الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
ومما تتميز به الجنة أنه أهلها يلبسون أفخر أنواع الحلي والزينة، نعم أخي حُلي أهل الجنة رجالاً ونساءً الذهب والفضة, واللؤلؤ, والزبرجد, ولباسهم الحرير, وثياب خضر من سندس وإستبرق...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده المؤمنين نزلاً، ونوّع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سُبلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الذي شمر للحاق بالرفيق الأعلى والوصول إلى جنات المأوى، ولم يتخذ سواها شغلاً؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- فتقوى اللهِ وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين، وهي مستمسك الصالحين، وسبيل النجاة في الدنيا ويومِ الدين.
فيا عباد الله: لقد خلقنا الله -عز وجل- لعبادته، وبيَّن لنا الغرض الذي من أجله أوجدنا على ظهر هذه الحياة، فقال -عز وجل-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56-58]، وقال -عز وجل-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) [النساء:64]، ووعدنا إن نحن أطعناه واستجبنا لأمره في الدنيا؛ بالسعادة في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة.
فأما في الدنيا فيقول -عز وجل-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97]، والحياة الطيبة التي يعنيها القرآن هي حياة القلب، والقلب لا يمكن أن يهدأ ويستريح ويبتعد عن القلق و الحيرة والاضطراب والضلال إلا في ظل الإيمان بالله.
أما في الآخرة فقد قال الله -عز وجل- بعد هذه الآية: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97] في الجنة ونعيمها، وحورها وقصورها، وبساتينها وأنهارها، ففيها ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرءوا إن شئتم: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17] وكل ما خطر في ذهنك فالجنة ونعيمها بخلاف ذلك، نسأل الله أن يجعلنا وآبائنا وأمهاتنا من أهلها.
عباد الله: ما أعظم وصف الجنة! وما ألذ نعيمها! وما أطيبها وأطيب أهلها! وقد وصفها لنا خالقها وهو أحسن الخالقين وصفًا عظيمًا في القرآن العظيم، وكمّل لنا هذا الوصف وبيّنه نبينا -صلى الله عليه وسلم-؛ حثًّا للمؤمنين إلى المسارعة في الأعمال الصالحة، وترغيبًا للصالحين في المثابرة والاجتهاد في العمل الصالح.
أيها الإخوة: ومن أوصاف الجنة التي جاءت في القرآن والسنة: وصف أرضها وبناء قصورها، وفي هذا يقول ربنا -سبحانه-: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72]، فهي مساكن طيبة خالية من كل مؤذٍ وضارّ، قال الله تعالى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) [الزمر: 20]، فلا يخلف الله وعده لعباده الطيبين بدخول الجنات والفوز بأرفع الدرجات.
وقد شوّق النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى الجنة فوصف لهم شيئًا منها حثًّا وترغيبًا في الصالحات، ومن ذلك ما جاء في حديث الإسراء والمعراج، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أتَى بِي السِّدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ اُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ" [أخرجه البخاري : 3342 ، ومسلم : 163]، فتخيل نفسك يا عبد الله في هذا المكان، في أرفع مكان في جنة عدن، فاعمل صالحا لتكن من أهلها، شملنا الله وإياكم بعفوه ومغفرته.
ولما سأله أصحابه فقالوا: يا رسول الله: الجنة ما بناؤها؟ قال: "لَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَلَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الأَذْفَرُ وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ وَتُرْبَتُهَا الزَّعْفَرَانُ مَنْ دَخَلَهَا يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ وَيَخْلُدُ لَا يَمُوتُ لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ" أخرجه أحمد والترمذي [صحيح سنن الترمذي: 2050] فتأمل إجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- على سؤالهم لتعلم حرصه -صلى الله عليه وسلم- على غرس كل جميل في نفوسهم وتشجيعهم على العمال الصالح للفوز بهذه الدرة الثمينة والجوهرة النفيسة، نسأل الله ألا يحرمنا من فضله.
عباد الله: ولأهل الجنة خيام رائعة ليست كخيام الدنيا، وهذه الخيام غير الغرف العالية، والقصور الفخمة، بل هي خيام في البساتين، وعلى شواطئ الأنهار، قال الله تعالى: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) [الرحمن: 72]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلاً، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا" [أخرجه البخاري: 4879، ومسلم: 2838].
