الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | حسين شعبان وهدان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
حديثهم راحةُ النفوس الكليلة، وذكراهم تَجلو القلوبَ العليلة، ولا يَجد المؤمن الصادق سلوى الفؤاد المنكود بتربص الباغين، وندرة القدوات، وقلة الناصرين والمؤازرين للمؤمنين، إلاَّ بتتبُّع سيَرهم، ومعرفة شيء من أحوالهم؛ حتى يُكْمِلَ المسِيرَ أبناءُ هذا الجيل فيما بينهم على معلمٍ وقدوةٍ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90].
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي رَضِيَ الإسلام لنا دينًا، وبعث رسولَ الهدى والحق يَهدينا، فبَلَّغ رسالةَ المحبة والسلام، وألَّفَ بين القلوب وبسط لها أشرعة الحب والوئام، وأشرق في الأفقِ نُورُ الأنْصَارِ بِالإِيثار، بعد أن كانوا أوسًا وخزرجًا، ونجاهم الله من الأخطار، بعد أن ساروا فيها لُجَجًا، فأضْحَوا سادةَ الدُّنْيَا بالإيمان، فَلَهُمُ البُشْرَى والمجد إلى آخر الأزمان.
وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحْدَه لا شريك له، المَلِك الحق المبين، ناصر دينِهِ بالمؤمنين، وهاديهم إلى صراطه المستقيم بالنبي الأمين. وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، وصفيه من خلقه وحبيبه، قائد الغر المحجلين، ومعلِّم المهتدين من السابقين الأولين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلله أقوامٌ ساروا بهذا الدين حتى بلغوه، وحملوا لواءَ الشريعة ولم يتركوه، فنالوا العزَّ من ذراه، واشتملهم الهدى إلى مُنتهاه، وكانوا بشرًا كالبشر، يأكلون الطَّعام ويَمشون في الأسواق، وقد عذبت أمانيهم في الخير؛ حتى صاروا أئمَّة المهتدين، ونبراسًا ومُعلمًا وقدوةً في العمل لهذا الدين، فرحم الله منهم السابقين واللاَّحقين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
والكلام يدور بأجملِ معانيه حول الأنصار، الذين مدحهم الله -تعالى- في كتابه، وأثنى عليهم الثناء العاطر، ومعهم المهاجرون والمتّبِعون لهم بإحسانٍ؛ قال الله -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100].
حديثهم راحةُ النفوس الكليلة، وذكراهم تَجلو القلوبَ العليلة، ولا يَجد المؤمن الصادق سلوى الفؤاد المنكود بتربص الباغين، وندرة القدوات، وقلة المناصرين والمؤازرين للمؤمنين، إلاَّ بتتبُّع سيَرهم، ومعرفة شيء من أحوالهم؛ حتى يُكْمِلَ المسِيرَ أبناءُ هذا الجيل فيما بينهم على معلمٍ وقدوةٍ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90].
وفي هذا اللقاء يطيب لنا أنْ نقطفَ زهرةً شذيَّةً من عبيرِ المجتمع الأول، الذي كوَّنَهُ رسولنا الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم- وغذَّاهُ برحيق الإيمانِ الطَّاهِرِ، فأَطَلَّتْ على الدُّنْيَا لأوَّلِ مرَّةٍ هذه النخبةُ الكريمةُ الأصِيلةُ من جواهر الأخوَّةِ، التي ليسَ لها مثيلٌ في التاريخ العامِّ للبشريةِ كلِّها، وشَرُفَتْ دنيا الناس بمطلع نور الأنصار.
وهم قومٌ لهم أعلى مكانةٍ في السابقين، والمجاهدين، والصالحين، والذَّاكرين، والمواسين، والمُؤْثِرين، والمنفقين، ولم يكن لهم في قاموس المعاني من الأنانية، والكَدِّ، والصَّدِّ، والإلجاء، والجُبْنِ، والبُخْلِ، والاستغْلال، والجحود، وخفر العهود؛ أدنى نصيبٍ من المعنى حتى طاولوا منازلَ الملائكَة الكرام حُبًّا ووفاءً ومَرْحَمَةً وبِرًّا، هُمْ وإخوتهم من المهاجرين.
أُولَئِكَ النَّاسُ إِنْ عُدُّوا وإِنْ ذُكِرُوا | وَمَا سِوَاهُمْ فَلَغْوٌ غَيْرُ مَعْدُودِ |
والحديث عن الأنصار مترعٌ بمعاني الحمدِ الخُلُقِيَّةِ والإيمانية، التي لا يعقلها إلا العالمون.
