العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
كيف بمن أفسدها حسًّا وفجّر فيها بناء وجلب الظلم فيها، وروّع قاطنيها، وأزعج ساكنيها؟! بل كيف بمن قتل مَن فيها وأرعب الساجد والراكع فيها؟! وهذا ما حصل من الاعتداء المرير في مسجد الطوارئ بعسير من القتل والتدمير والإفساد والتفجير. حدث لا يرضاه ضمير، ولا يقره شرع ودين، سمته الأمن والتيسير، فانتُهكت المساجد ورُوِّع فيها الراكع والساجد، وأُهينت المصاحف، ودُمرت الحيطان والفُرش والمتاحف، قُتل الأبرياء وانتُشلت فيها أشلاء، ومرض فيها أصحاء وروَّع أمناء، ومتى كان دين الله يُنتهك بهذه الطريقة؟!..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عظم المساجد وجعلها مأوى لكل راكع وساجد، وأمانًا لكل طائع وعابد، وعظم حرمتها فجعل من الظلم منعها لكل عابد، وأشهد أن لا إله إلا الله حذّر من الترويع والتهديد، فكيف إذا كان بالمساجد؟!
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نهى عن حمل السلاح وترويع المسلم، فكيف إذا كان في أعظم بقعة لكل صادر ووارد؟!
أما بعد فاتقوا الله حق تقواه تفوزوا بجنته ورضاه.
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه | فلا تترك التقوى اتكالا على النسب |
فقد رفع الإسلام سلمانَ فارسٍ | وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبْ |
إخوة الإسلام: استعدوا واصبروا وصابروا، وللصالحات اعملوا، وللقربات بادروا، ولطاعة الله وطاعة رسوله امتثلوا، فبقاؤكم في الدنيا قليل، وزادكم للآخرة ضئيل.
أيها المسلمون: المساجد بيوت الله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) [الجن: 18] أعظم البقاع وأشرف المواطن عزة وارتفاع شرفها وأعلى قدرها وجعل من يرتادها من أهلها بل علامة الإيمان وطاعة الرحمن (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ) [التوبة: 18].
أحب البقاع إلى الله مساجدها، وأقرب الخلق إلى الله ساجدها، خصها بالإضافة والتشريف والتكريم والتلطيف، منع فيها الظلم وصانها عن كل وزر وإثم (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) [البقرة: 114]، فذكر ذنبين عظيمين؛ الظلم والتخريب الحسي والمعنوي.
فإذا كان ذلك كذلك فكيف بمن أفسدها حسًّا وفجّر فيها بناء وجلب الظلم فيها، وروّع قاطنيها، وأزعج ساكنيها؟! بل كيف بمن قتل مَن فيها وأرعب الساجد والراكع فيها والله يقول: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97]، وهذا ما حصل من الاعتداء المرير في مسجد الطوارئ بعسير من القتل والتدمير والإفساد والتفجير.
حدث لا يرضاه ضمير، ولا يقره شرع ودين، سمته الأمن والتيسير، فانتُهكت المساجد ورُوِّع فيها الراكع والساجد، وأُهينت المصاحف، ودُمرت الحيطان والفُرش والمتاحف، قُتل الأبرياء وانتُشلت فيها أشلاء، ومرض فيها أصحاء وروَّع أمناء، ومتى كان دين الله يُنتهك بهذه الطريقة؟! والمساجد بيوت الله فيها عباده والمصلي له حرمته، وهو في بيت ربه، فمن اعتدى عليه عظُم جرمه وباء بإثمه.
لقد نُهي عن المرور بين يدي المصلي خشيةَ التشويش عليه، وقطع العلاقة والخشوع بين يديه، فكيف بتخويفه وإزعاجه وترويعه وإخراجه؟!
وإذا كان المرء ممنوعًا من رفع السلاح فيها، وترك نصالها؛ خشيةَ أن يصيب من فيها، فكيف بمن حمل السلاح فيها؟! وقتل راكعيها وساجديها؟! وحرّم الشرع الاعتداء على دور العبادات.
إن هذه الأعمال والإفرازات والخصال يجب أن تُستنكر، ويجرّم فيها المعتدي وصاحب المنكر، ويحفظ مكانة العلماء فيها وحلق التحفيظ والدروس العلمية والدورات الشرعية، وأهل الصلاح والإصلاح والمستجيبين لحي على الصلاح حي على الفلاح.
فلا يربط هذا الاعتداء الآثم والإجرام القاتل بجهود صلحاء، ولبلدهم أوفياء، وللناس أمناء، فكلٌّ يُؤخذ بجريرته، ويُدان بفعله وخطيئته، يقال هذا حينما ترى وتسمع تغريدات ورسائل وكلمات بنقد وتخطئة واستهزاء واستخفاف لأهل الخير والحلق والمساجد والمصاحف.
فجهود أهل الخير في المساجد مبذولة ودور العلماء والدعاة فيها مشكورة، وكشف شبه المنحرفين والفكر الضال الدفين في الكلمات والخطب والدروس محفوفة محفوظة.
أيها المسلمون: إن قتل هؤلاء المصلين الركع السجود الآمنين في بيت الله الأمين جريمة نكراء وفعلة ضغناء.
سحقا لمن باع الأمانة والهدى | ومضى بخبث يستبيح المسجدا |
تركوا اليهود وراءهم وتسابقوا | يستهدفونَ الراكعين السُجدا |
أيها المسلمون: إن قتل المصلين ليس وليد هذا العصر والفعل المشين، بل هو مذهب رافضي وفكر خارجي كما فعل أبو لؤلؤة المجوسي.
إخوة العقيدة: احذروا الأفكار المنحرفة والأهواء المنجرفة والآراء الفاسدة (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103].
يا ويحَ أمّتنا الحبيبةِ أرهقتها | غَدَراتُ مَن قطعوا عن المجد السّياقا |
كم فاتنٍ في أمّتي جلبوا إليها | فِتَناً كموج البحر تَصْطَفِقُ اصطفاقا |
يا إخوةَ الحقّ المبين قفوا جميعاً | صفّاً ولا ترضوا لجمعكم افتراقا |
عباد الله: خذوا دينكم ممن تعلمون دينه وعلمه وورعه وعقله، فمن لم يتورع في علمه وفتواه زجَّ في علمه وهواه إلى ما لا يحمد عقباه.
يقول إمام التابعين محمد بن سيرين: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"، لا سيما في عصر كلٌّ يفتي ويرجّح، وكلٌّ له رأيه ويصحّح يزدري غيره، وينتقص من هو أعلى منه، وتكلم الرويبضة، وتكلمت العامة، بل وصل الحد في الكلام إلى الذات الإلهية والعقيدة الإسلامية، والمسائل المصيرية، وبدأ يكفّر ويبدع ويفسّق وهو متكئ على أريكته وعلمه قليل وبضاعته مزجاة، ولا شيخ له في درسه وعلمه ومبدؤه ومنتهاه.
ولهذا حرمت الشريعة القول بلا علم وجعلته من أكبر الوزر والإثم: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ) [النحل: 116].
كل ذلك حذرًا من التقول على الشريعة والعلوم بلا هدى وبرهان وحجة وسلطان، وإنما هو هوى أو اتباع فلان، أو طائفة وحزبية وعلان، أو مجهول العلم والهوية عبر الاتصالات في علوم التقنية، ولهذا تساهل في هذا الجانب، وانفتح في هذا الباب لكل مخاطب دون تعقل وتفكر وحاجب التفكير والتبديع والتفسيق دون مرجع لكتاب وسنة وعلم نميق.
كل يرى رأيا وينصر قوله | وله يعادي سائر الإخوان |
ولو أنهم عند التنازع وفقوا | لتحاكموا لله دون توان |
ولأصبحوا بعد الخصام أحبة | غيظ العدا ومذلة الشيطان |
وتكفير الناس بين طرفي نقيض، منهم من نفاه، ومنهم من أثبته دون قيد أو شرط وألقاه وهو في السنة والقرآن محفوظ، ولكن له أسباب وموانع وشروط، وليس هو لكل كبير وصغير وجاهل مبتدأ بالعلم والتحرير، فليس حمًى مستباحًا أو مذاقة لبن مباحًا.
يقول ابن القيم رحمه الله
الكفر حقُّ الله ثم رسولِه | بالنصِّ يثبت لا بقول فلان |
من كان ربُّ العالمين وعبدُه | قد كفّراه فذاك ذو الكفران |
ولهذا حينما يتغلب التكفير على التؤدة والتفكير فلا غرو أن تتحول المساجد من الذكر والتكبير إلى التدمير والإفساد والتفجير.
فاحفظ لسانك من الكلام الأثيم إلا بعلم راسخ حكيم أو مشاورة لأهل العقل والتحكيم، فمن تجرأ على قتل المصلين، وبأنهم مرتدون، ماذا سيقول أمام رب العالمين حينما يقف هو وخصمه يوم الدين، وهل يعذر أن يقول فلان أو علان، أو هذا ما ظهر لي وبان بدون حجة وبرهان، فالله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على ولد عدنان.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على نبيه وصحبه، وبعد:
من نتاج التفجير: استباحة القتل والتفجير، وقد عظّم الله حرمة الدماء، وجعله قرين الشرك والنظراء (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) [الفرقان: 68- 69].
وقد جاء الوعيد الشديد مما يشيب الكبير والصغير والوليد: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93].
فويلا ثم ويلا لمن تجرأ على قتل عباد الله لاسيما من كان في بيوت الله، فلا يرعى بيت الله ولا مسجده ولا حرمة الدماء وسفكه، فاغتال المصلين واستباح دماء الساجدين الراكعين والمؤمن محفوظ وعرضه ودمه "كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه".
وفي البخاري عن ابن عمر: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حله".
وفي الترمذي "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم".
وفي الصحيحين "أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء".
وفي البخاري "أبغض الناس إلى الله ثلاثة"، وذكر منهم "ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه".
وفي الترمذي "يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دما، يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني حتى يدنيه من العرش".
ومن أسباب القتل والتكفير: الغلو في كل صغير وكبير، ولهذا عظّم الشارع أمره فقال رسول الله: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كانت قبلكم الغلو"، وقال: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ".
فلا بد من حذر صادق وجدية وخطاب صادق، فنحن أمام خطر داهم، وفكر غاشم وبلاء قاتم، لابد من الحذر من التواصلات الاجتماعية والشبكات العنكبوتية ومصادر التلقي التوهمية والحسابات المبهمة والمواقع المجهولة.
ولهذا يجب علينا في واقعنا المعاصر رسائل:
يجب علينا أن نتقي الله فلا نكفّر ونفجّر، وعلينا أن نسأل ونتأمل ونفكر فمن دخل الإسلام بيقين فلا يخرج منه إلا بيقين.
وكذا على الآباء والأمهات احتواء الأبناء والبنات، والاحتكاك بهم واحتضانهم ورفع شأنهم، وتقبل آرائهم، وتفهم خطابهم والجلوس معهم وحوارهم الهادف والنقاش الوارف وتفقد رفقتهم ونصحهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
وعلينا كإعلاميين وصحفيين وكتاب وناقدين ألا نتطرف ونؤجج ونجحف، ونرمي الأبرياء بالشناعات والازدراء والخصوم والاعتداء، ونعمم الخطاب فنورث الشك والارتياب.
ورسالة إلى المعلم والمربي والمسئول في كل مجال وحقول بحفظ الطلاب والشباب، وفتح الصدر وسعة الرحاب، وسماع كلامهم والجواب على أسئلتهم، فهم أبناؤنا وثمارنا، قلوبهم صافية وأفئدتهم نقية، وغرائزهم متعطشة، فالشاب النبيل عنده من الحنكة والإبداع والرأي الجميل، وما مجالس عمر بن الخطاب عنا ببعيد وأخذه برأي ابن عباس وقوله السديد.
هذا ومن ثمار هذه التصرفات: الاجتماع والائتلاف والترابط، ونبذ الفرقة والخلاف واجتماع الكلمة وتوطئة اللحمة، ومعرفة الأمة بواقعها ومصير شبابها وموارد مصادرها ومعرفة عدوها الخارجي، وعدوها الداخلي والبعد عن مواطن الفتن ومواقع المحن، وفي السنن "إن السعيد لمن جنب الفتن".
وكذا الحذر والتوقي وهو السبيل والترقي، ولهذا من الثمار التفاؤل الحسن وحسن الظن:
الغيمُ يا أبها يكفكفُ جرحهُ | والماء رغم ضلالهمْ يتبسّمُ |
قولي لمنْ نثر الدماء توَهُماً | الله أكبرُ من هواكَ وأرحمُ |
وهذا الفعل المشين وقتل المسلمين والركع الساجدين بعيد عن العلم الشرعي المتين والتعقل المبين، يقال هذا إذا ذهب العقل الصحيح والعلم الصريح، وفي الخبر الصحيح في آخر الزمان "يكثر الهرج، وهو القتل فلا يدري القاتل فيما قَتل ولا المقتول فيما قُتل".
وعند أحمد في مسنده "إن بين يدي الساعة الهرج"، قيل: وما الهرج؟ قال: "الكذب والقتل" قالوا: أكثر مما نقتل الآن؟ قال: "إنه ليس بقتلكم الكفار ولكنه قتل بعضكم بعضًا حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه"، قالوا: سبحان الله ومعنا عقولنا؟ قال: "لا، إلا أنه ينزع عقول أهل ذاك الزمان حتى يحسب أحدكم أنه على شيء وليس على شيء".
هذا، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني إياكم من أنصار دينه وشرعه..