البحث

عبارات مقترحة:

الأعلى

كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

الآخر

(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...

إنها الأم

العربية

المؤلف إبراهيم بن صالح العجلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. فضل الأمهات وتضحياتها .
  2. رضا الرب من رضا الأم .
  3. فضل الإحسان إلى الأم والبر بها .
  4. جزاء عقوق الأمهات في الدنيا والآخرة .

اقتباس

إنها الأم، وما أدراك ما الأم؟! عطرٌ يفوح شذاه، وعبير يسمو في علاه، العيش في كنفها حياة، وعين لا تكتحل برؤيتها حسرة وأسى. الأم: هي قسيمة الحياة، وموطن الشكوى، وعتاد البيت، ومصدر الأنس، وأساس الهناء، يطيب الحديث بذكراها، ويرقص القلب طربًا بلقياها. حنانها فيضٌ لا ينضب، ونبعها زلال لا ينضب، فنعم الجليس الأم، وخير الأنيس والنديم الأم.

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: يَسِيرُ فِي الْفَلَاةِ، يَقْطَعُ الْفَيَافِيَ وَالْقِفَارَ، قَدِ اغْبَرَّ وَجْهُهُ، وَشَعِثَ شَعَرُهُ، وَتَتَابَعَتْ أَنْفَاسُهُ، وَبَلَغَ بِهِ الْجَهْدُ مَبْلَغَهُ.

إِذَا سَارَ مَفَازَةً وَقَفَ وَأَلْقَى الْحِمْلَ عَنْ ظَهْرِهِ، وَجَعَلَ يَلْتَقِطُ أَنْفَاسَهُ مَلِيًّا، حَتَّى إِذَا مَا اسْتَرَدَّ إِلَيْهِ نَفَسَهُ، وَهَدَأَتْ نَفْسُهُ؛ حَمَلَ حِمْلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَسَارَ مُيَمِّمًا بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ.

لَعَلَّهُ يَزْدَادُ عَجَبُكَ -يَا عَبْدَ اللَّهِ- إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا الْحِمْلَ لَيْسَ زَادًا وَلَا طَعَامًا، وَلَا مَالًا وَلَا مَتَاعًا، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْمَحْمُولُ هِيَ أُمَّهُ الَّتِي رَبَّتْهُ فَأَحْسَنَتْ تَرْبِيَتَهُ، حَتَّى غَدَا رَجُلًا، بَلَغَ مِنْ بِرِّهِ مَا تَرَى! وَقَلِيلٌ مَا هُمْ!!

سَارَ الرَّجُلُ الْبَارُّ تَمْتَطِيهِ أُمُّهُ نَحْوَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَهُوَ يَقُولُ:  

إِنِّي لَـهَا مَطِيَّـةٌ لا تَذْعَرُ

إِذَا الرِّكَابُ نَفَرَتْ لَا تَنْفِرُ

مَا حَمَلَتْ وَأَرْضَعَتْنِي أَكْثَرُ

اللَّهُ رَبِّي ذُو الْجَلَالِ الْأَكْبَرُ

وَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ؛ إِذْ رَأَى الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَقَالَ: "أَتُرَانِي جَازَيْتُهَا؟!" قَالَ: "لَا، وَلَا زَفْرَةً وَاحِدَةً!".

إِنَّهَا الْأُمُّ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْأُمُّ؟!

عِطْرٌ يَفُوحُ شَذَاهُ، وَعَبِيرٌ يَسْمُو فِي عُلَاهُ، الْعَيْشُ فِي كَنَفِهَا حَيَاةٌ، وَعَيْنٌ لَا تَكْتَحِلُ بِرُؤْيَتِهَا حَسْرَةٌ وَأَسًى.

