الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
قلها في الدنيا؛ حمدا لله لذاته العظيمة، ولصفاته الجليلة ولأسمائه الكريمة، وقلها في الدنيا لنعمه -سبحانه- عليك في صحتك وبدنك ودنياك ومالك وأهلك ورزقك، وقلها في الدنيا حمدا لله -تعالى- على نعمة الهداية وعمل الصالحات، قلها وطبقها هكذا، لتكون من الحامدين، ولتكون من القائلين الحمد لله في الآخرة، وأهل...
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
نعم -أيها المؤمنون-: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ) [الإسراء: 111].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الحمد لله: كلمة كل شاكر".
وقال علي -رضي الله عنه-: "الحمد لله" كلمة أحبها الله لنفسه، كلمة رضيها الله لنفسه، وأحب أن تقال".
"الحمد لله" كلمة ثناء على الله، كلمة شكر لله.
و"الحمد لله" أعظم دلالة من الشكر، فالشكر يكون في مقابل الإحسان، والحمد يكون في مقابل إحسان وغير إحسان.
فالله يستحق الحمد لذاته ولجلاله ولعظمته، ولأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، ولألوهيته وربوبيته، ويستحق الحمد كذلك لإحسانه إلى خلقه، ولإنعامه على عباده.
ألم تقرأ مطلع أعظم سورة في القرآن العظيم، سورة الفاتحة: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الفاتحة: 1-2].
في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قَالَ اللَّهُ -تعالى-: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الفاتحة: 2] قَالَ اللَّهُ -تعالى-: حَمِدَنِي عَبْدِى".
هذه الآية العظيمة في معناها ومبناها: مُفتتح القرآن؛ استغرق تفسيرها عند ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير سبع عشرة صفحة.
فالله يستحق الحمد، وهو الثناء الجميل لذاته، ولربوبيته للكون؛ كما قال ربنا: (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الجاثية: 36].
فلله الحمد؛ لأنه الرب والإله، والمالك والقادر، والعظيم والكبير والمتعال، والقدوس والسلام، والمؤمن والمهيمن، والخالق والبارئ والمصور، سبحانه له الحمد، وله الأسماء الحسنى.
تأمل معي فقه عائشة -رضي الله عنه- لذلك، وكيف أن الله يستحق الحمد لصفاته وأفعاله وأسمائه الحسنى؛ كما في قصة سورة المجادلة، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تعالى- عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) [المجادلة: 1].
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيان قدْر "الحمد" والثناء على الله؛ كما في صحيح مسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ".
الحمد لله تملأ الميزان، من عظيم قدرها عند الله.
ومن عظيم معناها عند الله، ومن عظيم محبة الله لها، ومن ثقلها وكريم أجرها، ومن صدق مقالتها في حق الله.
وشهد لهذا؛ ما رواه أنس -رضي الله عنه-؛ كما في صحيح مسلم: "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَدَخَلَ الصَّفَّ وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ -ضغطه النفس لسرعته-، فَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ" فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَتَهُ، قَالَ: "أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلِمَاتِ" فَأَرَمَّ الْقَوْمُ –سكتوا- فَقَالَ: "أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بَأْسًا؟" فَقَالَ رَجُلٌ: جِئْتُ وَقَدْ حَفَزَنِي النَّفَسُ فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَىْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا".
أيها المؤمنون والمؤمنات: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) قل: "الحمد لله" على نعم الدنيا التي ينعمها عليك ربك -سبحانه وتعالى-.
فكما يستحق ربنا الحمد لذاته، وكما يستحق ربنا الحمد لنعمة الدين والهداية، فإن ربنا -سبحانه- يستحق الحمد كذلك لنعمة الدنيا ومتاعها.
فلله الحمد على كل نعمة وعطية من عطاياه المادية والدنيوية.
ومن بين نعمه -سبحانه- الجزيلة التي ينعم بها على عامة الناس: "نعمة المطر" نعمة الغيث، نعمة الماء، تلك النعمة التي يغيث الله بها البلاد والعباد، والشجر والزرع والدواب، وجميع خلق الله مما نراه أو لا نراه، قال ربنا ممتنا على عباده بهذه النعمة، ومبينا استحقاقه للحمد: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى: 28].
واختار الله أن يربط نعمة الغيث والماء هذه النعمة المادية الدنيوية بالاسمين الجليلين "الولي الحميد" ليقول لك: ربك المنعم الذي يستحق الحمد هو الولي الذي يتولى عباده بالإحسان، وهو الحميد الذي يعطي ما يحمد عليه، فهو المستحق للحمد لا غيره.
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).
أيها المؤمن: كن من عباد الله الحامدين، الذين امتدحهم الله -تعالى- في قرآنه العظيم.
نعم، إن من صفات -عباد الله-: أن من صفات المؤمنين التي امتدحها الله -تعالى- في كتابه، أنهم "حامدون" فالمؤمن يكثر دوما من حمد الله، المؤمن هو من الحامدين لا من الجاحدين، المؤمن عبد يرى نعم الله حوله، ويبصر نعم الله فيه.
المؤمن يحمد الله لذاته ولصفاته ولجلاله، المؤمن لا ينسى فضل الله عليه، فتراه يذكره سبحانه بالحمد، والثناء الطيب.
المؤمن الصادق يسعى؛ لأن يكون من الذين امتدحهم الله -تعالى- في كتابه العزيز، حينما قال في وصف عباده المحبوبين عنده: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[التوبة: 112].
قال القرطبي: "الْحامِدُونَ" أي الراضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال".
وقال الحسن: "(الْحَامِدُونَ) الذين حمدوا الله على أحايينهم كلها".
وقال السعدي: "(الْحَامِدُونَ) للّه في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما للّه عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على اللّه بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار".
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).
عباد الله: وحتى نكون من الحامدين، وتتحقق فينا صفة الحمد لله واقعا عمليا في حياتنا وسلوكنا، لا بد لنا أن نأخذ بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في طريق الحمد، ونطبقها في مواقفنا، وأن تكون لنا القدوة العملية فيه صلى الله عليه في إقامته لعبودية الحمد.
فلقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه يحمد الله -تعالى- على نعم الله الصغيرة والكبيرة، وعلى نعمه الدنيوية والدينية، والمادية والمعنوية، والليلية والنهارية، والخاصة والعامة، وفي السراء والضراء.
وهذه جملة من مقامات الحمد لله التي كانت من هديه -صلى الله عليه وسلم- التي هدانا إليها وعلمنا إياها لنكون من عباد الله الحامدين، المشاهدين لأفعال الله، وصفاته في واقعنا.
نعم -عباد الله-: هدانا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وعلّمنا: أن نحمد الله عندما نستيقظ من النوم، أن نستفتح يومنا مع أول نفس نتنفسه بالحمد الله، أن نستقبل يومنا بالحمد لله، فكما في صحيح البخاري عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اسْتَيْقَظَ من نومه، قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ".
فيعلّمك نبيك -صلى الله عليه وسلم- أن تقول: "الحمد لله" حينما تستيقظ من نومك؛ لأن هذا الاستيقاظ، هو نعمة من نعم الله -تعالى- عليك، فأنت بأمره قمت من نومك، قال ربك -سبحانه- نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الزمر: 42].
ويربيك على استشعار قدرة الله -تعالى- على إحيائك من نومك، وبعثك غدا من قبرك.
فهو سبحانه يستحق الحمد كل الحمد.
وبعض المسلمين اليوم ينسى هذا الحمد الذي يستحقه ربه أيما نسيان، فيستيقظ ويقوم من فراشه ويجهز نفسه لأعماله دون أن يخطر على قلبه أن له ربا -سبحانه- يستحق أن يحمد؛ لأنه أحياه بعد ما أماته، هذا -والعياذ بالله- إن لم يستفتح يومه بالدخان، أو بسماع الأغاني، وغير ذلك.
نعم -عباد الله-: هدانا نبينا -صلى الله عليه وسلم- وعلّمنا أن نحمد الله عندما نفرغ من أكلنا وشربنا، بعد الفراغ من الطعام؛ فكما في صحيح البخاري: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ، قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ".
وفي سنن أبي داود أَنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ، قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ".
ولعل بعضنا لو نظر في حاله، وفي حال أسرته، هل يرفعون إلى المنعم -سبحانه- واجب الحمد على ما رزقهم من الطعام والشراب بعدما يفرغون من الأكل، أم أن الأسرة كلها تجلس تأكل حتى تشبع ثم تقوم عن الطعام ولا تسمع أحدا منهم يهمس قائلا: "الحمد لله"؟!.
أيها المؤمن، أيتها المؤمنة: إن قولك: "الحمد لله" بعد كل أكله تأكلها صغيرة أو كبيرة، أو شربة تشربها قليلة أو كثيرة، يستحق ربك -سبحانه- عليها الحمد والثناء، بل هل تعلم أن صفة الرضى لله -تعالى- عنك، وهي صفة عظيمة القدر، كلنا يتمناها: "أن يرضى الله عنك"؟!
هل تعلم أنها تنال بالحمد على الأكلة والشربة؟!
استمعوا معي إلى هذا الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا".
ولك أن تسأل نفسك كم تطبق هذا الحديث؟ وكم تغفل عنه؟
نعم -عباد الله-: هدانا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وعلّمنا: أن نحمد الله عند العطاس، فبعد أن تعطس، لله حقّ الحمد عليك؛ ففي الحديث الصحيح عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ".
فالعطاس نعمة من نعم الله؛ كما جاء في صحيح البخاري: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ".
فانظر -أيها العبد-: كيف يريد منا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نطبق قيمة الحمد في واقع حياتنا، حتى مع بعض الأفعال اللاإرادية.
نعم -عباد الله-: هدانا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وعلّمنا: أن نحمد الله عندما نلبس اللباس الجديد؛ ففي الحديث الحسن لغيره: أَنَّ من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في اللباس أن يقول المسلم عندما يلبس ثوبا: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّى وَلاَ قُوَّةٍ".
إنه التذكر الدائم لربك -سبحانه- والعيش الطيب مع تجدد نعمه عليه، والاستذكار المستمر لفضله عليك ورزقه لك. وهذا كله من التوحيد.
نعم -عباد الله-: هدانا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وعلّمنا: أن نحمد الله عند النوم، عند الإيواء إلى الفراش، هدانا وعلّمنا -صلى الله عليه وسلم- أن نختم يومنا ونهارنا ب "الحمد لله"؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ، قَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لاَ كَافِي لَهُ وَلاَ مُئْوِي".
وهكذا تودّع يومك ب "الحمد لله" كما تستفتح يومك ب "الحمد لله".
إنها عقيدة التوحيد، تعيشها في واقع حياتك كله، وما أعظمها من حالة توحيد وإيمان حينما تودع يومك بالثناء على خالقك -سبحانه-، حينما تستذكر فضله عليك طوال يومك، وختام نهارك، حيث يسر لك نعمة الطعام والسكن والأمان والإيواء! وهناك غيرك من الناس يعيش جائعا طريدا! بذلك تستشعر ما معنى: "الحمد لله".
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).
وكما يحمد الله -سبحانه وتعالى- على نعمه المادية، ومنافعه الدنيوية، فإنه يحمد كذلك ربنا -سبحانه- على نعمه المعنوية، ونعمه الإيمانية، ونعمه الأخروية، بذلك نكون من عباده الذين امتدحهم، فقال فيهم: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ) [التوبة: 112].
فالمؤمن الصادق في إيمانه هو من تحققت فيه صفة الحمد لله؛ ظاهرا وباطنا.
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).
عباد الله: إن من أعظم ما يحمد العبد عليه ربه -سبحانه-، هو: نعمة الهداية، الهداية الكلية والهداية التفصيلية، فانظر كيف حمد الله نفسه، وأثنى عليها بقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)[الكهف: 1].
نعم، إن ربنا -سبحانه- يستحق الحمد كل الحمد على نعمة القرآن التي بها هدانا الله -سبحانه- للإيمان، ولمعرفة الحق من الباطل، ولعمل الصالحات، فلك الحمد كل الحمد يا ربنا على نعمة الهداية التي لا تعدلها نعمة أخرى، فبنعمة الهداية في الدنيا تحصل نعمة الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف: 43].
فإن كنت مؤمنا، فقل: "الحمد لله".
وإن كنت تأكل الحلال وتترك الحرام، فقل: "الحمد لله".
وإن كنتِ محجبة، فقولي: "الحمد لله".
أيها المسلم: قلك: "الحمد لله" إذا اهتديت، وقل : "الحمد لله" إذا هديت غيرك، وهذا هو هدي نبيك -صلى الله عليه وسلم-؛ فكما في صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: "أَسْلِمْ" فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ".
نعم، قال: "الحمد الله" أثنى على الله وحمده؛ لأنه قد اهتدى غيره.
وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، قَالَ جِبْرِيلُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".
فكلّما رأيت نفسك على الفطرة السليمة في أفعالك وأقوالك واعتقاداتك، فقل: "الحمد لله".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).
وتبقى: "الحمد الله" هي الثناء غير المنقطع الثابت في الدنيا والآخرة، هي الثناء المستمر على الله والدائم والمخلد، فكما حمد عباد الله ربهم، وأثنوا عليه بثناء الحمد في الدنيا، فإنهم كذلك يحمدون الله، ويثنون عليه بثناء الحمد في الآخرة، قال الله -تعالى- عن موقف أهل الجنة لربهم حينما يدخلونها، ويتسلمونها ويستقر أمرهم فيها: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)[الزمر: 74].
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)[فاطر: 34-35].
وقال تعالى في أبدية حمده وديمومته التي تدوم بدوام أهل الجنة: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[يونس: 10].
قال ابن كثير: "هذا فيه دلالة على أن الله -تعالى- هو المحمود أبدا، المعبود على طول المدى؛ ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره، وفي ابتداء كتابه، وعند ابتداء تنزيله، وأنه المحمود في الأول وفي الآخر، في الحياة الدنيا وفي الآخرة، في جميع الأحوال؛ ولهذا جاء في الحديث: "إن أهل الجنة يُلْهَمُونَ التسبيح والتحميد كما يُلْهَمُونَ النَّفَس".
وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تضاعف نعم الله عليهم، فتكرّر وتعاد وتزاد، فليس لها انقضاء ولا أمد، فلا إله إلا هو ولا ربّ سواه.
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).
قلها في الدنيا؛ حمدا لله لذاته العظيمة، ولصفاته الجليلة ولأسمائه الكريمة، وقلها في الدنيا لنعمه -سبحانه- عليك في صحتك وبدنك ودنياك ومالك وأهلك ورزقك، وقلها في الدنيا حمدا لله -تعالى- على نعمة الهداية وعمل الصالحات، قلها وطبقها هكذا، لتكون من الحامدين، ولتكون من القائلين الحمد لله في الآخرة، وأهل: "الحمد لله" في الآخرة؛ هم أهل نعيم الجنة.
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ).
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا يا رب العالمين.