المقتدر
كلمة (المقتدر) في اللغة اسم فاعل من الفعل اقْتَدَر ومضارعه...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
ويوم القيامة يصل كل إنسان إلى دار إقامته، التي يصلها بعمله، وإلى ما أعد الله له من النعيم أو العذاب، فللمؤمنين دار النعيم، وللمكذبين بالساعة عذاب جهنم، وقد سُعِّرت ودَبَّت فيها الحياة، فإذا هي تتغيظ وتزفر فيسمعون زفيرها وتغيظها، وهي تتحرق عليهم، وتصعد منها الزفرات غيظاً...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عمت رحمته كل شيء ووسعت، وتمت نعمته على العباد وعظمت، ملك ذلت لعزته الرقاب وخضعت، وهابت لسطوته الصعاب وخشعت، وارتاعت من خشيته أرواح الخائفين وجزعت، كريم تعلقت برحمته قلوب الراجين فطمعت، بصير بعباده يعلم ما كنت الصدور وأودعت، عظيم عجزت العقول عن إدراك ذاته فتحيرت. نحمده على نعم توالت علينا واتسعت.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجّي قائلها من النار يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده حتى علت كلمة التوحيد وارتفعت، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته، ولا تغرنكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العيش ولذاته؛ فقد قرب الرحيل، وذهب بساعات العمر وأوقاته.
أيها الإخوة: ليس بين الله وبين خلقه نسب ولا قرابة، ولا شفاعة عنده إلا بإذنه ورضاه، فقد قضى الله أن طاعته توصل إلى الجنة، وأن معصيته توصل إلى النار، والطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْجَنَّةُ أقْرَبُ إِلَى أحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ" [أخرجه البخاري 6488]، فمن يعمل مثقال ذرة من خير مخلصًا لله لا يضيع أجرها عنده، ومن يعمل مثقال ذرة من شر لا يضيع وزرها، والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحدًا.
عباد الله: ومع قرب الجنة إلا أنه لا يوصل إليها إلا بقطع المكاره ومكابدة المشقات، والنار لا ينجو منها إلا بترك الشهوات المحرمة التي تشغل العبد عن فعل المأمورات، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ" [أخرجه البخاري: 6478، ومسلم: 2823] فالجنة محجوبة بالمكاره، والنار محجوبة بالشهوات، فمن هتك الحجاب اقتحم هذه أو هذه، فاختر لنفسك -يا عبد الله- ما شئت.
أيها المسلمون: خلق الله الجنة والنار، ولكل منها خلق سيدخلونها، فهما دارا الجزاء الأخروي، فمن زرع في الدنيا حصد في الآخرة، ولكل منها سُكّان وأهل، وقد ورد في السنة المطهرة أن الجنة والنار تتحاجان وتتجادلان حتى يحكم الله بينهما، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "احْتَجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، فَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِهَذِهِ: أنْتِ عَذَابِي أعَذِّبُ بِكِ مَنْ أشَاءُ، (وَرُبَّمَا قَالَ: أصِيبُ بِكِ مَنْ أشَاءُ) وَقَالَ لِهَذِهِ: أنْتِ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكِ مَنْ أشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا" [أخرجه البخاري: 4850، ومسلم: 2846]، فتبين بهذا الحديث اختصاص كل دار بسمات معينة من الناس، فانظر لنفسك -يا عبد الله- في أي فريق تكون، أسأل الله أن يرحمني وإياكم.
أيها المسلمون: ليست المأساة العظمى فقط في دخول النار -عياذًا بالله تعالى-، وإنما المصيبة الأعظم تكمن في الخلود والبقاء الأبدي في النار، قال الله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [هود: 106-107]، فما أسوأ العذاب حال استمراره!!.
وإذا بقوا في النار تذكر أحدهم أن كان يخلّص أموره في الدنيا بالرشاوي وبدفع المال، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [المائدة: 36، 37]، ولا ينفع هذا في الآخرة، وهل يغني المال عن إنسان؟! أو يخفف عنه هناك؟!.
في المقابل –أيها المباركون- يخلد أهل الجنة في النعيم المقيم، والظل الظليل، قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود: 108]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا صَارَ أهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أهْلَ الْجَنَّةِ لا مَوْتَ، وَيَا أهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحاً إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أهْلُ النَّارِ حُزْناً إِلَى حُزْنِهِمْ" [أخرجه البخاري : 6548، ومسلم : 2850]، نعوذ بالله من حسرات باقية، وندم لا علاج له.