الْأُمُّ: هِيَ قَسِيمَةُ الْحَيَاةِ، وَمَوْطِنُ الشَّكْوَى، وَعَتَادُ الْبَيْتِ، وَمَصْدَرُ الْأُنْسِ، وَأَسَاسُ الْهَنَاءِ، يَطِيبُ الْحَدِيثُ بِذِكْرَاهَا، وَيَرْقُصُ الْقَلْبُ طَرَبًا بِلُقْيَاهَا.

حَنَانُهَا فَيْضٌ لَا يَنْضُبُ، وَنَبْعُهَا زُلَالٌ لَا يَنْضُبُ، فَنِعْمَ الْجَلِيسُ الْأُمُّ، وَخَيْرُ الْأَنِيسِ وَالنَّدِيمِ الْأُمُّ.

لَطِيفَةُ الْمَعْشَرِ، طَيِّبَةُ الْمَخْبَرِ، تُعْطِي بِسَخَاءٍ، وَلَا تَمَلُّ الْعَطَاءَ.

الْأُمُّ: لَا تُوَفِّيهَا الْكَلِمَاتُ، وَلَا تَرْفَعُهَا الْعِبَارَاتُ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهَا سُوَيْدَاءُ الْقَلْبِ، وَكَفَى بِهِ مُسْتَقَرًّا.

لِأُمِّكَ حَقٌّ لَوْ عَلِمْتَ كَثِيرُ

كَثِيرُكَ يَا هَذَا لَدَيْهِ  يَسِيرُ

إِنَّهَا الْأُمُّ الَّتِي وَصَّى بِهَا الْمَوْلَى -جَلَّ جَلَالُهُ- وَجَعَلَ حَقَّهَا فَوْقَ كُلِّ حَقٍّ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].

أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ؛ قَالَهَا الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثًا لِمَنْ سَأَلَهُ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صُحْبَتِي؟!

إِنَّهَا الْأُمُّ، يَا مَنْ تُرِيدُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ وَسَتْرَ الْعُيُوبِ، يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلٌ فَيَقُولُ: أَذْنَبْتُ ذَنْبًا كَبِيرًا؛ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟!" قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟!" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَبِرَّهَا". رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

يَا مَنْ تُرِيدُ رِضَا رَبِّ الْبَرِيَّاتِ، وَتَطْلُبُ جَنَّةً عَرْضُهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ: دُونَكَ مَفَاتِيحَهَا؛ بِإِحْسَانِكَ لِأُمِّكَ وَرِضَاهَا عَنْكَ.

رَجُلٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْدُوهُ شَوْقُهُ إِلَى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، وَتَتَعَالَى هِمَّتُهُ لِاسْتِرْضَاءِ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ؛ فَيَمْشِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ائْذَنْ لِي بِالْجِهَادِ؛ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟!" قَالَ: نَعَمْ؛ فَقَالَ: "الْزَمْ رِجْلَهَا؛ فَثَمَّ الْجَنَّةُ".

الْإِحْسَانُ إِلَى الْأُمِّ سَبَبٌ لِقَبُولِ الْأَعْمَالِ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ عَنْ عَبْدِهِ الشَّاكِرِ لِنِعْمَتِهِ، الْبَارِّ بِوَالِدَيْهِ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف: 16].

الْإِحْسَانُ إِلَى الْأُمِّ سَبَبٌ لِلْبَرَكَةِ فِي الرِّزْقِ وَطُولِ الْعُمُرِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ".

وَأَعْظَمُ الصِّلَةِ صِلَةُ الْوَالِدَيْنِ، وَأَتَمُّ الْإِحْسَانِ الْإِحْسَانُ إِلَى الْأُمِّ.

عِبَادَ اللَّهِ: تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَتُجَابُ الدَّعَوَاتِ، لِمَنْ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَتِهِ، حَانِيًا عَلَيْهَا، مُحْسِنًا إِلَيْهَا.

أَطْبَقَتِ الصَّخْرَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ؛ فَدَعَا كُلٌّ مِنْهُمْ وَتَوَسَّلَ إِلَى اللَّهِ بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلَهُ، وَمِنْهُمْ رَجُلٌ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَتِهِ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمُ الصَّخْرَةَ، وَنَجَوْا مِنَ الْهَلَاكِ!

وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ -رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ- أَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدُّعَاءِ، وَكَانَ مِنْ أَبَرِّ النَّاسِ بِوَالِدَتِهِ.

قِفْ -يَا عَبْدَ اللَّهِ- تَأَمَّلْ مَعِي عِظَمَ قَدْرِ الْأُمِّ، وَجَمِيلَ إِحْسَانِهَا إِلَيْكَ:

حَمَلَتْكَ فِي أَحْشَائِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ذَاقَتْ فِيهَا الْمُرَّ، وَتَغَيَّرَتْ عَلَيْهَا دُنْيَاهَا، فَمَا الْمَذَاقُ هُوَ الْمَذَاقُ، وَلَا الْمُعَاشَرَةُ هِيَ الْمُعَاشَرَةُ! فَكَمْ مِنْ أَنَّةٍ خَالَجَتْهَا! وَزَفْرَةٍ دَافَعَتْهَا مِنْ ثِقَلِكَ بَيْنَ جَنْبَيْهَا! لَا يَزْدَادُ جِسْمُكَ نُمُوًّا إِلَّا وَتَزْدَادُ مَعَهُ ضَعْفًا!!

تُسَرُّ إِذَا أَحَسَّتْ بِحَرَكَتِكَ دَاخِلَ جَوْفِهَا، وَلَا يَزِيدُهَا تَعَاقُبُ الْأَيَّامِ وَكَرُّ اللَّيَالِي إِلَّا شَوْقًا لِرُؤْيَتِكَ وَاشْتِيَاقًا لِطَلَّتِكَ!

ثُمَّ تَأْتِي سَاعَةُ خُرُوجِكَ؛ فَتُعَانِي مَا تُعَانِي مِنْ خُرُوجِكَ!! فَلَا تَسَلْ عَنْ طَلْقِهَا الَّذِي يُعْتَصَرُ لَهُ الْفُؤَادُ، وَآلَامِهَا الَّتِي تُعْجِزُهَا عَنِ الْبُكَاءِ! حَتَّى إِذَا مَا خَرَجْتَ مِنْ أَحْشَائِهَا، وَشَمَّتْ عَبَقَ رَائِحَتِكَ؛ نَسِيَتْ آلَامَهَا، وَتَنَاسَتْ أَوْجَاعَهَا، وَعَلَّقَتْ فِيكَ جَمِيعَ آمَالِهَا، فَكُنْتَ أَنْتَ الْمَخْدُومَ فِي لَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، كُنْتَ أَنْتَ رَهِينَ قَلْبِهَا، وَنَدِيمَ فِكْرِهَا، تُغَذِّيكَ بِصِحَّتِهَا، وَتُدَثِّرُكَ بِحَنَانِهَا، وَتُمِيطُ عَنْكَ الْأَذَى بِيَمِينِهَا، تَخَافُ عَلَيْكَ مِنَ اللَّمْسَةِ، وَتُشْفِقُ عَلَيْكَ مِنَ الْهَمْسَةِ.

إِذَا صَرَخْتَ فَزَّ قَلْبُهَا إِلَيْكَ، وَإِذَا جُعْتَ تَلَهَّفَتْ مِنْ أَجْلِ سَدِّ جَوْعَتِكَ، سُرُورُهَا أَنْ تَرَى ابْتَسَامَتَكَ، رَاحَتُهَا أَنْ تَضُمَّكَ إِلَى صَدْرِهَا، إِذَا مَسَّكَ ضُرٌّ لَمْ يَرْقَأْ لَهَا دَمْعٌ، وَلَمْ تَكْتَحِلْ بِنَوْمٍ، تَفْدِيكَ بِرُوحِهَا وَعَافِيَتِهَا!!