عباد الله: وأهل الجنة يوم القيامة عندما تطأ أرجلهم أرض الجنة يعرفون مساكنهم كما كانوا يعرفون بيوتهم في الدنيا، فيذهب كل منهم إلى قصره ومنزله في الجنة، قال الله تعالى: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد: 5، 6]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا، أذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ فِي الْجَنَّةِ أدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا" [أخرجه البخاري 2440] نسأل الله أن يهدينا ويصلح بالنا وأحوالنا والمسلمين، إنه هو الجواد الكريم.
عباد الله: ومما تتميز به الجنة أنه أهلها يلبسون أفخر أنواع الحلي والزينة، نعم أخي حُلي أهل الجنة رجالاً ونساءً الذهب والفضة, واللؤلؤ, والزبرجد, ولباسهم الحرير, وثياب خضر من سندس وإستبرق، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) [الحج: 23]، لما ابتعدوا عن زينة الدنيا وانشغلوا بالأعمال الصالحة حلاهم الله في الجنة بأفضل النعيم.
أيها الفضلاء: أما أواني أهل الجنة فهي من الذهب والفضة في صفاء أفضل أنواع الزجاج اللامع، قال الله تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة: 17، 18]، وقال تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الزخرف: 71]، وبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمال أحوال أهل الجنة وآنيتهم الرائعة، فقال -صلى الله عليه وسلم- : "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ" [أخرجه البخاري : 7444، ومسلم : 180].
أيها المسلمون: وأهل الجنة رجالاً ونساء يخدمهم ولدان مخلدون, لا يهرمون ولا يتغيرون, كأنهم لؤلؤ منثور, ومن حسنهم وبهائهم كأنهم لؤلؤ مكنون, يدورون عليهم بالخدمة وبما يريدون وقضاء الحاجات في جميع الأوقات، لا ينتظرون منهم مكافأة ولا أجرًا، قال تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة: 17، 18].
أيها المسلمون: وأما عن طعام أهل الجنة فهو كل ما لذ وطاب من أنواع الفواكه, وأنواع اللحوم, وغيره مما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, يطاف به عليهم بصحاف من ذهب وفضة، قال الله تعالى: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [الزخرف: 70، 71]، وأكلها دائم غير منقطع، فلا مجاعة ولا قلق على الرزق ولا عمل مكدّ، بل جنة عالية بالخيرات عامرة، قال الله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) [الرعد: 35].
ونعيم الأكل ليس قوتًا فقط، بل هناك الفواكه واللحوم المنوعة، قال الله تعالى: (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة: 20، 21]، ولما صاموا في الدنيا وأطالوا الصيام، وعفوا عن الأكل الحرام، كان جزاؤهم عظيمًا، قال الله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ". قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: "جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ" [أخرجه مسلم : 2835].
أيها الإخوة: وليس أكل أهل الجنة ولا شربهم كأكلهم في الدنيا، بل يزدادون رغبة وقوة في الطعام والشراب؛ إكرامًا لهم، والدليل على ذلك أنه جاء رجل من اليهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَقَالَ لأِصْحَابِهِ: إِنْ أَقَرَّ لِي بِهَذِهِ خَصَمْتُهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : "بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالشَّهْوَةِ وَالْجِمَاعِ"، قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "حَاجَةُ أَحَدِهِمْ عَرَقٌ يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ فَإِذَا الْبَطْنُ قَدْ ضَمُرَ". [أخرجه أحمد : 19269، وقال الأرناءوط: حديث صحيح] وهذا من إكرام الله لهم وجميل تنعمهم في الجنة.
أيها الأحباب الكرام: وإن أول طعام يأكله أهل الجنة هو زيادة كبد الحوت، ففي الصحيح أن عبدالله بن سلام -رضي الله عنه- سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ فقال: "زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ" [أخرجه البخاري 3329].
وجاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- , فقال اليهودي: فَمَنْ أوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قال: "فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ". قال الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قال: "زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ". قال: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قال: "يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أطْرَافِهَا". قال: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قال: "مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا". قال: صَدَقْتَ. [أخرجه البخاري : 6520 ، ومسلم : 2792]، فانظر هذا النعيم المقيم، ولكن هل عملنا نحن لننال ما نالوا ونفوز بما فازوا؟!
وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما الكوثر؟ قال: "ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللهُ يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ فِيهَا طَيْرٌ أَعْنَاقُهَا كَأَعْنَاقِ الْجُزُرِ، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذِهِ لَنَاعِمَةٌ، قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: أَكَلَتُهَا أَحْسَنُ مِنْهَا" [أخرجه أحمد والترمذي (صحيح سنن الترمذي: 2063)].
وجاء أعرابي فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر شجرة في الجنة لا أعلم في الدنيا شجرة أكثر شوكاً منها -يعني الطلح- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فَإنَّ اللهَ يَجْعَلُ مَكَانَ كُلِّ شَوْكَةٍ مِثْلَ خِصْيَةِ التَّيْسِ المَلْبُودِ -يعني المخصي- فيها سَبْعُونَ لَوْناً مِنَ الطَّعَامِ لا يُشْبِهُ لَوْنُهُ لَوْنَ الآخَر" [أخرجه الطبراني في الكبير (7: 130)، وصححه الألباني، انظر السلسلة الصحيحة رقم: 2734].
أيها الإخوة: أما عن شراب أهل الجنة، فإنهم يشربون من أنهار الماء الصافي غير الآسن, وأنهار اللبن المصفى, وأنهار الخمر الذي لا يشبه خمر الدنيا, وأنهار العسل الرائق, والرحيق المختوم, والشراب الممزوج تارة بالكافور, وتارة بالزنجبيل, وتارة صِرْفاً من غير ممزوج، يطوف به عليهم ولدان مخلدون, بأكواب وأباريق من ذهب وفضة، قال الله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد: 15]. وقال الله تعالى: (يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) [الصافات: 45-47].
والجزاء من جنس العمل، لما عفوا عن الحرام في الدنيا، كافأهم الله في الآخرة وأحسن لهم الجزاء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ" [أخرجه البخاري: 5426، ومسلم: 2067].
ومن أعظم ما يشرب منه المؤمنون في الآخرة نهر الكوثر، من شرب منه فاز بالرضوان ونجا من العطش، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ" أخرجه الترمذي وابن ماجه [صحيح سنن الترمذي: 2677].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "بَيْنَمَا أنَا أسِيرُ فِي الْجَنَّةِ، إِذَا أنَا بِنَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِباب الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ، الَّذِي أعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِيبُهُ، أوْ طِينُهُ، مِسْكٌ أذْفَرُ" (أخرجه البخاري : 6581)، ووصف النبي -صلى الله عليه وسلم- حوضه فقال -صلى الله عليه وسلم- : "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلا يَظْمَأُ أبداً" [أخرجه البخاري : 6579، ومسلم : 2292]، نسأل الله أن يسقينا من يده -صلى الله عليه وسلم- شربة لا نظمأ بعدها أبدًا.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي الأعلى الكامل في الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- والزموا أوامر ربكم، وتعلموا أحكام دينكم، وما ينجيكم من عذاب ربكم، تدخلوا الجنة، وتنالوا عنده الدرجات والمنازل العالية.
عباد الله: أما أشجار الجنة وثمارها وفواكهها فهي كثيرة متنوعة, مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والأحجام، قال الله تعالى: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) [الإنسان: 14]، وقال الله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [المرسلات: 41، 42]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا كَأنَّهُ قِلالُ هَجَرَ، وَوَرَقُهَا كَأنَّهُ آذَانُ الْفُيُولِ، فِي أصْلِهَا أرْبَعَةُ أنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَسَألْتُ جِبْرِيلَ فَقال: أمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ" [أخرجه البخاري : 3207، ومسلم : 162].
وتأمل معي -يا عبد الله- عظمة أشجار الجنة، ومن ثم عظمة خالقها العظيم -سبحانه-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا" [أخرجه البخاري : 6553، ومسلم : 2828]، ليس هذا فحسب بل أصول الشجر من الذهب الخالص، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "مَا فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلاَّ وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ" أخرجه الترمذي [صحيح سنن الترمذي: 2049].
أيها المسلمون: لا يستغني الخلق في الدنيا عن الأسواق يشترون ما يشتهون، ويبيعون ما يريدون، هذا في الدنيا، فهل في الآخرة أسواق؟ وما صفتها؟!
نعم -أخي- الكريم في الجنة سوق لكن لا بيع فيه ولا شراء, يأخذ منه المرء ما شاء بلا عوض ولا ثمن, نصبته الملائكة لأولياء الله وحزبه الصالحين, فيه من التحف والهدايا, وما تحبه النفوس مما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر، وهو سوق تعارف بين أهل الجنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا، يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أهْلِيهِمْ وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أهْلُوهُمْ: وَالله! لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً، فَيَقُولُونَ: وَأنْتُمْ، وَالله! لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالاً" [أخرجه مسلم : 2833]، شملني الله وإياكم بمغفرته وألحقنا بالصالحين من عباده.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, ولا إلى النار مصيرنا, واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا.