الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | زيد بن مسفر البحري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
قال ابنُ كثير -رحمه الله-: "(وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؛ أي: حافظوا على الإسلام في حالِ صِحَّتِكم وسلامتكم؛ لتموتوا عليه، فإنَّ الكريمَ قد أجْرَى عادتَه بكَرَمِه أنَّه مَن عَاشَ على شيءٍ مَاتَ عليه، ومَنْ مَاتَ على شيءٍ بُعِثَ عليه، فعياذًا بالله مِن خِلاف ذلك".
الخطبة الأولى:
تَحدَّثْتا فيما مَضَى عن كثيرٍ من المشكلات التي يعيشُها المسلمون في زماننا، وتناولْنا من أسباب ذلك خُطورة الإعلام المُعَادِي، وأثَرَه في إفْساد كثيرٍ من أبنائنا وبناتنا، وانتهى بنا المطافُ إلى الوقوفِ على بعض النماذج النَّيِّرَة الرقْرَاقَة مِن تربية السَّلف لأبنائهم؛ من حيثُ تشجيعُهم على طلبِ العِلْم النافع، وتنشئتُهم على العبادة الصحيحة.
وقصْدُنا اليومَ أنْ نضعَ اليدَ على أحدِ أهمِّ أسباب النهوض بالأمَّة الإسلاميَّة، وإخراجها مِن هذا الوضْعِ المتحدِّر، الذي آلتْ إليه، وهذه الصُّورة الشوْهَاء التي صارتْ تُنْعَتُ بها؛ حتى إنها لا تُذْكَرُ بَيْنَ الأُممِ إلا بالتخلُّف والتبعيَّة، والاستهلاكيَّة والنمطيَّة؛ ممَّا أغْرَى أعداءَها بالتطاول على مُقَدَّساتها، والطعْنِ في عقيدتها، والتنقيص من قَدْرِ نبيِّها -صلى الله عليه وسلم-، حتى قالَ قائلُهم: "لن تتوقَّفَ جهودُنا وسعيُنا في تنصير المسلمين؛ حتى يرتفعَ الصليبُ في سماء مَكَّةَ، ويُقَامَ قُدَّاسُ الأَحدِ في المدينة".
وقال الآخَر: "لن تستطيعوا أنْ تغلبونا، حتى يكونَ عددُ المصلِّين في صلاة الفجْر كعددهم في صلاة الجُمُعة".
تجرَّؤوا على القولِ بذلك؛ لأنَّهم وجدوا مِن بعض مَن ينتمون إلى المسلمين مَن يكره الإسلامَ، ويَرى التقدُّم والازدهار في غيره.
إِذَا كَانَ تَرْكُ الدِّينِ يَعْنِي تَقَدُّمًا | فَيَا نَفْسُ مُوْتِي قَبْلَ أنْ تَتَقَدَّمِي |
إنَّه ضَعْفُ صفة الاتِّباع في نفوسنا، وضَعْف الرجوع إلى مصادرِ التشريع في تحقيق هُويَّتنا، واستقلالنا في أفكارنا، وآرائنا ومُعْتَقَدَاتنا.
لقد وَرَدَ لفظُ: "تَبِعَ" ومشتقاتُه في كتاب الله أزْيد مِن 180 مرة؛ منها 23 موضعًا تحثُّ على اتِّباع الله -عز وجل-، واتِّباع رسولِه الكريم، والرُّسل الآخرين، وأولياء الله الصالحين، و26 موضعًا تحثُّ على اتِّباع الحقِّ والهُدَى، وما أنزلَ اللهُ.
قال ابن عبد البر: "الاتِّباع ما ثَبَتَ عليه الحُجَّة، وهو اتِّباع كلِّ مَن أوْجَبَ عليك الدليلُ اتِّباع قولِه، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المثَلُ الأعْلَى في اتِّباع ما أمَرَ به".
فإذا وُجِدَ في العالَم اليوم أزيدُ من مليار شخص لا يعرفون الله، ويُنكرون وجودَه، ووُجِدَ أزيدُ مِن مليار آخرَ يعبدون الحجرَ والشجرَ، فهل علمتَ أنَّك خُلِقْتَ لتحقيق هذا الاتِّباع لكتاب الله، ولسُّنَّة رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-؟
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ): أنْ يُطاعَ فلا يُعْصَى، وأنْ يُذْكَرَ فلا يُنْسَى، وأنْ يُشْكَرَ فلا يُكْفَرَ".