فَكَمْ لَيْلَةٍ سَهَرَتْهَا مِنْ أَجْلِ رَاحَتِكَ! وَكَمْ دَمَعَاتٍ رَقْرَقَتْهَا مِنْ أَجْلِ صِحَّتِكَ! وَلِسَانُ حَالِهَا:

فَنَمْ وَلَدِي بِمَهْدِكَ فِي هَنَاءٍ

وَدَاعِبْ طَيْفَ أَحْلَامِ الرُّقَادِ

وَإِنْ حَلَّ الظَّـلَامُ بِجَنَاحَيْهِ

وَأَرْخَى ظِلَّهُ فِي كُـلِّ وَادِ

وَنَامَ الْخَلْقُ فِي أَمْنٍ جَمِيعًا

فَقَلْبِي سَـاهِرٌ عِنْدَ  الْمِهَادِ

وَيَا لَيْتَ عَنَاءَهَا يَنْتَهِي عِنْدَ هَذَا؛ بَلْ مَا تَزِيدُهَا الْأَيَّامُ لَكَ إِلَّا حُبًّا، وَعَلَيْكَ حِرْصًا؛ فَمَا أَنْ يَتِمَّ فِصَالُكَ عَامَيْنِ، وَتَبْدَأَ خُطُوَاتُكَ الصَّغِيرَةُ بِالثَّبَاتِ، إِلَّا وَتَرْمُقُكَ بِنَظَرَاتِهَا، وَتُحِيطُكَ بِعِنَايَتِهَا.

أَوَامِرُكَ مُطَاعَةٌ، وَطَلَبَاتُكَ مُجَابَةٌ، تَغْتَمُّ لِحُزْنِكَ، وَتَضِيقُ لِغَضَبِكَ، تَشْقَى لَكَ أَنْتَ، تَسْعَدُ وَتَتْعَبُ حَتَّى تَهْنَأَ أَنْتَ!

فَكَمْ مِنْ دُمُوعٍ عَنْكَ أَزَالَتْهَا! وَهُمُومٍ عَنْ صَدْرِكَ أَزَاحَتْهَا! حَتَّى إِذَا صَلُبَ عُودُكَ، وَزَهَرَ شَبَابُكَ، كُنْتَ أَنْتَ عُنْوَانَ فَخْرِهَا، وَرَمْزَ مُبَاهَاتِهَا، تُسَرُّ بِسَمَاعِ أَخْبَارِكَ، وَتَسْعَدُ بِرُؤْيَةِ آثَارِكَ، إِذَا غِبْتَ عَنْ عَيْنِهَا رَافَقَتْكَ دَعَوَاتُهَا.

فَكَمْ مِنْ دَعَوَاتٍ لَكَ تَلَجْلَجَتْ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي! وَكَمْ مِنِ ابْتِهَالَاتٍ سَالَتْ مَعَهَا الدُّمُوعُ عَلَى الْمَآقِي مِنْ أَجْلِكَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ! مُنَاهَا أَنْ يُرَفْرِفَ السُّرُورُ فِي سَمَائِكَ، غَايَتُهَا أَنْ تُوَفَّقَ فِي حَيَاتِكَ وَبِنَاءِ أُسْرَتِكَ.

تُعْطِيكَ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَا تَطْلُبُ مِنْكَ أَجْرًا، وَتَبْذُلُ لَكَ كُلَّ وُسْعِهَا وَلَا تَنْتَظِرُ مِنْكَ شُكْرًا! أَحْسَنَتْ إِلَيْكَ إِحْسَانًا لَا تَرَاهُ، وَقَدَّمَتْ إِلَيْكَ مَعْرُوفًا لَنْ تُجَازَاهُ.