ونحن نحتاج جِدَّ الأمر إلى الحديث عنهم، والسماع لأخبارهم العذبة في وقتٍ صار فيه الهوى والمصلحة هما الحاكمين في كثيرٍ جدًّا من مواقفنا ورؤانا، نَحتاج إليهم بلا اختيارٍ؛ لأنَّهم هم الذين ضربوا أروعَ الأمثلة في إنكار الذات والافتداء.
ولا شك أنَّهم لم يغنموا هذه النُّعوت الفاضلة إلا بمناقبهم وتَميُّزهم، الذي اختُصوا به من بين الناس؛ فلا تكريمَ في الإسلام إلاَّ بسببٍ فأتبع سببًا؛ فمن أشهر مناقبهم العامة أنَّ الإسلامَ قد دخل المدينةَ عن طريق النقباء الذين كانوا دلائلَ الدين وسفراءَه في قلوب سكانها الأكارم، وقد عاهدوا النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في البيعة الأولى للعقبة، ثم العقبة الثانية، وهم الذين استقبلوا النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في هجرته إلى المدينة بلهفة المشتاق، وحداء البهجة والتَّرْحاب.
ووصل مصعب بن عمير -رضي الله عنه- إلى المدينة المنورة على إثْرِ النقباء للدعوة إلى الإسلام في هذه البقعة، التي تشرفت بعد ذلك بسُكْنَى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيها، ولما وصل النبي الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأشرق نوره على المدينة المباركة، كان كل واحدٍ منهم له طلبةٌ غاليةٌ في نفسه قد صرح بها الجميعُ للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهي أنْ يُساكنهم في دُورهم، وكان كل واحدٍ منهم يُمسك بخطام ناقة النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- حتى يفوز بهذا الأمل.
ومن مناقب الأنصار أنَّهم أهلُ المؤاخاة مع المهاجرين، مع أنَّهم كانوا يَملكون الضياعَ والنعم والأموال، بينما ترك المهاجرون كل ذلك في مكة، فكانت أُخُوَّتُهم نَموذجًا باهرًا للإيثار والبذل والعطاء.
وقد "آخى النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- بينهما في دار أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه- وكانوا ستين رجلاً، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار.. آخى بينهم على المواساة، ويتوارثون بعد الموت دون ذَوي الأرحام إلى وقعة بدر، فأنزل الله -تعالى-: (وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [الأنفال:75]".
وعلى هذه الشاكلة كان حالهم يُنْبِئ عن العطاء في أبهى حُلله؛ فقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قالت الأنصار للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: "لا"، فقالوا: أتكفوننا المُؤْنَة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا.
ولأنَّهم أهلُ عطاءٍ تَتَقَاصَرُ عن فهمه وإدراكه عقولُ البخلاء والممسكين، فقد وافَتْنا كتبُ التاريخ والسير بما ليس في العالمين مثيل؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله تعالى عنه- قال: كانت الأنصار إذا جذوا نَخْلَهم قسم الرجل تمره نصفين: أحدهما أقل من الآخر، ثم يجعلون السعف مع أقلهما، ثم يُخيِّرون المسلمين، فيأخذون أكثرهما، ويأخذ الأنصار أقلهما من أجل السعف، حتى فتحت خيبر، فقال رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "قد وَفَّيْتم لنا بالذي عليكم، فإن شئتم أن تطيب أنفسكم بنصيبكم من خيبر، وتطيب لكم ثماركم فعلتم"، فقالوا: إنَّه قد كان لك علينا شروطٌ، ولنا عليك شرط بأنَّ لنا الجنة، قد فعلنا الذي سألتنا على أنَّ لنا شرطنا، قال: "فذاكم لكم".
إنَّهم الأنصار، خيرُ مَن واسى بالنفس والمال؛ قال الله -تعالى- في معرض المدح: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
ولكنَّ العطاء له في ساحة النفس حدودٌ يقف عندها، ولا يُبارحها إلاَّ عند هؤلاء القوم الذين قدَّموا صورةً للتاريخ يَرويها مُندهشًا من هذه الثُّلَّة المباركة مُهاجرين وأنصارًا، وتأمَّل هذه الصورة العجيبة في العطاء وفي التعفُّف أيضًا، روى أنس بن مالكٍ -رضي الله عنه- قال: عن عبد الرحمن بن عوفٍ قال: لما قدمنا إلى المدينة، آخى رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إنِّي أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أيَّ زوجتَيَّ هَوِيتَ نزلتُ لك عنها، فإذا حلت تزوجتَها، قال: فقال عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تِجارة؟! قال: سوق قينقاع، قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى بأقطٍ وسمنٍ، قال: ثم تابع الغدو؛ فما لبث أنْ جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "تزوجتَ؟!"، قال: نعم، قال: "ومن؟!"، قال: امرأة من الأنصار، قال: "كم سقتَ؟!"، قال: زنة نواةٍ من ذهب، أو نواة من ذهب، فقال له النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "أَوْلِم ولو بشاة".
ومِنْ مَناقبهم الجامعة أنَّ الله -تعالى- قد عبّر بدخول الإيمان إلى القلوب عندما تحتوي على نسمات هذا الإيمان، أمَّا مع الأنصار، فالأمر له شكلٌ آخر يخبرك أنَّهم هم الذين كأنَّهم يسكنون في الإيمان، لا أنه يَمْلأ قلوبهم فقط؛ قال الله -تعالى- عنه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الحشر:9]؛ ولذلك قال النبي الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إن الإيمان لَيَأْرِزُ إلى المدينة كما تأرز الحيةُ إلى جحرها". السيوطي في الجامع الصغير 1958 بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ولأنهم أهلُ قلوبٍ حيَّةٍ متفاعلةٍ مع المشاعر الطهورة، فقد نَمَّى النبي العظيم -صلَّى الله عليه وسلَّم- هذا الحب فيهم، بعدما آنس منهم هذه الكنوز الساكنة في دواخلهم، يَروي الصحابي الجليل أبو سعيدٍ الخدري -رضي الله عنه- صفحةً مجيدةً من هذا الحب المكنوز في القلوب بشكلٍ جمعيٍّ، فيقول: لما أعطى رسولُ الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كَثُرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة -رضي الله عنه-، فقال: يا رسول الله: إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسِهم لِمَا صنعت في هذا الفَيْء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيءٌ، قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟!"، قال: يا رسول الله: ما أنا إلاَّ امرؤ من قومي، وما أنا؟! قال: "فاجمع لي قومَك في هذه الحظيرة"، قال: فخرج سعد، فجمع الناس في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجالٌ من المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فرَدَّهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار.
قال: فأتاهم رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فحمد الله، وأثنى عليه بالذي هو له أهل، ثُمَّ قال: "يا معشر الأنصار: ما مقالةٌ بلغتني عنكم، وجِدَة وجدتموها في أنفسكم؟! ألَم آتِكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالةً فأغناكم الله، وأعداءً فألَّف اللهُ بين قلوبكم؟!"، قالوا: بل الله ورسولُه أَمَنُّ وأفضل، قال: "ألاَ تُجيبونني يا معشر الأنصار؟!"، قالوا: وبماذا نُجيبك يا رسول الله، ولله ولرسوله المنُّ والفضل؟! قال: "أمَا والله، لو شئتم لقلتم، فلَصَدَقْتُم وصُدِّقْتُم، أتيتنا مُكذَّبًا فصدقناك، ومَخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فأغنيناك، أوجدتم في أنفسكم -يا معشر الأنصار- في لُعاعةٍ من الدنيا تألَّفْت بها قومًا؛ ليُسْلِموا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامِكم؛ أفلا ترضَوْن -يا معشر الأنصار- أَنْ يَذْهَبَ الناس بالشاةِ والبعير، وترجعون برسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في رحالكم؛ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرةُ لكنتُ امرأً من الأنصار، ولو سلك الناسُ شِعبًا، وسَلَكَتِ الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار"، قال: فبكى القومُ حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: "رضينا برسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قسمًا وحظًّا، ثم انصرف رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وتفرقنا".
وعلى ساحة المشاعِر الفرديَّة مِن بَيان الحبِّ لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- نقف مع الصحابي الجليل سعد بن الربيع -رضي الله عنه- لنلمح مَشهدًا آخر من الحب، الذي ليس له في دنيا الناس حدٌّ معلومٌ؛ فعن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة -وهو يحدث عن مشاهد أُحُدٍ إِثْرَ القتال- أنَّ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "مَن رجلٌ ينظر لي ما فعل سعدُ بن الربيع؟! أفي الأحياء هو أم في الأموات؟!"، فقال رجل من الأنصار: أنا، فنظر، فوجدَه جريحًا في القتلى وبه رَمَق، فقال له: إنَّ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟! فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- سلامي، وقل له: إنَّ سعدَ بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خَيْرَ ما جزى نبيًّا عن أُمَّتِه، وأبلغ قومك عنِّي السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: "إنَّه لا عُذْرَ لكم عند الله إنْ خُلِصَ إلى نبيكم وفيكم عين تطرف".
وقد بالَغَ النبيُّ العظيم -صلَّى الله عليه وسلَّم- في حُبِّ الأنصار، وجعل ذلك من حُسْنِ الإيمان لكل المؤمنين، ولا أدَلّ على ذلك من مبادلته لهم هذه المحبة بقوله للأنصار فيما يرويه أنس -رضي الله عنه-: "إنَّ النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- رأى صبيانًا ونساءً مقبلين من عرس، فقام نبي الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ممثلاً، فقال: "اللهم أنتم من أحبِّ الناس إلَيَّ، اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ". يعني: الأنصار.
ومن شِدَّة حبه لهم قال -أيضًا كما سبق-: "لولا الهجرة، لكنت امرأً من الأنصار"، ثم أمر المؤمنين بمحبتهم، وحذر من مغبَّة بُغضهم وقال: "الأنصار لا يُحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبَّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله".
ويبشرهم النبي الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم- بأنه سيلقاهم عند الحوض في الجنة، بقوله: "موعدكم الحوض"، وهذه من عاجل البشرى؛ لأنَّهم افتدوا هذا الدين وهذا النبي الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم- دون أن يكون لهم في عالم الأطماع الدنيوية شيءٌ مذكورٌ أو غير مذكورٍ؛ لهذا استحقوا هذه البشرى، يذكر السرجاني في إحدى كلماته: "سبحان الله! الأنصار قَدَّموا، وقَدَّموا، ولم يأخذوا شيئًا، وكلما جاءتِ الفرصة ليأخذوا، يَجعل الله أمرًا آخر، فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط، ولا ضجر، وكأنَّ الله أراد أن يَدَّخر لهم الأجرَ كاملاً، ولا يعجل لهم شيئًا في دنياهم".
لهذا بالغ الصَّحابةُ -أيضًا- من غير الأنصار في إكرام إخوانِهم الأنصار، وهذه صورةٌ معبرةٌ؛ يقول أنس بن مالكٍ -رضي الله تعالى عنه-: "خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفرٍ، فكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل، فقال: إنِّي قد رأيتُ الأنصارَ تصنع برسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- شيئًا آليت ألا أصحبَ أحدًا منهم إلا خدمته، زاد ابنُ المثنى وابنُ بشار في حديثهما: وكان جرير أكبر من أنس، وقال ابن بشار: أسنُّ من أنس"، كل هذا وجريرٌ أسنُّ من أنسٍ! مع أنَّه سيد له مهابةٌ ومكانةٌ في قومه، ولكن الإيمانَ له في أهله معلمٌ آخر يوافي العقول المتأملة بالعجائب.
وأَجْمِل بقول كعب بن زهير -رضي الله عنه- في الأنصار مدحًا:
مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلاَ يَزَلْ | فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ |
تَزِنُ الْجِبَالَ رَزَانَةً أَحْلاَمُهُمْ | وَأَكُفُّهُمْ خَلَفٌ مِنَ الْأَمْطَارِ |
الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ | كَصَوَاقِلِ الْهِنْدِيِّ غَيْرِ قِصَارِ |
وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ | كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلِيلَةِ الْإِبْصَارِ |
وَالذَّائِدِينَ النَّاسَ عنْ أَدْيَانِهِمْ | بِالْمَشْرَفِيِّ وَبِالْقَنَا الْخَطَّارِ |
وَالْبَاذِلِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ | يَوْمَ الْهِيَاجِ وَقُبَّةِ الْجَبَّارِ |
دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ أُسُودُ خَفِيَّةٍ | غُلْبُ الرِّقَابِ مِنَ الْأُسُودِ ضَوَارِي |
وَهُمُ إِذَا خَوَتِ النُّجُومُ فَإِنَّهُمْ | لِلطَّائِفِينَ السَّائِلِينَ مَقَارِي |
وَهُمُ إِذَا انْقَلَبُوا كَأَنَّ ثِيَابَهُمْ | مِنْهَا تَضَوَّعُ فَأْرَةَ الْعَطَّارِ |
وَالْمُطْعِمُونَ الضَّيْفَ حِينَ يَنُوبُهُمْ | مِنْ لَحْمِ كُومٍ كَالْهِضَابِ عِشَارِ |
فهم قدوةُ الخير لكلِّ مُقتدٍ في العطاء لله ولدينه بلا حدودٍ وبلا كللٍ، وموعده الحسنى يوم يلقى ربه راضيًا مرضيًّا.
ولعل المتبع لسيرتهم يظنهم لأول وهلةٍ من الملائكة الكرام، وهم يسطرون هذه الملاحم الغراء؛ إذ إنَّهم ترفعوا عن سخائم النفوس، وما يتفرع عنها من تعلقٍ كريهٍ بالدُّنيا، ولكنَّهم كانوا بشرًا من البشر يأكلون الطعامَ ويَمشون في الأسواق.
فلنجعلهم قدوةً لنا بعد النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- في أجمل معانيهم التي تتعطش إليها حياة المؤمنين.
والحمد لله في بدءٍ وفي ختم.