قال ابنُ كثير -رحمه الله-: "(وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)؛ أي: حافظوا على الإسلام في حالِ صِحَّتِكم وسلامتكم؛ لتموتوا عليه، فإنَّ الكريمَ قد أجْرَى عادتَه بكَرَمِه أنَّه مَن عَاشَ على شيءٍ مَاتَ عليه، ومَنْ مَاتَ على شيءٍ بُعِثَ عليه، فعياذًا بالله مِن خِلاف ذلك".
ويقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أحبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عن النار ويُدْخَل الجنَّةَ، فلْتَأْتِه مَنِيَّتُه وهو يؤمِنُ بالله واليوم الآخِر، ولْيَأْتِ إلى الناسِ ما يحبُّ أنْ يُؤْتَى إليه" [رواه مسلم].
ويومُ الموتِ؛ هو الموْعِد؛ فعن أنس -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ على شابٍّ وهو في الموت، فقال: "كيف تجدُك؟" قال: "أرجو اللهَ يا رسولَ الله، وأخافُ ذُنوبي" فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجتمعانِ في قلْبِ عبدٍ في مِثْل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمَّنه ممَّا يخافُ" [صحيح ابن ماجة].
إنَّه حُسْنُ التديُّن الذي أمرَ به ربُّ العِزَّة والجلال، وقالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64].
قال الإمام الشوكانيُّ: "أي: كافيكَ اللهُ، وكافيك المؤمنون، ويحتملُ أن تكونَ بمعنى: كافيك وكافي المؤمنين اللهُ".
فهل الذي يتمادَى في معصية الله يخافُ الله؟! وهل الذي يَظلِم عبادَ الله، ويسطو على أموالِهم بالسَّرِقة، أو الرِّشوة، أو الغشِّ والتدليس يخافُ الله؟! وهل الذي جلَ حياتَه لَهْوًا ولَعِبًا، وشهوةً وقضاءَ وطرٍ، يخافُ الله؟!
قال ابنُ القَيِّم -رحمه الله- في كلام نفيس: "خَلَقَ الله الكونَ كلَّه، بسمائه وأرضه، وبأشجاره وأنهاره، وبِحَاره وسُهوله، وكلّ ما فيه لك أنت أيُّها المكلَّف، وخَلَقَك أنتَ له، فانْشَغِلْ بما خُلِقْتَ له، ولا تنْشَغِلْ بما خُلِقَ لك".
ووِزَانُ كلامِه رحمه الله قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أيُّها الناس: اتَّقوا الله وأجْمِلوا في الطلب؛ فإنَّ نفْسًا لن تموتَ حتى تَسْتَوفِيَ رِزْقَها، وإنْ أبْطَأ عنها، فاتَّقوا اللهَ وأجْمِلوا في الطلبِ، خُذوا ما أحلَّ، ودَعُوا ما حرَّمَ" [صحيح سنن ابن ماجة].
وَلْتَسْتَقُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَنْهَجَكُمْ | فَلَيْسَ فِي الأَرْضِ مِنَهَاجٌ يُدَانِيهِ |
فما لم يكنْ عندَ الرعيلِ الأوَّلِ دِينًا، فلنْ يكونَ اليومَ دينًا.
عن العِرْباض بن ساريةَ -رضي الله عنه- قال: "وَعَظَنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مَوْعظةً ذَرَفَتْ منها العيونُ، ووَجِلتْ منها القلوبُ، فقلْنا: يا رسولَ الله، إنَّ هذه لموعظة مودِّعٍ، فماذا تعْهَدُ إلينا؟ قال: "قدْ تركْتُكم على البيضاء، ليلُها كنهارِها، لا يَزيغُ عنها بعْدي إلا هالكٌ، مَن يَعِشْ منكم فسيرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بما عَرَفْتُم مِن سُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهْدِيِّين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة، وإنْ عبدًا حبشيًّا؛ فإنَّما المؤمِنُ كالجَمَلِ الأَنِفِ -الذي جُعِلَ الزِّمامُ في أَنْفِهِ- حيثما قِيدَ انْقَادَ" [صحيح سُنن ابن ماجة].
ولذلك قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33].
فمَن لم يكنْ على هَدْي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يزنْ أعمالَه بسُنَّته، فقدْ بَطَلَ عملُه؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بَشِّرْ هذه الأمَّة بالسَّناءِ -الضياء والرفعة- والدِّين، والرِّفعة، والنصْر والتمكين في الأرْض؛ فمَن عمِلَ منهم عملَ الآخرة للدنيا، لم يكنْ له في الآخِرة مِن نصيب" [رواه أحمد، وهو في "صحيح الجامع"].
الخطبة الثانية:
أيُّها المسلمون والمسلِمات: مِن صُوَر هذا الاتِّباع، ما رواه عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اتَّخذَ خَاتمًا من ذَهبٍ، فاتَّخذ الناسُ خواتيمَ مِن ذهبٍ، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إني اتَّخذتُ خَاتمًا مِن ذهب" فنبذَه، وقال: "إني لنْ ألبسَه أبدًا"، فنبذَ الناسُ خواتيمَهم" [رواه البخاري].
وفي الصحيحين عن سعيد بن جُبَير -رضي الله عنه-: أنَّ قريبًا لعبدالله بن مغفَّل خَذَفَ - والخَذْف الرَّمْي بالحَصَى- فنهاه، وقال: "إنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخَذْفِ، وقال: "إنَّها لا تصيدُ صيدًا، ولا تَنْكَأُ -تَقْتُلُ- عَدُوًّا، ولكنَّها تَكْسِرُ السِّنَّ، وتفْقَأُ العينَ" قال: فعاد، فقال: "أُحدِّثُك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نَهَى عنه، ثم تَخْذِفُ؟! لا أكلِّمُك أبدًا".
إنَّ الخيرَ في الأمَّة الإسلاميَّة باقٍ ما بَقِيَ الكتابُ والسُّنَّة بين ظهرانيها، وإنَّ التمكينَ في الأرض لا يتحقَّق إلا بسبيلهما؛ فقدْ بشَّرَنا بذلك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حينَ قال: "تركْتُ فيكم ما إنْ اعتصمتُم به، فلن تضلُّوا أبدًا؛ كتاب الله وسُنَّة نبيِّه" [سنن البيهقي، وهو في "صحيح الترغيب"].
ويقول صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ أُمَّتي مثَل المطرِ، لا يُدْرَى أوَّله خيرٌ أم آخِره" [صحيح سُنن الترمذي].
فلا تغترَّ -أخي المسلم- بكثرة الفِتَن، وقِلَّة السالكين، ورَحِمَ اللهُ الفُضيلَ بن عِياض، الذي قال: "الْزَمْ طُرقَ الهُدَى، ولا يَضُرَّك قِلَّةُ السالكين، وإيَّاك وطرقَ الضلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين".
وقال سُفيان بن عُيينة: "كانَ يُقَال: اسْلُكوا سُبَلَ الحقِّ، ولا تستوحشوا مِن قِلَّة أهلها".
وكان الإمام الأوْزاعي يقول: "نَدور مع السُّنَّة حيث دارتْ".
وقال أبو حفص: "مَن لم يزنْ أفعالَه وأحواله في كلِّ وقتٍ بالكتاب والسُّنَّة، ولم يتَّهمْ خواطرَه، فلا يُعَدَّ في ديوان الرِّجال".
فشمِّر على سُنَّة نبيِّك -صلى الله عليه وسلم-، وحَكِّمْها في كلِّ أقوالك وأفعالك ما استطعتَ؛ لأنَّ في ذلك نجاتَك، قبلَ أنْ يأتيَ يومُ الحسْرة والنَّدَامة.
عن سهْل بن سعدٍ الساعدي قال: "سمعتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أنا فَرَطُكم على الحوْض، مَن وَرَدَه شَرِبَ منه، ومَن شَرِبَ منه لم يظمأْ بعدَه أبدًا، ليَرِدَنَّ عليَّ أقوامٌ أعرِفهم ويعرفونني، ثم يُحَالُ بيني وبينهم، إنهم منِّي، فيُقال: إنَّك لا تدري ما بَدَّلوا بعدَك، فأقول: سُحْقًا سُحْقًا لمن بَدَّلَ بعدي" [متفق عليه].