أَطِعِ الْإِلَهَ كَمَـا أَمَـرْ

وَامْلَأْ فُؤَادَكَ بِالْحَذَرْ

وَأَطِـعْ أَبَـاكَ فَـإِنَّهُ

رَبَّاكَ فِي عَهْدِ الصِّغَرْ

وَاخْضَعْ لِأُمِّكَ وَارْضِهَا

فَعُقُوقُهَا إِحْدَى الْكُبَرْ

الْبِرُّ بِالْأُمِّ -عِبَادَ اللَّهِ- مَفْخَرَةُ الرِّجَالِ، وَشِيمَةُ الشُّرَفَاءِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ: هُوَ خُلُقٌ مِنْ خُلُقِ الْأَنْبِيَاءِ؛ قَالَ تَعَالَى عَنْ يَحْيَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) [مريم: 14] وَقَالَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم: 32].

الْبِرُّ بِالْأُمِّ -إِخْوَةَ الْإِيمَانِ- بُرْهَانٌ عَلَى صِدْقِ الْإِيمَانِ، وَحُسْنِ الْإِسْلَامِ، وَعَمَلٌ بِالتَّقْوَى.

الْبِرُّ بِالْأُمِّ يَتَأَكَّدُ يَوْمَ يَتَأَكَّدُ إِذَا تَقَضَّى شَبَابُهَا، وَعَلَا مَشِيبُهَا، وَرَقَّ عَظْمُهَا، وَاحْدَوْدَبَ ظَهْرُهَا، وَارْتَعَشَتْ أَطْرَافُهَا، وَزَارَتْهَا أَسْقَامُهَا، فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْعُمُرِ لَا تَنْتَظِرُ صَاحِبَةُ الْمَعْرُوفِ وَالْجَمِيلِ مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا قَلْبًا رَحِيمًا، وَلِسَانًا رَقِيقًا، وَيَدًا حَانِيَةً.

فَطُوبَى لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَى أُمِّهِ فِي كِبَرِهَا! طُوبَى لِمَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ فِي رِضَاهَا؛ فَلَمْ تَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَهِيَ عَنْهُ رَاضِيَةٌ مَرْضِيَّةٌ.

يَا أَيُّهَا الْبَارُّ بِأُمِّهِ -وَكُلُّنَا نَطْمَعُ أَنْ نَكُونَ ذَاكَ الرَّجُلَ-: تَمَثَّلْ قَوْلَ الْمَوْلَى -جَلَّ جَلَالُهُ-: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء: 24] تَخَلَّقْ بِالذُّلِّ بَيْنَ يَدَيْهَا بِقَوْلِكَ وَفِعْلِكَ، لَا تَدْعُهَا بِاسْمِهَا؛ بَلْ نَادِهَا بِلَفْظِ الْأُمِّ؛ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى قَلْبِهَا، لَا تَجْلِسْ قَبْلَهَا، وَلَا تَمْشِ أَمَامَهَا، قَابِلْهَا بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَابْتِسَامَةٍ وَبَشَاشَةٍ، تَشَرَّفْ بِخِدْمَتِهَا، وَتَحَسَّسْ حَاجَاتِهَا، إِنْ طَلَبْتَ فَبَادِرْ أَمْرَهَا، وَإِنْ سَقِمَتْ فَقُمْ عِنْدَ رَأْسِهَا، أَبْهِجْ خَاطِرَهَا بِكَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهَا، لَا تَفْتَأُ أَنْ تُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِهَا؛ قَدِّمْ لَهَا الْهَدِيَّةَ، وَزُفَّ إِلَيْهَا الْبَشَائِرَ، وَاسْتَشْعِرْ -وَأَنْتَ تُقْبِلُ وَتَعْطِفُ عَلَى أَبْنَائِكَ- عَطْفَ أُمِّكَ وَحَنَانَهَا بِكَ، وَرَدِّدْ فِي صُبْحٍ وَمَسَاءٍ: (رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 24].

أَيُّهَا الْبَارُّ بِأُمِّهِ: إِنْ كَانَتْ غَالِيَتُكَ مِمَّنْ قَضَتْ نَحْبَهَا وَمَضَتْ إِلَى رَبِّهَا؛ فَأَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهَا، وَجَدِّدْ بِرَّكَ بِهَا بِكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ عَنْهَا، وَصِلَةِ أَقَارِبِكَ مِنْ جِهَتِهَا.

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟! قَالَ: "نَعَمِ؛ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا".

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَأَشْقَى النَّاسِ فِي دُنْيَا النَّاسِ: مَنْ لَمْ يَصِلْ لِلْأُمِّ بِرًّا، وَلَمْ يَعْرِفْ لَهَا حَقًّا!

إِنَّ الْعَيْنَ لَتَدْمَعُ، وَإِنَّ الْقَلْبَ لَيَعْتَصِرُ أَلَمًا مِنْ صُوَرِ الْعُقُوقِ بِالْأُمَّهَاتِ، تَقْشَعِرُّ لَهَا الْأَبْدَانُ، وَتَكْرَهُ سَمَاعَهَا الْآذَانُ.

تَأَنُّفٌ فِي وَجْهِ الْأُمَّهَاتِ، وَأَلْسِنَةٌ حِدَادٌ عَلَى صَاحِبَةِ الْفَضْلِ وَالْجُودِ!! أَسَاءَ وَمَا أَحْسَنَ مَنْ عَلَا صَوْتُهُ صَوْتَ أُمِّهِ، مَا بَرَّ -وَايْمُ اللَّهِ- مَنْ أَذَاقَ الْأُمَّ غَصَصَ الْهَمِّ وَالْهُمُومِ، وَكَانَ سَبَبًا فِي اسْتِعْبَارِهَا وَبُكَائِهَا، وَمَا بَرَّ أَيْضًا مَنْ أَشْغَلَتْهُ دُنْيَاهُ، وَأَسْكَرَهُ طَنِينُ الْمَالِ؛ فَلَمْ يَعْرِفْ أُمَّهُ إِلَّا غِبًّا.

عُقُوقُ الْأُمَّهَاتِ -عِبَادَ اللَّهِ- مِنَ الْمَعَاصِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالْكَبَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ"، وَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ.

عُقُوقُ الْأُمَّهَاتِ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ؛ يَقُولُ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ" رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَيَا مَنْ عَقَّ أُمَّهُ، وَيَا مَنْ أَتْعَبَهَا وَأَبْكَاهَا: اسْتَدْرِكِ الْحَالَ، وَاسْتَشْعِرْ قَبَاحَةَ الْفِعَالِ، تَذَكَّرْ -يَا مَنْ قَصَّرْتَ مَعَ أُمِّكَ- أَنَّ وُجُودَ الْأُمِّ فِي حَيَاتِكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَأُمْنِيَّةٌ تَاقَتْ لَهَا صُدُورٌ مَكْلُومَةٌ، وَبِهَا تَنَالُ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى؛ فَرِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَمِنْ طَرِيقِهَا تَنَالُ كُنُوزَ الْأُجُورِ وَبِحَارَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي لَا تَنَالُهَا إِلَّا مِنْ طَرِيقِهَا.

تَذَكَّرْ -أَخِي الْمُقَصِّرَ مَعَ أُمِّهِ- لَيْلَةً تُصْبِحُهَا بِلَا أُمٍّ مُشْفِقَةٍ، لَكَ دَاعِيَةٌ، وَعَنْكَ سَائِلَةٌ. تَذَكَّرْ يَوْمًا تَحْثُو فِيهِ التُّرَابَ عَلَى صَاحِبَةِ الْقَلْبِ الرَّهِيفِ وَالْجِسْمِ الضَّعِيفِ. تَذَكَّرْ سَاعَةً تَدْخُلُ فِيهَا الْمَنْزِلَ، فَلَا تَسْمَعُ صَوْتَهَا، وَلَا تُبْصِرُ رَسْمَهَا!!

فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ أَخِي الْمُقَصِّرَ، وَعَاهِدْ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْمَكَانِ عَلَى اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ فِيمَا هُوَ آتٍ، فَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ!

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ فِي الْعَالَمِينَ.