عباد الله: ينبغي للعبد الموفق عندما يعلم هذا كله أن يبادر إلى سلوك الطريق إلى الجنة هو سلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة بطاعة الله ورسوله، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [النساء: 13]، وليس دخول الجنة فقط هو أمنية المؤمن، بل الوصول لقمتها مع النبيين والشهداء والصالحين، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء: 69، 70].
وثبت في السنة أيضًا أن طاعة الله ورسوله هي سبيل النجاة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أبَى". قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: "مَنْ أطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى" [أخرجه البخاري : 7280، ومسلم: 1835].
أيها المسلمون: وإذا لزم العبد طريق النجاة لزمه الفرار من سائر الطرق إلى النار، فالطرق إلى النار كثيرة ويجمعها الكفر والشرك ومعصية الله ورسوله، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) [النساء: 14]، فاحذر -أخي- من أن يسجنك النار ويحبسك في جهنم، نعم فإنه لن يخلد في النار إلا من حبسه القرآن، قال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) [المائدة: 72]، نعوذ بالله من الشرك به.
وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "أتَى النبي -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ فَقَالَ: "مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِالله شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ" [أخرجه مسلم: 93]، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
أيها الإخوة: دعونا نتأمل ماذا كسب هؤلاء المجرمون في الدنيا؟! وأيّ شقاء يعقب الكفر بالله ومعصية الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؟! وأي خسار وهلاك وضلال فوق دخول جهنم والعياذ بالله؟! وأيّ خزي وشماتة حلَّت بأعداء الله ورسوله ودينه؟!
إن أمام كل كافر، وأمام كل عاصٍ، عذاب وإهانة؛ جزاء إعراضهم عن الدين، وانتهاكهم حرمات الله، وعدم المبالاة بأوامره. ولا تحسبن أنهم سعداء في الدنيا، فإن هؤلاء أشقى الخلق إطلاقاً، هم الأشقى في الدنيا بأرواحهم الخاوية الميتة، وهم الأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى، وهؤلاء لا ينتفعون بذكرى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) [الأعلى: 9-13]، والنار الكبرى هي نار جهنم، الكبرى بشدتها، والكبرى بمدتها، والكبرى بضخامتها، والكبرى بإحراقها. فلا مَنْ فيها يموت فيجد طعم الراحة، ولا هو يحيا في أمن وراحة، إنما هو العذاب الخالد، الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى أحسن أمانيه.
فلله كم حجم هذا العذاب الذي الموت ألذ شيء يتمناه الإنسان للفرار منه، والنجاة من هوله وألمه؟!
أيها الإخوة: ويوم القيامة يصل كل إنسان إلى دار إقامته، التي يصلها بعمله، وإلى ما أعد الله له من النعيم أو العذاب، فللمؤمنين دار النعيم، وللمكذبين بالساعة عذاب جهنم، وقد سُعِّرت ودَبَّت فيها الحياة، فإذا هي تتغيظ وتزفر فيسمعون زفيرها وتغيظها، وهي تتحرق عليهم، وتصعد منها الزفرات غيظاً منهم: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) [الفرقان: 11، 12]، وكيف حالهم إذا وصلوا إليها؟، وكيف حالهم إذا دخلوا فيها؟ (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) [الفرقان: 13، 14].
وتأمل -يا عبد الله- هل ذلك السعير، وذلك الزفير، وذلك العذاب خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون؟ (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا) [الفرقان: 15، 16].
نسأل الله رضاه والجنة، اللهم جنبنا النار وحرها وغصصها، وكل ما قرب إليها من قول أو عمل، إنك على كل شيء قدير، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: احذروا أسباب العذاب، وتوقوا الشرك والعصيان، والبدع وكبائر الذنوب، واعلموا أن عذاب الله شديد لكل كافرٍ، لكل مشركٍ، لكل عاصٍ، لكل مجرمٍ، لكل مفسدٍ، لا يمكن أن يفتديه الإنسان بالبنين والزوج والأخ والعشيرة، ومن في الأرض جميعاً: (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ) [المعارج: 11-14].
إن هذا المجرم من الهول والرعب الذي يراه يود لو يفتدي من عذاب النار بأعز الناس عليه، ممن كان يفتديهم بنفسه في الحياة ويناضل عنهم، ويعيش لهم. بل إن لهفته على النجاة لتُفقده الشعور بغيره على الإطلاق، فيود لو يفتدي بأهل الأرض جميعاً لينجو ويفلت من العذاب. فما أعظم كربه؟! وما أشد فزعه؟! ولكن أنى له من الإفلات فهو محاصر بالعذاب (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) [المعارج: 15-17]، ألا ما أخطر الحال والمقام؟! نعوذ بالله من ذلك.
تأمل -يا عبد الله- فإنه مشهد مخيف، تطير له النفس خوفًا بعد ما أذهلها كرب موقف الحشر وهوله، فقد أعد للمجرمين ناراً تلظى وتحرق، وتنزع الجلود عن الوجوه والرؤوس، ومقامع تكسر الهامات، وغساق ينشب في الحلوق، وطعام الزقوم والغسلين، وثياب من نار، وفرش من نار، وسلاسل وأغلال من نار، وسجن مظلم.
هذه النار تدعو كل من أدبر وتولى وعصى وأعرض، تدعوه كما كان من قبل يُدْعَى إلى الهدى فيدبر ويتولى، ولكنه اليوم إذ تدعوه جهنم لا يمكن أن يُدْبِر ويتولى، ولقد كان من قبل مشغولاً عن الدعوة بجمع المال بأيّ وسيلة، وحفظه في الأوعية، وغيره من مشاغل الدنيا وشهواتها، فأما يوم القيامة فعندما يُدْعَى من جهنم وتطلبه أمه الهاوية فإنه لا يمكن أن يلهو عنها، ولا يملك أن يفتدي بما في الأرض كلها منها، ولو جاء بذلك كله ما تقبل منه فليس هذا مكانه، وليس هذا وقت قبوله.
أيها الإخوة: ما أخسر من جمع المال في الأوعية، وصرفه فيما حرم الله، إلى جانب الكفر والتكذيب والمعصية، وما أشد عذابهم عند ربهم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [المائدة: 36-37].
عباد الله: إن الذي يسكن في أرض الله، ويأكل من رزق الله، ويتمتع بنعم الله، ثم يكفر بالله، ويشرك به، ويعصي أمره، ويعاند رسله، ويحارب أولياءه، ويصد عن سبيله، لجدير بكل عقوبة جزاء كفره ورده الهدى: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) [ق: 24-26] فتأمل هذه الآية فإن فيها ست صفات اتصف بها هذا المعذب، فهو (كفّار، عنيد، منّاع للخير، معتدٍ، مريب، مشرك) نسأل الله السلامة والعافية.
وعندها يبحث عن علة وحجة، فيختصم هو وقرينه من الشياطين، ويحيل الأمر عليه، وأنه هو الذي أطغاه وأضله، فيقول قرينه الشيطان: لم يكن لي قوة أن أضله وأطغيه، ولكن كان في ضلال بعيد، اختاره لنفسه وآثره على الحق كما قال -سبحانه-: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) [ق: 27]، ولكن الخصومة لا تنفع في ذلك الزمان والمكان، فيقول الرب موبخاً لهما: (قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) [ق: 28].
أيها المسلمون: احمدوا الله على نعمة الإسلام، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون، واحذوا من مصير الكافرين، فإن الكفار والمشركين والمنافقين مخلدون في النار، قال الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [التوبة: 68].
وأما عصاة الموحدين فهم تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم ثم أخرجهم إلى الجنة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء: 48] نعوذ بالله من الشرك كله، ظاهره وباطنه، ونسأله سبحانه أن يعرفنا به وأن يجعلنا من الموحدين.
أيها الإخوة: عودوا إلى ربكم، واعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، واستقيموا على شرعه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
اللهم نجنا من النار ومن حرها، وجنبنا سوء أحوال أهلها، واجعلنا من الناجين يوم القيامة.
اللهم إنا نعوذ بك من النار ومن حال أهل النار، ومن حر النار، ومن عذاب النار، ومن الخزي والبوار، ونسألك يا الله، يا أرحم الراحمين, أن تجيرنا من النار، اللهم حرم أجسادنا على النار، ولحومنا على النار وأبشارنا على النار، وحرمنا يا مولانا على النار! وآباءنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين