًّا في الدنيا إلا الموت،: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].
ومع المحبرة إلى المقبرة!.
العلماء ورثة الأنبياء، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضًى بما يصنع، وإنّ العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم عل العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
العلم شرف الدهر، ومجد العصر، وحياة الفكر، ذهب الملك بحرّاسه، وبقيت بركة العلم في أنفاسه، العلم أعلى من المال، وأهيبُ من الرجال، وهو طريق الكمال، قال سفيان الثوري: "لا أعلم بعد النبوة أفضل من العلم".
طلب العلم أفضل من نوافل العبادات، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "العلم أفضل من القائم الساجد".
فهذا فضل العلم فعليك به، وكن مع المحبرة إلى المقبرة.
إذا توجهت لطلب العلم فداوم السير، وإياك والانقطاع، فقليل دائم خير من كثير منقطع، وإياك والكسل، فالجبال لا يصعد إليها مُقعَد، والقمم لا يعتليها ضعيف.
وما كل هاوٍ للجميل بفاعلٍ | ولا كلّ فعّالٍ له بمتمِّم |
فَطَلِّق الكسل، وزاول العمل، واحمل المحبرة إلى المقبرة.
إياك واحتقار النفس، والحكم عليها مسبقًا بالفشل، فأنت تملك قدرات عظيمة، لكنّ سوّاف الزمن وأحاديث الغفلة قد أخفتها، فاجتهد واعلم أن كثرة تحريك الماء تزيد في النقاء، وأن الذاكرة تولد مع المذاكرة، ودواء النسيان مداومة النظر في الكتب، جاء عن أبي هلال العسكري -رحمه الله- أنه قال: "كان الحفظ يتعذر عليّ حين ابتدأت أطلبه، ثم عوّدت نفسي إلى أن حفظت قصيدة رؤبة في ليلة، وهي قريب من مائتي بيت".
وقال أيضًا: "حكي لي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت في بعض قرى النّبط فتى فصيح اللهجة حسن البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لُكْنَة أهل جلدته فقال: كنت أعمد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتب الجاحظ، فأرفع بها صوتي في قراءتها، فما مرّ بي إلا زمان قصير حتى صرت إلى ما ترى".
فبادرْ ولا تيأسْ، وداوم قرع الباب، فعن قريب يفتح، والزم المحبرة إلى المقبرة.
اعلم أن الظروف لا تتهيأ لأحد، واليوم أنت أهيأ منك غدًا، فبادِر قبل أن تبادَر، وإياك والتسويف فإنه من جنود إبليس، والمنى رأس أموال المفاليس.
التسويف أنشودة الفاشلين، وشعار الجاهلية، ونغمة الكسالى، وعذر البطالين: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)[التوبة: 46].
إذا كان يؤذيك حر الصيف | ويبس الخريف وبرد الشتاء |
فمن مكانك حدّد، ومن أوانك قرّر، وخذ المحبرة إلى المقبرة.
اعلم أن تحصيل العلم لا بدّ له من هجر اللذات، وبذل الوسع، وصدق الطلب، وصحة النية، فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعبر إليها إلا على جسر المشقة، ولا ينال العلم براحة الجسم.
لولا المشقة ساد الناس كلهم | الجودُ يفقر والإقدام قتّال |
قال إبراهيم الحربي -رحمه الله-: "أجمع عقلاء كلّ أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة فاتته الراحة".
فألزم نفسك الجادة، واصبر على المشقة، ومع المحبرة إلى المقبرة.
لا تستنكف من طلب العلم على غير المرموقين، أو أن تستفيد من غير المشهورين، فهذا نوع غرور وتكبر، والعلم لا يناله مستحٍ ولا متكبر، يقول الغزالي -رحمه الله-: "فالاستنكاف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين هو عين الحماقة، فإن العلم سبب النجاة والسعادة، ومن يطلب مهربًا من سبعٍ ضارٍ يفترسه لم يفرّق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل، وقد روي: الحكمة ضالة، المؤمن حيثما وجدها فليجمعها إليه" ا. هـ.
ثم بعد هذا العرض والاستحثاث، فإن أمامنا إجازةً كبيرة، فيها ما يزيد عن مائة يوم، لو رتب الواحد نفسه لربما حفظ من القرآن جزءًا ليس باليسير، أو أتم شيئًا من المتون العلمية.
والعاقل لا يعدم الحيلة، والمطلوب هو قضاء الإجازة بما يفيد علمًا أو دعوة، أو حتى فيما يعود عليه بالنفع في دنياه، وأن لا تذهب عليه الأيام دون فائدة، فإن الفراغ رأس كل بلاء، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إني أكره أن أرى الرجل سبهللاً ليس في أمر دينه ولا دنياه".
وإن على الآباء أن يرعوا مسؤوليتهم تجاه أولادهم، وأن يأخذوا كل سبب من أجل قضاء أوقات أولادهم بما ينفع، وها هي حلق التحفيظ والدروس، والدورات العلمية، والمراكز الصيفية، قد فتحت أبوابها تنادي طلابها.
وحين تعوز الأب ،الوسيلة فلا يقعد مكتوف اليدين، بل عليه أن يستعين بأهل الخبرة، فما ندم من استشار.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].
الخطبة الثانية:
لم ترد.